مبرر التاريخ في السياسة
عبد الرحيم ازرويل
كثيراً ما يبرر رجال السياسة ورؤساء الدول سياساتهم ومواقفهم بالاستناد إلى التاريخ، إما للزعم بأنهم يسايرون مسيرته ويعملون على ملاءمة أفعالهم مع غاياته، وإما أنهم لا يعترفون لغير التاريخ بالحكم على أفعالهم. نجد هذا الإحساس بالتاريخ ناشئاً منذ العصور القديمة عند الإغريق، حيث يرجع بيريكليس Périclès إلى حكم التاريخ، حين يثير عظمة أثينا التي لا يمكن أن تحاكم [من جهة ديموقراطيتها العبودية] إلا من طرف التاريخ والأجيال التي ستخلفه.
وقد أصبحت المرجعية إلى التاريخ متواترة منذ رسوِّ فكرة امتلاك التاريخ لمعنى واتجاه، بل غاية مع كانط وهيجل وكارل ماركس .
غير أن مواقف الساسة أيّاً ما كان نوعها (إما القول باستشراف المستقبل والعمل على التماشي مع غايات التاريخ، وإما عدم الاعتراف لغير التاريخ بالحكم على أفعالهم)، لا تخلو من غموض، بل التباس كما يرى B. Sève في بحثه حول السياسة والتاريخ.
ينم الموقف الأول عن نوع من التواضع السياسي، حين يعترف موضوعيا أن الفعل السياسي لا يجد مبرره إلا فيما يتجاوزه، ويُظهر الموقف الثاني نوعاً من الغُلو في الثقة في كفايات الفاعل السياسي التوقعية. ويعكس هذا الالتباس في الآن نفسه صعوبة محايثة لطبيعة السياسة ذاتها. فالسياسة من جهة هي التاريخ في طور الإنجاز، حيث يرسم رجل السياسة ويشكل التاريخ، ومن جهة أخرى، لا يستطيع رجل السياسة أن يسيطر كليا على فعله، حيث أن تبعات قراراته يمكن أن يكون لها مفعولا معكوسا باتجاهها إلى وجهة غير تلك التي رسمها، ويمكن أن تنقلب عليه.
تشكل العلاقة بين السياسة والتاريخ مشكلة إذن، ويمكن صياغة هذا الإشكال عن طريق السؤال التالي: هل تكمن معقولية السياسة في ذاتها.. أو خارجا عنها في التاريخ؟
صحيح أن الفعل السياي يمكن أن “يعيش” بمعزل عن المعنى الذي سيضفيه عليه الغد، أي التاريخ، ولكن السياسة تستدعي أيضاً بعدا تاريخيا، لأنها تستند على تفاعل مفتوح دوماً بين القوى، وعلى توازنات قابلة دوماً للتراجع .
إذا أخذنا على سبيل المثال لحظة تاريخية تمثل معركة عسكرية، لبدت لنا السياسة وكأنها مجال الفوضى وتضارب المصالح والأهواء، ولكن التاريخ وحده قمين باستجلاء معنى ومدلول هذه الأهواء وتجانسها.
وفي الآن ذاته، لا يمكن تبرير سياسة ما وفق نتائجها الفورية ومن ثمة وصفها بالتاريخية؛ فالتبرير الذي يقدم نفسه بهذه الطريقة قد لا يكون سوى تأييد للغالب مهما كان. إن التاريخ لا يكتمل أبداً، وأحكامه قابلة دوماً للمراجعة.
فلسفة التارخ وحدها – إن سلمنا أنها قد تستطيع يوماً استجلاء المعنى الدفين للأحداث المجتمعية- قادرة على امتلاك سلطة إصدار أحكام تبرر أو تندد بالقرارات والأفعال السياسية، وليس على الأخلاق أن تحاكم السياسة: فمن غير الصحيح الاكتفاء بدوافع فردية، كحب السلطة والمصلحة… لتفسير قرارات سياسية. ليست هاته التفسيرات واهية في ذاتها، إنما هي تفسيرات غير كافية. فعلى سبيل المثال، يمكن لرئيس دولة أن يتخذ قرارات لأسباب تافهة أو وضيعة، لكن مدلول تلك القرارات وعواقبها لا تقف عند الغاية التي رسمها لها متخذها، لأن نتائج ووقع قرار معين تتجاوز دوماً المقصد الكامن وراءها. كما يقول هيجل Hegel: “يمكن أن يتضمن الفعل المباشر شيئاً أكثر سعة مما يبدو لأول وهلة، في إرادة وشعور الفاعل”. إنه مكر العقل حسب هيجل، أو مكر المطلق الذي يتحقق في التاريخ بتسخير أضداده المتمثلة في الأهواء الشخصية والطموحات والمصالح. يكمن مكر التاريخ في ظن الزعماء أنهم يمارسون إرادتهم، والحال أنهم ينجزون في الواقع مرامي التاريخ. كان نابوليون مسكوناً بهوس المجد عن طريق انتصاراته في حروب غزا بها القارة الاوروبية بأكملها تقريباً، لكنه أنجز دون شعور غائية تاريخية، هي نشر مبادئ وقيم الثورة الفرنسية في القارة بأكملها، ووفّر بذلك على باقي الأقطار متاعب ثورة كالثورة الفرنسية.
الحصيلة المنطقية لهذا الطرح هي أنه إذا لم يكن بقدرة رجل السياسة التفكير فيما يقوم به (لأنه من هذا المنظور مسخر من طرف غاية تتجاوزه)، فإن المفكر لا يستطيع بدوره أن ينير رجل السياسة: يجد رجل السياسة نفسه منغمساً في لهيب الصراعات التي تتطلب اتخاذ قرارات استعجالية تقصي التروي والاستفادة من النظرية أو الرجوع إلى التاريخ. إذن، يكاد يكون زعم رجل السياسة أنه يساير حركة التاريخ أو يستبقها، مجرد ادعاء .
“يُنصحُ الملوك ورجال الدولة والشعوب بالاستفادة أولا من درس تجربة التاريخ، غير أن ما تعلمه التجربة والتاريخ هو أن الشعوب لم يسبق أن تعلمت قط شيئاً من التاريخ، ولم تقم أبداً بفعل وفق الدروس التي يمكن استنتاجها من التاريخ. فكل حقبة تاريخية وكل شعب يوجدان داخل ظروف تتسم بدرجة من الخصوصية ووضعيات جد متفردة، تدفع القادة والشعوب يتخذون فيما يخصها، قرارات وفق أحكامهم الشخصية بحيث لا يبقى باستطاعتهم القيام بغير ذلك”. (هيجل).
إن السمة الفريدة للظرف، واستعجالية الفعل، تجعل من الدروس التي يمكن استخلاصها من الماضي دروساً مجردة وغير ناجعة. لذا فإنه الصعب أن يدعي القائد السياسي أنه يتفاعل مع مسيرة التاريخ استلهاماً من دروسه، أو استشرافاً لتوجهه.
ومع ذلك فإن لا مدرسة سوى مدرسة التاريخ، التي منها يمكن تعلم كيفية التعرف على مآل المجتمعات الإنسانية، من حيث واقعها الملموس والشمولي. إذا عدنا إلى هيجل سنجده لا يعير للسياسة اهتماماً إلا من جهة اعتبارها عملا يقوم به عظماء الرجال، والحال أن السياسة في الواقع أكثر تعقيداً من حيث تعبيرها عن صراعات طبقية مفتوحة، ومن حيث أنه لا وجود لمجتمع متجانس، متراص. فكل مجتمع ينقسم إلى مجموعات مصالح متناقضة تتضارب فيها المصالح، إذ ينعكس هذا التضارب بهذه الطريقة أو تلك على مستوى السياسة. لذا ينبغي الاعتراف بأن السياسة هي أيضاً تعبير عن المجتمع، لأنه لا يمكن لرجل السياسة أن يُشَغِل قوى أخرى سوى تلك التي يوفرها له المجتمع. ينبغي الإقرار إذن أن السياسة هي أولا صراع من أجل السلطة، حيث من غير الممكن فهمها إلا من خلال تحليل عام للمجتمع، على غرار ما قام به كارل ماركس.
ليس للسياسة والتاريخ علاقة مباشرة بالنسبة لكارل ماركس، فكلاهما يحيل على البنية الاقتصادية. وإذا كان الصراع الطبقي يَسِمُ تاريخ كل مجتمع فهو بذاته يُفَسّرُ بتناقضات النظام الرأسمالي: “يحدد نمط إنتاج الحياة المادية صيرورة الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية”. (كارل ماركس).
ولكن، إن كانت البنيات الاقتصادية لمجتمع ما تحدد حياته السياسية، فإنها تمنحه في الآن ذاته هامشاً واستقلالاً نسبياً: ينبني المجتمع الرأسمالي على استغلال الطبقة العاملة، لكن العمال ينتظمون سياسيا لتغيير هذا النظام ويستطيعون بالتالي الثورة ضده، لأن التاريخ يملك معنى / اتجاها قابلاً للإدراك. لذا فإن التحليل الاقتصادي لبنيات مجتمع ما، يتيح التنبؤ إلى حد ما بمستقبل ذلك المجتمع ومصيره. يمكن للفعل السياسي إذن أن يستند إلى هذه المعرفة ليُسَرِّع بنمو البذرة المنغرسة في طيات تلك البنيات. في المنظور الماركسي تكون سياسة ما صحيحة حين تتجه صوب اتجاه التاريخ، والسياسي الصائب هو الذي يستطيع أن يخمن ويتنبأ باتجاه التاريخ، لكي يستبقه أو لكي يساعد على حلوله. فالسياسة هنا ليست سوى استباق للتاريخ، وعلى رجل السياسة ان يعمل على تقدير وحساب فعله حتى يستطيع ادراجه داخل الضرورة التاريخية .
رغم ذلك فإنه من الصعب تأسيس سياسة عقلانية على تحليل لمجتمع يزعم معرفة المآل المستقبلي لهذا المجتمع. لو كانت هاته المعرفة ممكنة لألغت السياسة التي هي في الواقع تضارب للحريات والمصالح. فلأن التاريخ مفتوح على إمكانيات شتّى، فإنه ليس باستطاعتنا استشراف واستباق مسيرته إن شرط إمكان الفعل السياسي هو استحالة استباق سير التاريخ.
وبصفة عامة فإن السياسة لا يمكن أن تستند على معرفة، والمادة التي يشتغل عليها رجل السياسة مادة غير قابلة للتنبؤ من حيث طبيعتها، وليس من حيث محدودية معارفنا فيما يخصها. حقيقة أن البشر هم من يصنع التاريخ، ولكن البشر حين يصنع التاريخ، فإنه يقوم بذلك انطلاقاً من بنيات وتقاليد لم يخترها. علاوة على ذلك، فإن الحقائق الكبرى تمشي على قوائم الحمام وفق عبارة نيتشه.
إن تواتر الإحالة على وجهة التاريخ وأحكامه في الخطاب السياسي، إحالة غير بديهية إطلاقاً؛ فلا يمكن اعتبار التاريخ وحده الهيأة الكفيلة بمفردها على الحكم على السياسة. يملك النشاط السياسي عقلانيته في ذاته، لكنه ليس بمنأى عن التاريخ بل عن التاريخ بصفته مبرراً للاختيارات السياسية .
في النهاية فإن غاية السياسي- الجدير بهذه الصفة – هي تحويل الحاضر وليس الاندراج في كتب التاريخ للأجيال اللاحقة.