وداعا غورباتشوف: أول رئيس دولة ضحية انقلابين متزامنين

وداعا غورباتشوف: أول رئيس دولة ضحية انقلابين متزامنين

 إسماعيل طاهري

عندما حصلت في 1994 على كتاب البريسترويكا لميخائيل غورباتشوف مترجما الى اللغة العربية، لم أصدق نفسي وبين يدي وثيقة هامة لفهم أسباب ما جرى ويجري في الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي.

كان إنزال العلم السوفياتي ورفع علم روسيا مكانه على الكريملين بحلول نهاية رأس سنة 1991 قاسيا على الشيوعيين والاشتراكيين، وحتى التروتسكيين أصابهم الزلزال رغم  عداوتهم التاريخية مع البولشفيين. أما المناشفة أنصار بليخانوف فقد انقرضوا تقريبا منذ عهد ستالين ولم نسمع لهم صوتا.

كما كان مثيرا ضرب يلسين لمقر الدوما بالدبابات في غشت 1991 لإنهاء اعتصام النواب الداعمين للانقلاب على غورباتشوف المعتقل في مخيمه الصيفي.  كان المشهد يشبه لقطة سينمائية في أفلام هوليود.

لقد تمكن بوريس يلتسن رئيس الحزب الشيوعي لروسيا من إفشال الانقلاب وسلب سلطات غورباتشوف مقابل إطلاق سراحه. وسيطر على الدوما واعتقل الانقلابيين، وكانت القنوات الغربية تتلذذ بتكرار مشهد قصف الدوما والإشادة بشجاعة يلتسن لإخماد التمرد. وأعاد يلتسن غورباتشوف بالقوة إلى الحكم مسلوب الصلاحيات والاتحاد يتهاوى بين يدي الكريملين كقصور الرمال على الشاطئ في الجمهوريات المتمردة والتي شرعت في تنظيم استفتاءات الاستقلال.

في الواقع كانت هناك محاولة يائسة لوقف عملية داخل قيادة الجيش السوفياتي، عبر عملية انقلابية لم تدم سوى ثلاثة أيام، وشاركت المخابرات الغربية ووسائل إعلامها الدعائية في إفشال العملية وإظهار يلتسن كبطل يدافع عن الشرعية، وهو في الواقع بصدد انقلاب مضاد ومزدوج على الانقلابيبن وعلى المنقلب عليه (غورباتشوف).

ولم تصل نهاية دجنبر حتى اضطر إلى الاستقالة من رئاسة الاتحاد السوفياتي، وصوت ما تبقى من أعضاء مجلس الدوما على السماح باستقلال الجمهوريات السوفياتية. وتم الاحتفال بحلول رأس السنة الجديدة 1992 بنزول علم الاتحاد السوفياتي إلى الأبد من علياء مبنى الكريملين. وسط تغطية إعلامية غربية جنونية غير مسبوقة.

عندما قرأت كتاب غورباتشوف البريسترويكا خرجت بخلاصتين هامتين:

الأولى تشبيه الاتحاد السوفياتي بجرافة عملاقة لكن أسنانها حافية. وهي في حاجة إلى قطع غيار بسيطة، ولكن البيروقراطية والفساد تعيق توفرها رغم توفر روسيا على اقتصاد عملاق وصناعة ثقيلة جدا..

والثانية أن سباق التسلح الذي فرضته الحرب الباردة قاد الاتحاد السوفياتي في اتجاه يتعارض مع قيم ثورة أكتوبر 1917 وأهدافها النبيلة المتمثلة في تخليص البشرية وتحريرها من الفقر والظلم والجهل وكل مظاهر الاستغلال الطبقي والاستيلاب والاستعمار، وها هو الاتحاد السوفياتي يجد نفسه متورطا في صراع قد يهدد وجود البشرية ككل، وهو وحده يملك من الأسلحة النووية ما يدمر الكرة الأرضية عدة مرات. ولاحظنا أن وزارة الدفاع الروسية أكدت خلال الحرب مع أوكرانيا أن باستطاعتها محو أوربا من الخارطة خلال نصف ساعة باستعمال الترسانة النووية الإستراتيجية. لذلك عمل غورباتشوف على إنهاء الحرب الباردة إما باتفاقات مع أمريكا لتخفيض الترسانة النووية أو قراره بتخفيض عدد القوات السوفيتية من جانب واحد كعربون حسن نية للغرب. وفي هذا السياق تم منحه جائزة نوبل للسلام عام 1990 “لدوره القيادي في التغييرات الجذرية في العلاقات بين الشرق والغرب”، حسب مانحي الجائزة.

وفهمت من كتاب غورباتشوف أن الاتحاد السوفياتي كان يعاني من أزمة ضمير، في سياق اقتصاد متهالك بفعل مشاريع غزو الفضاء وحرب النجوم التي تطلبت استثمارات مالية ضخمة أنهكت المالية العمومية السوفياتية.

هذا إضافة إلى وجود بيروقراطية مفرطة، وتطرف في رأسمالية الدولة، ومجتمع منبهر بالنمط الاستهلاكي الغربي، وفقر شديد في الصناعات الخفيفة المنزلية يقابله تطرف شديد في الصناعات الثقيلة. وكان الإعلام الغربي يتندر بالقول أن الاتحاد السوفياتي له فائض في الصواريخ والطائرات والدبابات والجرارات،ولكنه لا يملك لعب أطفال أو آلات إلكترونية منزلية لصنع العصير أو القهوة.

لهذا اقتنعت قيادة الاتحاد السوفياتي  بالحاجة إلى إعادة البناء، لكن مشروع البريسترويكا والانفتاح “الديمقراطي”  انتهى بانهيار مدوٍ للبنيان بكامله على الجميع، لأن الجسم عليل ولم يتحمل جرعات العلاج القاسية. وأول المتفاجئين بسرعة الانهيار هو غورباتشوف نفسه.

سقوط الاتحاد السوفياتي خلف فراغا في العلاقات الدولية، ورغم مرور ثلاثين سنة على سقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الشرقي لم تستقر العلاقات الدولية في نظام دولي عادل مبني على تعدد الأقطابالخ.

رحيل غورباتشوف بعد ثلاثين سنة من انهيار الاتحاد السوفياتي يعيد فتح النقاش حول أسباب التطورات التي تشهدها روسيا اليوم بوصفها الوريث الشرعي للاتحاد السوفياتي.

الرفيق غورباتشوف وداعا. لك أجر محاولة الإصلاح.. لكن التاريخ كان أكبر من البيريسترويكا (إعادة البناء والهيكلة) والغلاسنوست (الانفتاح وحرية التعبير).

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

اسماعيل طاهري

كاتب وباحث من المغرب