في حضن الشعبوية
باريس- المعطي قبال
للرد على سياسة فرنسا بخصوص التأشيرات وموقع الإسلام والمسلمين، ظهرت إرهاصات أولية لحملة تنديد على مواقع التواصل الاجتماعي تدعو إلى مقاطعة اللغة والمنتجات الفرنسية. ثمة من رأى في هذا الخطوة «تصابيا» لا يفيد في شيء. منهم من اعتبر الحملة حمية وطنية على تعجرف مستدام تحركه عقلية كولونيالية جديدة. بيد أن هذه الحملة تتجاوز في الواقع المغرب لتشمل دولا إفريقية أخرى تعتبر نفسها متضررة من السياسة الفرنسية مثل مالي، تشاد، إفريقيا الجنوبية الخ…حيث خرج المتظاهرون للشوارع للتعبير عن تذمرهم من الحضور الفرنسي. في فترات الأزمات السياسية بالدول الفرنكوفونية، تطفو على السطح الدعوة، إلى جانب دعوات أخرى، إلى مقاطعة اللغة الفرنسية مع توصيفها كـ«أداة استلاب واستعمار».
وقد شهدت الجزائر بدورها حملة من هذا النوع وجاءت التعليقات على الفايسبوك معادية لفرنسا وفي إنشائية مضحكة مثل هذه الكلمة المليئة بالأخطاء التي أطلقها جزائري: «أنت وأنت يا من تعشقون لغة المستعمر سوف تموت وسوف تدخل الى قبرك وحدك وسوف تسأل في قبرك باللغة العربية شئت أم أبيت». هذه الدعوات هي كمن يسكب الماء على الرمل. لها حمولة إيديولوجية وشعبوية واضحة. لم يقرأ بالكاد هؤلاء الأشخاص جاك لاكان ولا ابن عربي أو الجاحظ الذين نهلت لغتهم من لغة الأخر. فهم يقيمون في حضن وحصن اللغة القاتلة والمميتة. فاللغة الأحادية مثل الهوية الوحيدة التي لا تقبل الاختلاف تبقى لغة بدون أفق ولا مستقبل. فاللغة العربية التي هي لغة شعرية بامتياز تكره القبح والرداءة. مثلها مثل اللغة الفرنسية التي أنتجت فيكتور هيغو، مالارمي، لوتريامون، جان جونيه، سيلين وغيرهم.
على مستوى آخر، فأولئك الذين ينادون بمقاطعة اللغة الفرنسية يعيشون فصامية حادة: إذ أن عددا منهم يتنقلون في سيارات فرنسية الصنع، يتابعون بلغة موليير المسلسلات على منصة نيتفليكس، يتحاورون بعربية ممزوجة بالفرنسية، يتفاخرون بأبنائهم المسجلين بالبعثات الفرنسية، يقلون «الترام» أو «تي جي في» الفرنسي الصنع. لكن هذه الحملة لم تكن بنفس وحجم سابقتها. أولا لأن المتضررين من تقليص التأشيرات بـ 50 في المائة (قبل الكوفيد حصل على التأشيرة لفرنسا 346000 مغربي. اليوم وبصعوبة كبرى تمنح فرنسا التأشيرة لنصف هذا العدد)، ينتمون إلى الفئة الميسورة التي تتوفر على الإمكانيات المادية للقيام بأسفار التطبيب والشوبينغ (التسوق) والسياحة. أما الأغلبية المتضررة من الغلاء فليست لها لا الرغبة ولا الإمكانيات للسفر إلى فرنسا. تفضل التخييم في المغرب أو استئجار بيوت بالقرب من البحر.. حملات المقاطعة وللأسف هي محاولات ميتة بولادتها. لأن مقاطعة لغة سكنت المخيال واللاوعي تبقى عديمة الجدوى، لأنها لن تغيب هذه اللغة من المشهد. لنتذكر ما قاله كاتب ياسين في حق اللغة الفرنسية وما هو حال هذه اللغة اليوم بالجزائر: قال «اللغة الفرنسية غنيمة حرب».
بعد 60 عاما على الاستقلال لم يستطع البلد التحرر من اللغة الفرنسية، التي لا زالت الجلد الثاني للجزائر.
لذا يجب التمكن من اللغة الفرنسية، إتقانها حديثا وكتابة حتى يمكن الرد على الآخر والتحاور معه حوار الأنداد، وإلا كرسنا ظاهرة «أمية اللسان المزدوج»، لا نجيد لا العربية ولا الفرنسية بل نخلطهما في وصفة مثيرة للسخرية تبعا لعبارات من قبيل:
«والله عا c’est vrai »،«نو بوز بي نو ميهوط Ne bouge pas, ne mets pas la main haute ».