أرخبيلات المنافي
باريس- المعطي قبال
لبسط هيمنته بالمكشوف، دأب الاستعمار على تحقير وتصغير المناهضين له. ومن بين الأساليب التي مارسها الإقصاء والانتقام والإذلال مع نفي المعارضين إلى جزر نائية أو إلى أرخبيلات لا يفر منها السجناء والمعارضون إلا فيما نذر. وقد عرض علينا فيلم «فراشة» من بطولة ستيف ماك-وين وداستن هوفمان بإخراج مايكل نير، وقائع هذا العالم الموسوم عنفا، تحرشا، وأحلاما بالفرار. فيما يتعلق بالشخصيات السياسية، فالأمر يختلف كلية. لم يفكر سعد زغلول لما أبعد في المرة الأولى إلى جزيرة مالطة عام 1919 ثم في المرة الثانية عام 1921 إلى جزر السيشيل. ولا عبد الكريم الخطابي لما نفي إلى جزيرة لارينون عام 1926 أو مسالي الحاج إلى جزيرة بيل إير أون مير Bel air en merh; أو الحبيب بورقيبة إلى جزيرة لاغاليت… دون الحديث عن منفى سيدي محمد بن يوسف الذي نفي إلى جزيرة كورسيكا عام 1953، لم يفكروا في الفرار .
في دراسة بعنوان «الجزريون. المنفيون السياسيون بكورسيكا»، منشورات ريفنوف، يركز أنطوان هاتزينبيرغ بحثه عن السلطان محمد الخامس، ظروف إبعاده عن المغرب، إقامته رفقة العائلة الملكية ببلدة زونزا مقر إقامة العائلة، ثم طاقم الحراسة الذي أنيطت به مهمة الحراسة. لا يفكر هؤلاء إذا في الفرار لانه تقع على عاتقهم مهمة سياسية وأخلاقية هي تحرير بلادهم. وتبدأ حكاية اهتمام المؤلف بالموضوع غداة زيارته لباستيا عاصمة كورسيكا للمشاركة في مناظرة عن الفيلسوف جان-جاك روسو الذي كان قد أعد مسودة مشروع دستور لكورسيكا لم يكتب له مستقبل. ثم تذكر المؤلف إقامة جده بكورسيكا في الخمسينيات وكان هذا الأخير مفتشا للشرطة بمدينة ستراسبورغ قبل أن يعين من قبل الحكومة الفرنسية مسؤولا عن الحماية المقربة لعائلة محمد الخامس. في مقابلاته مع الصحافي إيريك لوران لم يشر الحسن الثاني بتاتا لمنفى والده بكورسيكا. وحده طبيب العائلة الملكية هنري ديبوا-روكبير، والذي سقط تحت طلقات النيران بعد الهجوم على الصخيرات، من تحدث عن هذا المنفى في كتابه “محمد الخامس، الحسن الثاني كما عرفتهما” (صدر عن منشورات طارق). بدوره لم يتحدث ولو بإشارة واحدة جد الكاتب لهذا الفصل من حياته إلى جانب العائلة الملكية. لم يكن جده مؤرخا وإنما حارس شخصي مطلوب منه حماية الأشخاص والتزام الصمت. هذا في الوقت الذي دارت فيه على البحر المتوسط أحد الفصول القصيرة والمهمة للتاريخ الهام لنزع الاستعمار. بموته وبموت صمته، طفت على السطح صور ناطقة بمهمته بكورسيكا وهي صور لم يكشف عنها طوال حياته. تقدم لنا هذه الصور فكرة عن عمله الإداري لكن تحيلنا كذلك على ذكريات تاريخ مشترك بين الجمهورية الفرنسية والمملكة المغربية. خطت على هامش هذه الكليشيهات ملاحظات بريشة مدادية. كما تظهر أمكنة وشخصيات: الساحل، الجبال، رجالات شرطة فرنسيين يرتدون كسوات بموضة الخمسينيات. كما نرى أفرادا من العائلة الملكية: مولاي الحسن، مولاي عبد الله او للا عائشة وسط طاقم الحراسة. هي في الواقع كليشيهات سينمائية لمنفى ذهبي يقول الكاتب. إن عاملت السلطات الفرنسية العائلة الملكية بالمغرب بنوع من القسوة فإنها غيرت من سلوكها بوصولها إلى كورسيكا. ويذكر المؤلف أن محمد الخامس تم نقله يوم 20 غشت ليلا وهو في بدلة بيجاما ويرتدي جلابة قبل أن يركب طائرة من نوع دي سي 3 نقلته صوب كورسيكا. وكان الجنرال غيوم هو من أشرف على العملية.
حتى ولم تقرأ هذه الصور قراءة عميقة مع وضع أسماء على أوجه أصحابها، فإنها مع ذلك تبقى الشهادة الوحيدة التي يملكها الكاتب. ثم هناك السؤال الذي مافتيء يراود هذا الأخير: “كيف لجدي ان وجد نفسه مرافقا لسلطان المغرب خلال منفاه بكورسيكا؟” على أي كان هذا المنفى بداية نهاية لمسلسل تصفية الاستعمار.
الأرخبيلات استعارة لكسر معنويات المقاومين . حرب سيكولوجية قذرة استعملها الاستعمار ضد رموز المقاومة، مغاربة أو عرب، من دون أن يكسب معاركه الخاسرة.