الشعر العامي في ذاكرة الناس.. رياحين بقرب رابية من حطب (1-2)

الشعر العامي في ذاكرة الناس.. رياحين بقرب رابية من حطب (1-2)

فاطمة حوحو

يقول البعض أن أجمل الشعر هو ما نطق به الناس البسطاء، فهو شعر عذب وصادق لأنه نابع من أفراحهم وأحزانهم، وهو تلقائي وسريع، بعيد عن التركيب المعقد، يدخل إلى القلوب فيشجيها. ولأن الشعر هو الحياة المبطنة للشعوب والأفراد، نراه على أشكال عدة، لعل أبرزها الشعر الشعبي الذي برز في الأهزوجة والزجل، وفي الأغاني والمواويل، ليشكل تراث الشعوب ويختزل ثقافتها. والتراث كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري: “حاضر فينا، في ماضينا نحن أم ماضي غيرنا، القريب منه أم البعيد”.

الشِّعر الشعبي وليد العاميّة والشعريّة في آن معاً. هو شعر أنشده الزجّالون ورواه الرّواة وحفظ في ذاكرة الناس قرونا عديدة، ولم يحظ باهتمام أو تدوين إلاّ في أيّام الأندلس، حيث هناك وجد المناخ المناسب كفنٍّ شعريّ فأكثر فيه الأندلسيون نظماً وقرضاً وتصنيفاً، ولعل أشهر هؤلاء “ابن قزمان”.

وإن كان الأندلسيون يُعتبرون السبّاقين في هذا المجال، إلاّ أنّنا لا نعرف شعباً كالشعب اللّبناني عنده ثروة ضخمة وفنون متعددة من ألوان الشِّعر الشعبي. ولعلّ في طبيعة لبنان الساحرة، وفي لغته العاميّة المموسقة الطيّعة يكمن سر انتشار وازدهار هذا اللّون.

يمكن تعريف الشعر الشعبي أنه الشعر الّذي يتكلم بلهجة أهل البلد، وهو قديم ومتداول، وإذا كان من حيث الكم أقل من الشعر الفصيح، لكنه كان ولا يزال أقرب إلى نفس الناس ومفاهيمهم، لذلك نجد جمهور الشعر الشعبي جمهوراً انفعالياً، والمثال على ذلك جمهور الزجل اللبناني أو الشعر النبطي في الجزيرة والخليج، أو أنواع العتابا والموَّال في منطقة الهلال الخصيب، أو الشعر المسمى الحميني في اليمن، أو الشعر الملحون في المغرب العربي.

يستعمل الشعر لغة الناس اليومية لا لغة الكتب، ولا يستعلي بالمعنى أو الموسيقى على العامة، بل يسير ويبسِّط ويقول ويعيد القول، ويبارز أيضاً، في الارتجال والتحدي، ويرافقه الدف والعود وفرق تصاحب الشعراء في الإنشاد، تشعل الحماسة في قلوب الناس، فيغدو مسرح الشعر كأنه مسرح الحياة عينها.

يقول الناقد والأديب اللبناني رئيف خوري أن قيمة الشعر الشعبي تنبع من “كونه شعراً يُحسّ ويعقل ويُصوَّر ويُنغَّم بهذه اللغة العربية العامية التي يتناولها الشعب في يسر وسهولة”.

ويرى جبران خليل جبران أن في المواليا والزجل والعتابا، “إذا ما وُضعت بجانب الفصحى، تظهر أشبه بصور جميلة، وكأنَّها رياحين بقرب رابية من الحطب، أو كسرب من الراقصات الجميلات قبالة مجموعة من الجثث المحنَّطة”.

بدأ الزجل في لبنان مع بعض رجال الدين المسيحي في القرن الثالث عشر الميلادي، من أبرزهم سليمان العكَّاري، كأول زجَّال لبناني، ويليه المطران جبرايل القلاعي، ثم جرجس الجبيلي، والبطريرك يوسف العاقوري. ويقول بطرس الجميِّل أن “الزجل انتقل مع الموارنة من اللغة السريانية إلى العربية، ولهذا الشعر أوزان بالعربية هي نفس أوزان الشعر الفصيح، كالرجز والوافر والسريع”.

ويصفه مارون عبُّود عندما تُلقى قصيدة في حفلة: “تهتز المقاعد والكراسي استحساناً، وتموج الرؤوس كالأغصان تحت أذيال النسيم الولهان”.

وتوسَّع وليم صعب في دراسة الشعر الشعبي في كتابه “حكاية قرن – سيرة ذاتية” في بعض أوزان الشعر الشعبي، فيرى أن بحر الكامل في الشعر الفصيح لا يستخدم في الزجل، والبسيط يستخدم في الشروقي والموال، والوافر يرد في القصيد والعتابا، والمعَنَّى يأتي على وزن الرجز، ولهذا الشعر أنواع كثيرة أخرى، منها: الميجانا والموشَّح والقرَّادي والقصيد وعليادي والموَّال والشروقي والبغدادي والندب والحداء والروزانا والغْزَيَّل، وأبو الزلف والدلعونا والهوَّارة والحوربة والجلوة  والزغاريد، الخ.

والعتابا كلمة مشتقة من “العتاب” الذي يميز هذا النوع من الغناء وتعتبر العتابا من أكثر فنون الأغنية الشعبية انتشارا وأقربها إلى قلوب جمهور الأغنية الشعبية لما تتميز به من جمال في النظم وبلاغة في العرض وعذوبة في الأداء، وقد اختلفت الآراء حول أصل العتابا، فهناك من يقول إن أول من نظم العتابا هي القبائل العربية التي عاشت في العراق ومنها انتقلت إلى بلاد الشام، وبعضهم يرى أن العتابا نشأت في أواخر العصر العباسي عندما انتشرت اللغات العامية وكثر اللحن في اللغة وبعضهم يسرد قصصا أسطورية حول أصل العتابا “وهذه منتشرة في فلسطين”، فعند سؤال عدد كبير من المغنين الشعبيين حول أصل العتابا في نظرهم أجابوا بأن هناك “فتاة أسمها عتاب” تعلق بحبها شاعر وأصبح يتغنى بها مبتدئا الكلام بكلمة عتابا عاتبتني وأنا شبيب.

ورواية أخرى تقول إنها تنتشر في شمال فلسطين في منطقة الشاغور والجرمق، تقول إن هناك أمير تزوج من فتاة جميلة جداً وكان يحبها كثيراً ويخاف أن يراها الناس فأسكنها في غابات الجرمق، وكان يذهب إلى الصيد ويعود إليها في المساء، وذات يوم جاءها صيادون وزوجها غائب فأكرمت وفادتهم وبعد أن انتهوا من الضيافة اختطفوها وذهبوا بها، ولما عاد الأمير إلى بيته ولم يجدها اعتقد أنها هربت وتركته فصار يعاتبها بالشعر ويلومها في الغياب، وصار ينتقل بخيمته من مكان إلى آخر بحثا عنها، وكان كلما يدق أوتار خيمته في مكان ما كان يستخدم أداة الميجانا (وهي مطرقة خشبية تسمى ميجانا) وكان يخاطب المطرقة هذه ويقول لها “يا ميجانا يا ميجانا بالله تقولي كيف حال حبابنا”. وهذه قصة قد تكون أسطورية ولكنها شائعة ومنتشرة بين أوساط الشعب. ويذكر الشاعر والباحث السوري نجيب سمعان في كتابه “عتابا وميجانا” من تراثنا الشعبي أن العتابا تنظم بطريقتين تتكون في الأولى من أربعة أشطر ثلاثة منها متحدة القافية “جناس” مختلفة المعنى أما الشطر الرابع فيختتم بباء ساكنة كما في “العتابا” التالية:

وحق اللي برى الأنام إني

على هجر الوطن ما كنت أني

مهما الضيم جاني وزاد أني

 ببقا للوفا مشرع بواب.

وفي الطريقة الثانية تطبق القاعدة ذاتها باستثناء أن الشطر الأخير يختتم بألف مقصورة أو ممدودة فيقال.

يراعي قال نهج العلم خط بي

تلوه على المنابر خير خطبة

ولساني قالها مبروك خطبة

 ان شالله يوم تتميما بهنا

أما الميجانا حسب تعريف سمعان فهي تنظم على بحر الرجز بحيث يكون صدر البيت مبتدئا بالمقطع التالي:

يا ميجانا يا ميجانا يا ميجانا

 أما عجز البيت فينتهي بذات القافية وهي “نا”.

ويوضح سمعان أن اختلافات عديدة طرأت على هذا النوع من الغناء في السنوات الأخيرة فتغير ليصبح جناسا و من أربعة أشطر ثلاثة منها متشابهة لفظا إنما مختلفة من حيث المعنى كما في العتابا وبقي الشطر الرابع ليختتم ضروريا باللازمة “نا”.

كذلك فقد تعددت أغراض الميجانا والعتابا كما يشير الباحث فكان للمناسبات والمشاعر الوطنية نصيب وافر من المواويل الشعبية، كما في العتابا القائلة:

تراني بالوفا للوطن مالي

شبيه وحبه للقلب مالي

بروحي وللعيال وكل مالي

بفدي ترابه عند الطلب

والأمر ذاته في الغزل وتصوير درجات العشق وضراوة الفراق ووصف المحبوب ومناجاته. كما في الميجانا التالية حيث يقول الشاعر:

يا من ورد العا خدك صار نامي

على زندي بصفاوة بال نامي

ولا تخشي العزول وكل نامي

أنا درعك إذا الواجب وجب.

ويشير سمعان إلى أن باب الأدبيات يضم أيضا الكثير من أغاني العتابا والميجانا وأصعب ما ينظم فيه هو العتابا المقيدة بالأحرف الهجائية والتي يصعب ارتجالها، حيث يتكرر الحرف المعني سبع مرات في بيتي الأغنية و تبقى النهاية كما تم ذكره إما بحرف الباء أو الألف الممدودة أو المقصورة ففي حرف الياء على سبيل المثال يقول الشاعر.

يا ما توددت وقربت يمك

يا ما غرقت في لجات يمك

يا ما رمت يا حسناء يمك

يا من اسمك بقلبي انكتب.

ومن العتابا أيضا كما يقول الباحث ما يوجب تكرار حرف معين في بداية كل كلمة من كلمات البيت كأن يقال:

إذا الشقرا أتتني ألف أهلا

إليها إن أنا أحببت أهلا

أنا إن أهلوني الآن إهلا

إليها آل أمري للهنا.

ويشير إلى وجود “العتابا” مزدوجة أو متعددة أو متراكبة الخانات وتتكرر في النوع الأول مفردة معينة في نهاية الشطر الأول من كل بيت ومفردة أخرى في نهاية الشطر الثاني من كل منه أما المتعددة فتتكرر الكلمة ذاتها في نهايات الأشطر جميعها باستثناء الأخير.  (يتبع)

Visited 11 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

فاطمة حوحو

صحافية وكاتبة لبنانية