ذكرى ثلاثة شعراء مغاربة رحلوا إلى عالم الخلود
عبد الجبار العلمي
ذكرى ثلاثة شعراء كانوا صادقين في شعرهم وحياتهم . كانوا شعراء في شعرهم وشعراء في سلوكهم وسمو نفوسهم. هم ممن يحق أن نسميهم بالشعراء النبلاء.
1 ـ أحمد المجاطي:
رحم الله أستاذنا الشاعر المجيد أحمد المجاطي آخر الشعراء المحككين المجيدين. لا نجد في ديوانه الفروسية كلمة في غير موضعها ، أو النزول إلى النثرية في أي بيت من الأبيات في كل قصائد الديوان. وهذه ميزة يتميز بها الشاعر عن بعض كبار الشعراء المشارقة حيث نجدهم ينزلون بأجنحة شعرهم حتى يمسوا أرض النثرية في قصائد كاملة أو أجزاء منها، ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر الشاعر بدر شاكر السياب في أشهر قصائده “أنشودة المطر”، حيث يبدأ بداية تسمو إلى ذرى شعرية سامقة، لكنه يأخذ في النزول منها إلى نثرية لا يخطئها ذوق الناقد الموضوعي الذي يبحث عن الشعر لا عن الإيديولوجية، والشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي في قصيدة مثل في”العام السادس عشر” وغيرها في ديوانه “مدينة بلا قلب”.
ما أجود وأجمل قصيدته القصيرة “هذا أنا وهذه مدينتي” البليغة في دلالتها على المدينة القاسية وغربة الإنسان فيها. بمعنى أن في الديوان الجيد من الشعر والأقل جودة وشعرية، والبياتي نفسه في شعره الذي يهيمن عليه الهم الإيديولوجي. فقصيدة “سوقِ القرية” تنزل بنا حقا إلى نثر الحياة اليومية في أسواقنا، ورغم استخدام أمل دنقل لحكاية مثل زرقاء اليمامة ورمز عنترة العبسي في قصيدته الشهيرة “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” التي كتبها بصدق ومرارة بعد هزيمة يونيو 1967، رغم ذلك فإن النثرية تطغى على الكثير من مقاطعها. الشاعر أحمد المجّاطيـ رحمه اللهـ كانت قصائده مثل (الحوليات) التي أبدعها القدماء، فشعره جيد كله في ديوانه “الفروسية”. وهذا رأي شخصي نابع من قراءتي.
2 ـ الشاعر محمد الميموني:
أصر الشاعر الكبير الإنسان النبيل محمد الميموني ـ رحمه الله ـ طيلةَ تجربته الغنية في الإبداع والحياة، على التشبث بالتفاؤل والحُلْم بغد أجمل وأفضل للوطن والإنسان، فحلم بآخر أعوام العقم، ومر بطريق النهر الواهب للأرض الخيرَ والنماء، وظل يحلم بزوال زمن الوهم تحت شجر مثمر بالخير رغم ظله الخفي، وأتانا بالجديد من خلال سرده الممتع الشيق في كتاب “كأنها مصادفات” المفعم بالصدق والأمانة مع النفس ومع الغير، وفي روايته المميزة “عودة المعلم الزين”، وعرَّف الأجيال الجديدة بكوكبة من الشعراء المعاصرين في كتابه القيم “في الشعر المغربي المعاصر / سبع خطوات رائدة”.
كان الشاعر محمد الميموني حقاً، دائم التجدد في عطائه، دائم الحلم بالأجمل والأفضل في عالم الإبداع وعالم الإنسان. رحم الله شاعرنا الكبير رحمة واسعة، وعزاؤنا جميعاً، أنه من زمرة الباقين الخالدين لما قدمه في حياته من جهود مخلصة في مجالات متعددة من أجل مجتمع مغربي متقدم، ولما خلفه من إبداع أدبي إنساني رفيع شعراً ونثراً، سيظل راسخاً رسوخ جبال بلدته شفشاون، وشامخا شموخ قممها الباسقة، متحدياً مثلها الزوال والفناء. لذلك لا أقول لك ياسيدي محمد: وداعاً لأنك باق بين ظهراني الزمان والمكان. ستلقاك الأجيال وأنت تتجول بين جبلي غرغيز ودرسة ، وسيصادفونك وأنت ترتقي درجات “باب العين”، متجها إلى حومة “باب السوق”، حيث سيتعرف عليك أطفال يلعبون بحذاء بيتكم القديم.
3 ـ الشاعر احمد الجوماري:
يعتبر الشاعر أحمد الجوماري من كوكبة الشعراء المؤسسين للقصيدة الحديثة في المغرب إلى جانب زميله الشاعر المجيد أحمد المجاطي وغيره، أمثال محمد السرغيني وعبدالكريم الطبال ومحمد الميموني ومحمد الخمار الكَنوني. وقد كان حريصا في شعره على الجمالية والشاعرية البعيدة عن المباشرة رغم التزامه بقضايا الواقع المغربي وما يمور فيه من التناقضت والظلم الاجتماعي.. لكنه لم ينل ما كان جديراً به من تقدير وتكريم رحمه الله. حقا من غاب، غاب حقه في هذا البلد .. لماذا لم تجمع أعماله الشعرية في مجلد واحد (الأعمال الكاملة) من لدن الوزارة الموكول إليها الشأن الثقافي، إسوة بغيره من الشعراء والكتاب الآخرين؟ لماذا لم تف الوزارة بوعدها، كما ذكر نجلُه الأخ يونس الجوماري؟ والمعروفُ أن كل طبعات دواوينه نفدت من زمن، وبنفادها ستطوي يد النسيان تراثَ شاعر له تجربة متميزة في المشهد الشعري المغربي المعاصر، و سيغيب عن صفحات تاريخ الأدب العربي في المغرب شاعر له مكانته وقامته الشعرية التي لا تقل عن قامات شعراء جيله في المشرق والمغرب.
الشاعر أحمد الجوماري لم ينل ما يستحقه من تقدير وتكريم، باستثناء تسمية شارع من شوارع حي المعاريف في عهد المجلس البلدي الاتحادي.
قضيت اليوم في قراءة ديوان الشاعر “أوراق الليل “، فقرأت شعراً ذا رسالة ، لكنَّه لا ينزل بأجنحته إلى النثرية أو المباشرة ، ونمثل لذلك بقصيدة “يسألونك عن الليلِ” من المتقارب، يقول فيها:
يظل يطارده الليل، والليل ذئب ضرير ْ
يُهاجم، كالبحر، يخنُقُ عنْقَ الحبيبة
يغلق في نشوة عطر دمٍ، تفجر من شفتين مقطعتين
فيقوم أشباحَه المرعباتِ ..
يُقمن احتفالاتهن، طقوس عباداتهن
قبيل اغتصاب المساءْ!
وأحْسَب أن كلَّ قصائدِ الديوان من القصائد المحككة التي يصعبُ عليك أن تستبدل بكلمة من قصيده كلمة أخرى، كما بدا لي من قراءتي الأولية. هذا فضلا عن نظرته الثاقبة إلى الواقع واستشرافه إن لم نقل تنبأه بالمستقبل العربي والقومي المتردي المأزوم المهزوم الذي يسوده القمع وقانون القوة الغابوي . يقول في قصيدته “السيف”:
طوى القلبُ تلك التي أشرعتْ ذات يوم نوافذَها للريح
ودلتْ في آخر ذاك المساء الجميل
عناقيد أسرارها للصباح
لماذا هي الآن مظلمةٌ مياه الخليج – المحيط؟ …
سألنا فقيل لنا:
الصمتُ حكمةُ هذا الزمان
بحثنا فقيل لنا:
السيفُ سلطان هذا الزمان.
والديوان مذيل بقراءتين مفيدتين للشاعر المرحوم عبدالله راجع و الناقد الباحث الرصين نجيب العوفي.
عودتي إلى قراءة ديوان الشاعر” أوراق الليل”، الذي كان منزويا هو وزميله “أشعار في الحب والموت” في مكتبتي المبعثرة، أكدت لي بالملموس قيمة هذين الديوانين في المشهد الشعري المغربي والعربي، وأنهما من أجمل دواوين الشعر المغربي المعاصر وأجودها بناءً ودلالةً، ولا يقل مقامه عن الدواوين الشعرية للشعراء المشارقة الذين يعتبرون من رواد الشعر العربي المعاصر.
Visited 32 times, 1 visit(s) today