قتلت إنسانا فاحتفل الناس جميعا
لحسن أوزين
خصمي ساقط على أرضيّة الحلبة مغمى عليه لا تصدر عنه أيّة حركة، ربّما يصارع حتفه الأخير. لم أعره أيّ اهتمام، ولم يجل بخاطري أن أنظر إليه. لقد سقط وهذا ما كان يهمّني، تجدّد حلمي بكوني الأقوى والأجدر بحمل لقب بطل العالم. وضع خصمي ذاك الّذي هوى لم يثر انتباهي. كلّ النَّاس.. نعم الكلّ كان في حالة جنون قصوى، وهو يتفاعل مع الهجوم الكاسح للضَّربات الّتي أمطرته بها، فجأة من كلتا يدي كما لو كانتا قاذفات صواريخ، ثمّ سرعان ما اهتزّت مدرّجات القاعة، بسبب قوَّة الضربة القاضية، وعلت موجة صاخة من صراخ الانفعال الرَّهيب، وكأنّ عدوانيّة بدائيّة مهجورة في الأعماق انبعثت من رماد الحصار المخنوق لتخرج في شكل أصوات وصفير حادّ، وأنواع أخرى من التَّعبيرات الجنونيّة الّتي يختلط فيها الفرح بأشياء غامضة بين الانجذاب الأشدّ قسوة والفرح الباكي على شيء مجهول أو مفقود. كان الكلّ متفاعلا مع الفرح الآتي من قوّة السُّقوط المدويّ، والمحسوم لخصمي على الحلبة. عندها كنت مشغولا ومسحورا بالفرح الّذي خلقته بقوّتي الّتي لا تقهر داخل القاعة، وعلى القنوات الفضائيّة، وربّما في الكثير من بيوتات العالم. احتفال ناذر وممتع. والنّاس جميعا، تقريبا كلّ الجمهور، في حالة فرح هستيري جنوني إلى أبعد الحدود. كنت في قمَّة الفرح الباذخ، وأنا كتنين صغير أنفث لهيب النّار وألوّح بيدي، وبكلّ جسدي الملتهب بفرح جنونيّ مفعم بالرّغبة في التَّملك، والتَّدمير لكلّ ما هو هشّ وضعيف. شيء مَّا في أعماقي رهيب وعنيف وله اندفاع البركان في خلق الرُّعب والانتشار، عبر ما يشبه الدّهس والتَّحطيم لكلّ الحواجز والموانع. حالة مروّعة في جوفي تضطرب، تصطخب، تصرخ بعويل جبروت القوّة الّتي لا تخشى أيّ شيء، وكأنّها تقول: أنا القويّ، أو بالأحرى كان هتاف الجمهور وقودا لجهنّم الّتي تولول في داخلي بلعنة الآلهة والمجد والقهر والطُّغيان، خاصّة وأنا أرى الفرح الملعون، وقد انتشر في القاعة المغطَّاة، في لحظة صغيرة في الزّمن كالنّار في الهشيم، أو كوميض البرق الغادر.
وكنت أرى نفسي في النّقل التلفزيّ المباشر كإله سومري، لا يكفّ المذيع عن التّضرع إليه، وتمجيد قوّته الكاسحة الّتي لا تقهر. ”لا أحد يستطيع هزم بطلنا القويّ، وحده سيّد الحلبة، فعند الامتحان يعزّ المرء أو يهان، يسرى واحدة كانت كافية لربح المباراة، هكذا عوّدنا على الضربات القاضية.. لا أحد.. لا أحد.. هو هو إلى الأبد .. لا أحد يستطيع أن يقف في وجهه في الميدان.. يسراه كبرميل بارود حطّه أسد من عل”. والكثير من الشّباب والصّغار والكبار يلوّحون بالعلم الوطني، تقريبا لا أحد كان قادرا على الحزن الجميل، إنّها لحظة الفرح المشحون بهوامات الحقد والقتل المأمول. استيهام الفرح الّذي قدم من أجله المئات، بل ربّما الآلاف ثمن تذاكرهم ليشهدوا ويشاهدوا عن قرب كيف تكون الضّربة القاضية الّتي لامجال فيها للخوف، للتّردّد، أو للرّجوع إلى الوراء. هكذا كان يقول لي المدرّب مرارا دون أن يملّ من سأم التّكرار ”كن ذكيًّا بما فيه الكفاية، حاول أن تستفيد من قوّة يدك اليسرى، سدّد بكلّ جهد وتركيز عميق شاحنا كلّ طاقاتك في يدك.. اليسرى عندك صاروخيّة، يمكنها أن تخترق كلّ دفاعات خصمك، أنا أثق في قوّتك الرّهيبة ولهذا أنصحك بالضّربة القاضية، ليس من مصلحتك أن تفكّر في الفوز باحتساب النّقط، حاول أن توظّف كلّ الخدع الّتي تعلّمتها، أريد أن ترفع رأسك عاليا وتشرّفنا بالنّصر الحاسم، هذا يسعدني كمدرّب لبطل واعد، ولا تنس أنّ الوطن يعوّل على فوزك، كن وطنيًّا حقيقيًّا ودافع عن قميصك الوطنيّ، ثق بالله أنت مسلم فالله معك”.
مررت بأيّام عصيبة قبل أن يصل هذا اليوم المشؤوم لمنازلة الخصم على منصة الملاكمة. لم أكن أملك خيارا آخر إلَّا الدّفاع عن لقبي العالميّ، وعن أحقّيتي في الانفراد باسم بطل العالم.
وفي تلك الأيّام القريبة من موعد النّزال رأيت ما فعله بوش ومن معه في العراق، وكيف ارتفعت النّسبة المائويّة لشعبيّة الرّئيس الأمريكي وهو يحرق شعبا بكامله، ويدمّر بقوَّة علم السّلاح وفنون الحرب حضارة قرون لبشريّة جمعاء. الضّعفاء وحدهم قالوا: إنّه قاتل أو مجرم.
لقد كان رجلا أبيضا حقيقيّا في نظر الملايين وهو ينتصر للقوّة، ولم تكن الابتسامة لتفارق محيّاه، والبيض كلّ البيض، وبعض الألوان الأخرى الممزوجة بظلال باهتة، يبادلونه التّحيَّة بأفرح منها، كأنّ شيئا لم يرتكب في حقّ الإنسان والأرض. وفي الوقت نفسه كانت تتملّكني رعبا وعنفا قوّة ضربة قاضية أخرى تأتي على خصمها بالذّبح من الوريد إلى الوريد على يد بطل يسمّى أبومصعب السوداوي، بطل ربّاني كديناصور خلّفته قصور الخلفاء في مقابر صحراء البؤس العربيّ الإسلاميّ. وبالموازاة مع تلك الحرب المحمومة كان سلاح قوّة الإعلام يعلن انتصار الحريّة والديمقراطيّة على بدو الصحراء، الهمّج المتخلفين، وكيف كانت القوّة الجهنميّة تأتي على الأخضر واليابس وتسحق الإنسان دون رحمة، حتّى الصّورة، صورة النّقل الفضائيّ المباشر، كانت تطلق النّار بشراسة. كما رأيت أيضا في تلك الأيّام العاهرة والذاعرة، والملعونة بكلّ اللّغات كيف يعدم الصَّهاينة الفلسطينيين دون رحمة ولا شفقة، وكيف كانت سلطات الاحتلال تهدم منازلهم بالجرّافات. كما رأيت كيف يهان الآدمي العادي البسيط والضّعيف – وليس المواطن – في العالم العربيّ والاسلاميّ على طول تضاريس سلطة القوّة القهريّة لحكام الوثن العربيّ. و الأخطر من هذا كله رأيت كيف لجنون عشق قوة السلطة من الطاغية أن تورطه في تهجير شعبه من أرضه، وتدمير بلده، وأن يتنازل عن السيادة في وجه الاحتلالات الأجنبية.
شيء مَّا غامض وجنوني كان يجعلني في انجذاب خطير إلى مركز سلطة القوّة في الوجود، والإحساس بالحضور في العالم بمنطق قوّة النّصر واحتقار الخصم الضّعيف. وكنت، وكان العالم يحوم من حولي كأنّي مركز الكون. وفي سياق هذا العذاب الرّهيب لسطوة الرّغبة في السّمو وامتطاء الأعالي، وامتشاق منطق القوّة، تذكّرت جورج أورويل في نصّه “إطلاق النّار على الفيل” حيث لا خيار أمام الكولونياليّ إلّا القتل والتَّدمير، لأنّ إفساح المجال للتّردد أو الخوف يمكن أن يسمح للخصم باكتشاف قدراته على المنازلة، أو بالتّعرف على طاقاته المكبوتة والمقموعة بالدونيّة والتّبخيس لا أقلّ ولا أكثر”. لهذه الأسباب كلّها كان منطق قوّة الضّربة القاضية يتناسل في أعماقي بشكل لولبي، كما لو كنت أتعرّض لغزو عنيف، بالإضافة إلى أشياء أخرى كثيرة في لغة أمّي العريقة في القدم، وإلى جانب العشرات من خطب فقيه حارتنا “اللّهمَّ مكنّا من رقابهم…” كان عليَّ أن أضرب بقوّة، وأن أمارس كلّ الحيل والخدع الفنيّة الّتي تعلّمتها في فنّ الملاكمة منذ صغري. كان عليَّ أن أتخلّى عن ضربة الأنف كما قال المدرب لأنَّها لا تضمن الفوز، خاصّة وأنّها لا يمكن أن تكون ضربة قاضية بمعنى الكلام الدّقيق. لهذا ظلّ المدرب يردّد باستمرار وكأنّه يحفّظني آيات من الذّكر الحكيم “اضرب بقوّة على أقرب مسافة مسموح بها ناحية الأذن، ما بين العين والأذن تقبع نهاية الإنسان، ركزّ جيّدا وأطلق بقوّة الصّاعقة”.
وهكذا كان ما حلمت به وما تمنّاه المدرّب والجمهور، والآلة الإعلاميّة الرَّهيبة للاستثمار الرّخيص في تجارة القتل المباح، والمنشود من بيت لآخر عبر العالم.
وفي صباح اليوم التّالي أعلن بسرعة البرق في كافّة القنوات الإعلاميّة عن وفاة خصمي متأثّرا بقوّة الضّربة القاضية. والغريب في الأمر أنّ الإعلام واصل شحن النّاس بفرح جدارة الاحتفال بقوّة النّصر واستحقاق البطولة، من خلال إبراز ما يميّز الضّربة الصّاروخيّة لليد اليسرى. واستضافت الكثير من القنوات خبراء في فنّ الملاكمة لشرح ملابسات الضّربة القاضية، وما يكتنف سحر قوّتها من غموض وأسرار، كما لو كانت اصطفاء وهبة من السّماء، لأنّ الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده، كما قال أحد فقهائنا الأجلاء، وهو يشرح معاني الجبّار، القهّار….
هكذا بسرعة، لم تلتفت الذّاكرة إلى أنّني قتلت إنسانا أمام النّاس، وتحت الأضواء الكاشفة وبطلب منهم، ومن مختلف القنوات الإعلاميّة، وهي توثّق الاحتفال الجنوني، إنزاح خصمي من الحياة وطواه النّسيان في كهوف القبور المجهولة، فقط امرأة واحدة وحيدة ومعزولة عن العالم كانت تنتحب في صمت، ثمّ يعلو شيئا فشيئا نشيجها إلى أن تصل إلى نوع من الصّراخ الحارق المؤلم العنيف الّذي يمانع الخروج من تجاويف القلب المجروح. لم تكن سوى أمًّا تبكي ابنها المقتول، كقربان لاحتفال العنف الرّهيب على ايقاع فنون المكر والخديعة، والرّبح الوفير لمنطق القوّة القاتل. مات منسيًّا لأنّه ربّما لم يكن يملك زادا في هذه الدنيا من الصّراخ والألم يجعلني قاتلا في أعين النّاس، بينما كان اسمي عاليا في عالم المال، و يكتب في الكتب الورقيّة والرَّقميّة، ويطرح سؤالا في المسابقات الفنّيّة والثَّقافيّة…، ويعرفني الصَّغير والكبير، ويتقمّصني بنوع من التَّماهي العدد الكبير من الهوَّاة والمحترفين، وحتّى بعض الجبناء في الاعتداء على
الأطفال والنّساء. أينما يممّت فثمَّة وجهي في صورة تطاردني. باختصار كنت صانعا لتاريخ عظيم في فنّ الملاكمة. وصانعا للفرح الكبير كلَّما تهاوى أحد خصومي بالضّربة القاضية. صحيح أنّني قتلت إنسانا مرّات ومرّات، لكن في كلّ مرَّة يغيب فيها صراخ الألم، كان النّاس يفرحون ويحتفلون جميعا بهذا الفوز العظيم…