الحاج موسى سمير.. الاتحادي الذي ترأس أول مجلس بلدي للجديدة
المصطفى اجماهري
لا أدعي أنني كنت على معرفة قديمة بالراحل الحاج موسى سمير (المتوفى في نهاية سنة 2018)، فنحن من جيلين مختلفين. لكن يمكن أن أصف علاقتي به علاقة كاتب بقارئ. فقد تعرفت عليه حينما شرعت في البحث في تاريخ الجديدة، حيث كان الراحل يقتني مؤلفاتي ويقرأها بكثير من الحب و الاهتمام. كما كان يشجعني على الاستمرار في البحث والكتابة في هذا المجال الذي لا يغري الباحثين كثيرا. هكذا اكتشفت الحاج موسى إنسانا مولعا بالقراءة. بل إن الرجل لم يكن قارئا عاديا بل قارئا نهما ومتابعا حصيفا يتردد على أكشاك المدينة ليتزود بالجرائد والمجلات، وكثيرا ما صادفته في هذه الفضاءات.
إن ولع الحاج موسى بوسائل المعرفة ميزة رافقته منذ الصبا وفترة الدراسة، وترسخت في سلوكه طيلة حياته الحافلة بالتجارب والمحطات: فقد تفتق وعيه بحقيقة الحماية الفرنسية في وقت مبكر، وانضم إلى المقاومة، ومارس مهنة التعليم فترة معينة، وترأس أول مجلس بلدي للجديدة بعد الاستقلال، وأطلق مشاريع تجارية، كما انخرط في العمل الإحساني والخيري.
وفي الجانب السياسي فقد انتمى الراحل للاتحاد الوطني للقوات الشعبية عند تأسيسه، وترأس باسمه المجلس البلدي للجديدة، ودعم مرشح الحزب بدائرة الجديدة، المقاوم محمد المكناسي، في انتخابات 1963، التي فاز فيها. هذه الحياة الغنية بالعطاء، المنفتحة على الشأن العام من جهة، وعلى المبادرات الحرة من جهة أخرى، هي التي ساعدته على تحقيق مكانته الاجتماعية ورسم مساره الخاص.
ومعلوم أنه في الفترة التي تحمل فيها الحاج موسى رئاسة المجلس البلدي، كانت الجديدة قد أصبحت تابعة إلى عمالة الدار البيضاء. وقد عبر الراحل مع باقي زملائه في المجلس مثل سي أحمد الحطاب، والحاج محمد خشلاعة، بصفتهم ممثلين للسكان، عن انزعاجهم من هذه التبعية منبهين، بمراسلات واجتماعات، لانعكاساتها السلبية على نمو الإقليم. حيث اعتبر المجلس أن أهمية مدينة الجديدة، بساكنة تصل إلى أكثر من 40.000 نسمة، وما تتوفر عليه منطقة دكالة من خيرات يشفع لها أن تكون إقليما مستقلا عن الدار البيضاء. كما اعتبر أن هذه التبعية شكلت في حد ذاتها ضربة موجعة لتقدم المدينة وتطورها. بل إنه أثناء أشغال الدورة الأولى للمجلس البلدي لم يخف أن المدينة والإقليم قد عرفا تراجعا جراء إلحاقهما بالدار البيضاء.
في تلك الفترة أيضا راج في المدينة لعدة أيام مشروع آخر لم يتعد مستوى الإشاعة، ويتعلق الأمر بضم دكالة إلى إقليم آسفي. وكما عبر الحاج موسى عن قلق الساكنة من ضم الجديدة إلى عمالة الدار البيضاء فقد عبر عن ذات القلق من احتمال ضمها إلى إقليم آسفي، معتبرا بأن مثل هذا القرار لو طبق لكان ضرره أكبر، منطلقا في ذلك من كون آسفي تعتبر المنافس الاقتصادي المباشر للجديدة. ومن ثم طالب المرحوم بأن تحظى الجديدة بإقليم خاص لتتمكن من تدبير شؤونها ومعالجة قضاياها بالمعرفة والدراية اللازمتين. وبالفعل فقد وجه الراحل بصفته رئيس المجلس البلدي كتابا بهذا الخصوص إلى السلطات العليا ملتمسا فيه العدول عن ما يروج من إلحاق الجديدة بعمالة آسفي.
وقد نشرت جريدة “لو بوتي ماروكان” الصادرة بالفرنسية في الدار البيضاء، في عدد لها يعود لنهاية سنة 1960، مراسلة تحت عنوان “الجديدة مدينة تختنق. والحل أن تصبح إقليما خاصا”، جاء فيها أن الراحل الحاج موسى بعث باسم المجلس البلدي إلى جلالة الملك ملتمسا ورد فيه ما يلي:
“إنه لا يسعنا إلا أن نعبر لكم عن موجة القلق واليأس اللذان يخيمان على مجموع ساكنة منطقتنا سواء منها الحضرية أو القروية، فمنذ إلحاقهم بإقليم الشاوية، تعرف دكالة اختناقا قويا. ومن أجل معالجة هذا الوضع، فقد ارتأينا، جلالة الملك، أنه من المفيد أن نلتمس تدخلكم الأبوي لتعود دكالة، وهي جزء من مملكتكم العزيزة، إقليما خاصا”.
وأرفقت الرسالة بمذكرة تقديمية عددت مجموعة من الإمكانيات الصناعية، والسياحية، والفلاحية، المتعلقة بالميناء، والموقع الجغرافي والتي من شأنها أن تدعم ملتمس ترقية الجديدة إلى مرتبة إقليم في حد ذاته يمتد من البئر الجديد إلى الواليدية ومن الجديدة إلى منطقة امطل.
لكن التحول الحاسم في حياة الحاج موسى سمير سيأتي مباشرة بعد نهاية التجربة التي قادها على رأس المجلس البلدي للجديدة، باسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وذلك على إثر بروز مستجدات في الحقل السياسي المغربي مطلع الستينيات. طبيعة تلك المستجدات، وما ميز المرحلة من توترات، جعلت الرجل يتوارى عن الشأن العام وينأى بنفسه عن الأضواء. وقد حاولت، في مناسبات، أن أسبر بعض أغواره لكنني لم أفلح.
وهنا أريد أن أسرد ما حصل لي معه سنة 2008. كنت وقتها بصدد جمع شهادات من قدماء المدينة لأضمنها في كتابي الصادر تحت عنوان “ذكريات مغربية. الجديدة زمن الحماية”، وكانت بعض شخصيات المدينة مثل سي مصطفى الناصري، وسي مصطفى بن الشرقي، وذ. أحمد خشلاعة قد نصحوني بأخذ شهادة من الراحل حول ما عاشه بالجديدة زمن الحماية. وفعلا ذهبت إليه صحبة النقابي المختار تيمور حيث جالسناه في محيط مسجد القدس، بكدية بندريس. أعطيته فكرة عن مشروع العمل الذي كنت بصدد إنجازه. مقدما له ما اعتبرته المسوغان الرئيسيان لطلب شهادته، وهما: سمعته الطيبة كمقاوم، وموقفه التقدمي من قضايا مدينته وبلده أثناء رئاسته للمجلس البلدي. استمع لي وفي نهاية حديثنا وعدني خيرا. لكن مرت أيام دون رد فعل منه. ولما أعدت الاتصال به لاحظت أنه كان محرجا كمن يود الاعتذار. فقد كان الرجل لبقا يختار كلماته بعناية. أحسست شخصيا بأنني ربما قد اقتحمت حياته الخاصة. وفعلا، وكما فهمت، فقد كان ما طلبته منه من باب المستحيل. كان الرجل حينذاك بين أمرين أحلاهما مر: من جهة فهو يقدر عملي ويود ترضية خاطري، ومن جهة أخرى لم يكن يرغب في البوح لي بذكرياته. قال لي:
– سي مصطفى اسمح لي، يؤلمني قلب مواجع الماضي.
وفعلا أوضح لي موقفه الشخصي من عدم الإدلاء بشهادته. وطبعا تفهمت اختياره، ثم سرعان ما طوينا هذه الصفحة وبقينا أصدقاء.
لقد كان الفقيد من الطاقات الحية التي أنجبتها الجديدة، معروفا بتواضعه الكبير، وبوفائه لقناعاته الاتحادية السابقة، وبتشبعه بقيم الإسلام السمحة.
<
p style=”text-align: justify;”>تغمده الله برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جنانه.