امبريالية الحرية وإبادة الآخر.. الفيلسوف الياباني أوسامو نيشيتاني يفكك علاقة الغواية والنبذ بين اليابان وأمريكا
باريس- المعطي قبال
في الوقت الذي ينظر فيه الأمريكان نظرة استعلاء واستصغار لليابانيين، كيف ينظر اليابانيون لأمريكا؟ نظرة افتتان أم نظرة نبذ؟ أم هي مزيج بين الاثنتين؟ يطرح هذا الوضع العديد من الأسئلة أهمها: هل تخلص تاريخ العلاقات بين البلدين من شوائب العداوة المبطنة أم لا يزال يحمل بين طياته رواسب العنف والعنف المضاد الخفي؟ ماذا تعني بالنسبة لأجيال اليوم قنبلتا هيروشيما وناجازاكي (6 غشت 1946) واللتان كانتا مستهلا للحرب الباردة؟ ما مكانة ووزن الصمت والكبت في مخيل وسيكولوجية اليابانيين؟
قلة قليلة من الباحثين عكفوا أو يعكفون على ما تعنيه في المخيل وفي الواقع أيضا أمريكا، الولايات المتحدة كاسم، كتاريخ، كاستعمار كاسح وسلطة نافذة. يعتبر الفيلسوف أوسامو نيشيتاني استثناءا في هذا المجال. فهو من مواليد 4 مارس 1950 بأيشي باليابان وكان عمره أربع سنوات لما دمرت هيروشيما وناجازاكي البلدتين. درس بجامعة الحقوق والآداب بطوكيو قبل أن يتابع لمدة سنتين إعداده لشهادة الدروس المعمقة في الآداب الحديثة بفرنسا وذلك بين 1979 و 1981 بجامعة باريس الثامنة. اليوم يعمل أستاذا بجامعة مايجي بطوكيو ويسهر على تنشيط مختبر للدراسات الشمولية وتحديدا موضوع تحولات العالم المعاصر. صدر له مؤخرا عن منشورات سوي في 323 صفحة كتاب في عنوان «امبريالية الحرية. نظرة مغايرة لأمريكا».
ما هي ومن تكونه امريكا يتساءل الفيلسوف. كيف تشكلت؟ ولماذا لقبت بهذا الاسم؟ ما العلاقة بين أمريكا والولايات المتحدة؟ كيف فرض هذا البلد، باسم الحرية، نفسه على العالم؟ ما الفرق بين إمبريالية الولايات المتحدة والامبريالية التي فرضتها أوروبا على مستعمراتها؟ إنها بعض من الأسئلة التي يطرحها الفيلسوف نيشيتاني بغية الوقوف عند منطقها وتكوينها الداخلي. أطلق اسم أمريكا على القارة المجهولة من طرف سكان العالم الغربي المسيحي بدءا من القرن الخامس عشر. قبل أن يصبح «العالم الجديد» وهو اسم يحيل على الحرية التي تحققت لما استقر الأوروبيون في «الأرض البكر»،
كما هو معروف التحق اليابان بالنظام العالمي منذ 150 سنة. والمعروف أنه لا يمكن للجهات أو البلدان التي لا تنتمي للغرب أو التي كانت ترزح تحت الهيمنة الغربية، الحصول على الشرعية والاعتراف إلا إذا دخلت أو التحقت بهذا النظام. من جهته حاول اليابان أن «يتغرب» (يصبح غربيا) على المستوى الثقافي (وكان أول بلد أسيوي يدخل في جوقة «الدول المتحضرة»)، باختياره التخلي عن آسيا والالتحاق بأوروبا من خلال ما سمي بعصر نهضة ميجي: نهاية حكم الشوغونية وبناء الدولة اليابانية الحديثة مع قيام دولة مركزية.
كان بإمكان اليابان أن يصنع حداثة مميزة تترجم تطلعاته إلى عالم جديد. لكن طموحاته الاستعمارية ورغبته في اللحاق بالغرب انتهت بهزيمته وتعلقه بالعجلات الخلفية للولايات المتحدة الأمريكية. ويؤكد نيشيتاني على ان نظرة اليابانيين للعالم تبقى نظرة أمريكية. وساد الاعتقاد بأن هذه النظرة من شأنها نشر الحضارة والتحرر، بحيث أصبح خطاب الامركة موضوعا معياريا ومرجعيا. لكن بدت الأمارات الأولى لأعراض الانهيار في بداية القرن الواحد والعشرين حيث عم الحديث عن «انهيار أمريكا» والذي قد يجرف معه العالم بأسره. في فترة الأزمات تلجأ أمريكا للحرب بصفتها الذراع المسلح الذي أنقذها وينقذها من المطبات الكبرى والصغرى: سواء ضد الهنود الحمر، المكسيك، إسبانيا، الفيتنام، حرب الخليج وأفغانستان الخ… وفي كل مرة كانت تتحدث عن خصومها كـ «أعداء يجب تصفيتهم ». يتم توصيف هؤلاء الخصوم على أنهم «قطاع طرق» أو «دول فاسدة» أو «قوميات بربرية لا دين لها ولا قانون»، “إرهابيون” الخ….
بعد حرب فيتنام وحرب الخليج شرعت أمريكا في تعيين كتل أطلقت عليها تسمية «أعداء الحرية»، «أعداء أمريكا». هذه الكتل حمالة للخوف والرعب. إنها كتل الإرهابيين. وقد عمل السياسيون والإعلاميون على ترقية كلمة «إرهاب» و «إرهابي»، اللتان أدرجتا في المعجم السياسي وبالأخص الحربي. باسمهما أصبحت تبرر كل الحروب التي يشنها الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية. وينظر الغرب لهؤلاء الإرهابيين على أنهم كائنات ليس من الضروري الاعتراف بحقوقها الإنسانية. لأنها «كائنات لا إنسانية» يمكن تصفيتها من دون أدنى عقاب بل ويستباح قتلها! هكذا ألغيت جميع القيود المفروضة على عنف الدولة. المقاربة التي أنجزها نيشيتاني في هذا الكتاب هي التأمل في نشأة أمريكا وتطور نظامها انطلاقا من موقف لا-غربي. كما انكب على دراسة اليابان الواقع تحت الهيمنة الأمريكية. تشكلت الدولة الأمريكية بناء على فعل تدمير لحضارات سابقة مثل حضارة الهنود الحمر، حضارة المكسيك مع اعتبار أن ما يقع ويوجد ماوراء المحيط الأطلسي ليست سوى أرض بدون حاكم ويجب تصفية أهاليها! وعليه تعطي أمريكا لنفسها، باسم الحرية، حرية تصفية وإبادة الأخر من دون حسيب ولا رقيب ولا رادع.