المسكوت عن بيروبيدجان دولة اليهود الأولى (1-2)
حسن العاصي
بداية التفكير في إنشاء دولة لليهود؟
استمر اليهود في رؤية أرض فلسطين كوطن روحي لهم وأرض الميعاد، على الرغم من كونهم يشكلون أقلية قليلة فيها، بنسبة لا تتجاوز 3% بجانب غالبية السكان من العرب المسلمين.
أثناء الحروب الصليبية، كان اليهود يُقتلون أو يُباعون كعبيد. بدأت الإبادة الجماعية لليهود عندما سافر الصليبيون عبر أوروبا واستمروا عبر الأراضي المقدسة. بعد الفتح العربي في القرن الثالث عشر، دمر السلطان “بيبرس” البلاد لمنع أي عدد كبير من السكان من العيش هناك، ولجعلها غير جذابة للهجرة. ظلت البلاد فقيرة تحت الحكم العثماني بعد الفتح في القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين.
بين القرنين الثالث عشر والتاسع عشر، نمت وتوسعت الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ويرجع ذلك أساساً إلى الاضطهاد الديني. أدت عمليات طرد اليهود في إنجلترا (1290) وفرنسا (1391) والنمسا (1421) وإسبانيا (1492) إلى موجات نقلت اليهود من تلك البلدان نحو فلسطين.
خلال القرن التاسع عشر انتشرت مُثُل التنوير في جميع أنحاء أوروبا، مما أدى إلى تحرر اليهود في جميع أنحاء القارة. كما أدى إلى رد فعل عنيف من الأوروبيين الذين أرادوا منع اليهود من الحصول على الجنسية، والذين اعتبروهم أجانباً غير أوروبيين. أطلق معارضو الحقوق المدنية اليهودية على أنفسهم اسم معادون للسامية وأصبحوا منظمين جيداً.
في روسيا، دعت الحكومة إلى اعتماد المذابح كوسيلة لإجبار الشعب اليهودي على مغادرة البلاد.
من بين ملايين اليهود الذين فروا من روسيا، ذهب جزء صغير إلى فلسطين. تأسست مستوطنة “ميكفيه إسرائيل” Mikveh Israel في عام 1870 من قبل التحالف الإسرائيلي العالمي، كأول مستوطنة يهودية حديثة في فلسطين خارج القدس، وإيذانا بعصر جديد في تاريخ المنطقة. وتلاها مستوطنة “بتاح تكفا” Petah Tikvaعام 1878، ومستوطنة “ريشون لتسيون” Rishon LeZion عام 1882، ومجتمعات قروية أخرى أسسها أعضاء من منظمة “بيلو” Bilu، ومنظمة بارغيورا Bar Giora الصهيونيتين.
أدى تزايد معاداة السامية والمذابح وإنشاء العديد من الدول المستقلة وذات العقلية القومية في أوروبا، إلى زيادة عدد اليهود الذين رأوا في ذلك فرصة لاستعادة أمتهم اليهودية.
في عام 1897 أعلن المؤتمر الأول للصهاينة عن قرار إنشاء منزل للشعب اليهودي في أرض فلسطين. ولتحقيق هذا الهدف، اجتذبت الصهيونية المتدينين اليهود والقوميين العلمانيين والصهاينة اليساريين.
خلال الحرب العالمية الأولى في ديسمبر/تشرين أول 1916 أصبح “ديفيد لويد جورج” David Lloyd George وهو مسيحي صهيوني ملتزم، رئيسًا لوزراء بريطانيا. أمر لويد جورج بغزو بلاد الشام.
أدت مبادرة لويد جورج والطلب البريطاني لزيادة الدعم لليهود في الحرب ضد ألمانيا إلى قيام وزير الخارجية البريطاني “اللورد بلفور” بإطلاق وعد بلفور في عام 1917. نص هذا الوعد على “أن الحكومة البريطانية نظرت بشكل إيجابي إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين. يجب أن يكون من المفهوم بوضوح، أنه لا ينبغي فعل أي شيء يمكن أن يدين الحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين”.
دولة اليهود المستقلة، كيف كانت البداية؟
بعد قيام الثورة البلشفية في روسيا، وافق المكتب السياسي للحزب الشيوعي الروسي بتاريخ 28 مارس/آذار عام 1928على تخصيص 36000 كيلومتر مربع من أراضي “بيروبيدجان” Birobidjan لإقامة دولة لليهود.
في تلك الفترة كان في روسيا منظمتين تعملان مع اليهود الذين استقروا في بيروبيدجان، وهما “كومزيت وأوزيت” Komzet and Ozet. وكانتا مسؤولتين عن توزيع الأراضي على اليهود، بالإضافة إلى المسؤوليات المنزلية، بدءًا من الانتقال إلى المساعدة الطبية. في تلك الأثناء قدم العديد من الكنديين اليهود دعمهم للاتحاد السوفيتي من خلال أن يصبحوا إما أعضاء أو متعاطفين مع الحزب الشيوعي الكندي.
اعتقد الشيوعيون اليهود أن إنشاء الاتحاد السوفيتي لبيروبيدجان كان الحل الوحيد الحقيقي والمعقول للمسألة القومية. واستخدمت الحكومة السوفيتية شعار “إلى الوطن اليهودي” لتشجيع العمال اليهود على الانتقال إلى “بيروبيدجان”.
أثبت الشعار نجاحه في إقناع يهود الاتحاد السوفيتي وكذلك يهود الدول الأخرى بالهجرة. في عام 1935 تلقت منظمة “أمبيجان” Ambijan وهي ـ منظمة هدفها إنقاذ يهود أوروبا ـ إذنًا من الحكومة السوفيتية لمساعدة العائلات اليهودية التي تسافر إلى “بيروبيدجان” من بولندا، ورومانيا، وليتوانيا، وألمانيا. كما وافقت على قدوم عمال ومهندسون يهود إلى “بيروبيدجان” من الأرجنتين والولايات المتحدة أيضاً. عُرفت هذه الحملة التي شنتها الحكومة السوفيتية باسم تجربة “بيروبيجان”.
على الرغم من أن “بيروبيدجان” كان من المفترض أن تكون بمثابة منزل للسكان اليهود، إلا أن الفكرة كافحت لتصبح حقيقة واقعة. لم تكن هناك روابط ثقافية مهمة بين الأرض والمستوطنين اليهود. كان عدد السكان المتزايد متنوعاً ثقافياً، حيث ركز بعض المستوطنين على كونهم مواطنين روس معاصرين، وبعضهم أصيب بخيبة أمل من الثقافات الحديثة، مع الرغبة في العمل على الأرض وتعزيز المثل الاشتراكية، مع وجود القليل من المهتمين بتأسيس وطن ثقافي.
كانت الدوافع الخفية التي ولّدتها الحكومة السوفيتية هي الأسباب الرئيسية لانتقال اليهود إلى “بيروبيدجان”.
تم نقلهم استراتيجياً من مناطقهم الأصلية في أوكرانيا، وبيلاروسيا، وشبه جزيرة القرم، حيث تمت مقاومة الاستيطان اليهودي في هذه المناطق بشدة من قبل غالبية السكان.
كان من المفترض أن يكون وضع اليهود في “بيروبيدجان” بمثابة حاجز لردع أي توسع صيني أو ياباني.
كانت المنطقة أيضاً رابطاً بين السكك الحديدية العابرة لسيبيريا ونهر أمور، حيث سعت الحكومة السوفيتية إلى استغلال الموارد الطبيعية للمنطقة، مثل الأسماك والأخشاب، والحديد، والقصدير، والذهب.
حدود هذه الدولة، وإمكاناتها؟ هل مازالت هذه الدولة قائمة؟
لماذا لا يتحدث عنها الإعلام؟
تقع مدينة “بيروبيجان” وتُكتب بالإنجليزية Birobidzhan، وبالروسية Биробиджа́н، وباللغة اليديشية ביראָבידזשאַן ـ التي تُعتبر مركزاً إدارياً للمنطقة اليهودية المستقلة في روسيا الاتحادية ـ في سيبيريا، بالقرب من الحدود الصينية الروسية، يبلغ عدد سكانها 75413، ولغتها الرسمية هي اليديشية. سميت المدينة بيروبيدجان على اسم أكبر نهرين في الإقليم المتمتع بالحكم الذاتي “بيرا وبيدجان”.
تم التخطيط لإنشاء مدينة “بيروبيدجان” من قبل المهندس المعماري السويسري “هانيس ماير” Hannes Meyer في عام 1931. وأصبحت المركز الإداري للأوبلاست اليهودي في عام 1934، وتم منحها مكانة المدينة في عام 1937.
لعب الكاتب اليهودي “ديفيد بيرجلسون” David Bergelson دوراً كبيراً في الترويج لبيروبيدجان، على الرغم من أنه هو نفسه لم يكن يعيش هناك بالفعل. كتب بيرجلسون مقالات في الصحف الناطقة باللغة اليديشية في بلدان أخرى تمجد فيها المنطقة باعتبارها ملاذاً مثالياً للهروب من معاداة السامية في أماكن أخرى. جاء ما لا يقل عن 1000 عائلة من الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية إلى بيروبيدجان بسبب برجلسون. في عيد ميلاده الـ 68 في عام 1952، كان برجلسون من بين أولئك الذين أعدموا خلال حملة ستالين المعادية للسامية ضد “الكوزموبوليتانيين الذين لا جذور لهم” بعد إنشاء دولة “إسرائيل” في عام 1948.
تم تسجيل المجتمع الديني اليهودي في “بيروبيدجان” رسمياً في عام 1946. وقد عانى المجتمع الديني من الاضطهاد في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي. تم إحياء الثقافة اليهودية في “بيروبيدجان” في وقت مبكر كثيراً من أي مكان آخر في الاتحاد السوفيتي. تم افتتاح المسارح اليديشية في السبعينيات. كانت التقاليد اليديشية واليهودية مكونات مطلوبة في جميع المدارس العامة لما يقرب من خمسة عشر عاماً، ولم يتم تدريسها على أنها تغريبة يهودية، بل كجزء من التراث القومي للمنطقة.
تم افتتاح كنيس “بيروبيدجان” رسمياً في عام 2004 بمناسبة الذكرى السبعين لتأسيس المنطقة اليهودية المستقلة، بجوار مجمع يضم الفصول الدراسية في مدرسة الأحد، ومكتبة، ومتحف، ومكاتب إدارية.
وفقًا للحاخام الإسرائيلي “مردخاي شاينر” Mordechai Shiner الحاخام الأكبر السابق لبيروبيدجان أنه يمكن للمرء اليوم الاستمتاع بفوائد الثقافة اليهودية وعدم الخوف من العودة إلى التقاليد. يقول عن “بيروبيدجان” إنها آمنة، وبدون أي معاداة للسامية، ويخططون لفتح أول مدرسة نهارية يهودية.
في الاحتفال بعيد “حانوكا” Hanukkah عام 2007 ادعى المسؤولون في “بيروبيدجان” في إقليم الحكم الذاتي اليهودي أنهم قاموا ببناء أكبر شمعدان في العالم. في مقال نُشر في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 في صحيفة الغارديان بعنوان “إحياء صهيون سوفياتي: بيروبيدجان تحتفل بتراثها اليهودي” استعرض الوضع الحالي للمدينة واعتبر أنه بالرغم من أن منطقة الحكم الذاتي اليهودية في أقصى شرق روسيا الآن بالكاد يبلغ عدد اليهود فيها ما نسبته 1٪ إلا أن المسؤولون يأملون في استمالة وجذب الأشخاص اليهود الذين غادروا المنطقة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
يشرع الحاخام “إيلي ريس” Eli Reese في إعادة الثقافة اليهودية إلى منطقة الحكم الذاتي اليهودية. الشعار الحالي هو “اجعلوا “بيروبيدجان” يهودية مرة أخرى”. يريد الناس أن يشمل ذلك تدريس اللغة اليديشية في أنظمة المدارس مرة أخرى بالإضافة إلى الاحتفال بمجموعة متنوعة من الأعياد اليهودية.
كان والدا ريس في الأصل من سكان بيروبيدجان، لكنهما انتقلا إلى إسرائيل في التسعينيات مع غالبية كبيرة من السكان اليهود من أوبلاست. لكنه عاد ليكون الحاخام الأكبر مع خطط لتنشيط الثقافة اليهودية./يتبع