كيف سيخرج بوتين من الورطة الأوكرانية؟
عبد الرحيم ازريويل
بدأت حرب روسيا في أوكرانيا تندرج في الاستمرارية والديمومة، وهو أمر مُحيِّر بل مقلق لمن كان ينتظر من أعظم جيوش العالم أن تنهي “عمليتها” العسكرية في أجل قصير. الأنكى من ذلك هو أن هذه هي المرة الثانية التي يتراجع فيها الجيش الروسي بعد تخليه عن منطقة كييف الاستراتيجية سياسيا.
كيف يمكن تفسير انتصار الجيش الأوكراني شمالي شرق أوكرانيا وخداعه للقادة الروس، بأن المعركة الكبرى يتم إعداد العدة لها جنوباً في منطقة خيرسون، بغاية قطع طريق التراجع على الخصم وتطويقه؟
صحيح أن المعركة الأخيرة في منطقة خاركيف تمت بمساعدة هائلة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في حلف الناتو (دعم بأسلحة بقيمة ملايير الدولارات وبمعلومات استخبارية بشرية وتقنية هائلة…)؛ ولكن، ألم تتوقع القيادة الروسية هذا المآل؟ أكانت تتصور أن غزو أوكرانيا سيكون بمثابة نزهة سيصمت عنها الخصوم التارخيون، الذين فككوا الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينات، ويتربصون الفرصة منذ ذاك لتفكيك روسيا والاستيلاء على خيراتها اللا متناهية؟ ألم ينتبهوا إلى تصريح الرئيس البولوني السابق، الذي رأى أنه ينبغي “درء شر روسيا بتقسيمها وتفكيك أراضيها الشاسعة، إلى دويلات لا يتجاوز عدد سكانها الخمسين مليونا”؟
ثمة فرضيات شتّى قد تفسر هذا التذبذب العسكري: إن الجيوش الروسية تحارب خارج وطنها، معتدية على كيان أججت فيه شعورا قوميا لم يكن موجودا بقوة من قبل. ثم إن معنويات الجيش الغازي ليست بالقوة التي كانت ستكون لديه لو كان يدافع عن ترابه (كما حصل خلال الحرب العالمية الثانية، وكما لم يحصل ذلك في حرب أفغانستان…).
أليس الجيش الروسي سجين نظرية حربية تتجاوزها باستمرار متغيرات الساحة العسكرية؟
لنرجع قصد التفكير في تلعثمات الحرب في أوكرانيا، إلى كارل فون كلاوزفيز K V Clausewitz الجنرال منظر الحرب في القرن التاسع عشر، لنأخذ العبرة منه في هذا الشأن: “علمتنا روسيا خلال حملة 1812 [غزو جيوش نابليون لروسيا]، أن بلدا يملك أحجاما شاسعة، غير قابل لأن يكون موضوع غزو، ثم علمتنا هذه التجربة أن احتمالات مؤدى كل غزو لا تتوقف على مدى الخسائر في المعارك، ولا على خسران العواصم والولايات (وهو مؤشر كان يعتمده الديبلوماسيون بصفته مبدءأ لا يتزعزع “).
إن الدرس الذي يستنتج من الحملات ضد روسيا (ومنها مثيلتها النازية بعد أكثر من قرن من الحملة الفرنسية)، هو الذي يبين أن المحارب يكون في ذروة قوته حين يقاوم داخل بلده. هذه الحقيقة المفارقة تجد تفسيرها في كون المهاجم الغازي يضطر شيئا فشيئا، أثناء هجومه إلى مضاعفة مجهود مُنهِكٍ، ويضطر إلى تمديد خطوط مواصلاته، وبالتالي تشتيت جزء كبير من قوات الطليعة لديه والقوات المفروض فيها حماية خلفياته، وذلك داخل تراب لا تكف مساحته تتعاظم .
أليس ذلك شأن الجيش الروسي في أوكرانيا، إذ تمتد المساحة التي يحتلها، من الشمال إلى الجنوب شرق البلاد، لأكثر من ألف كيلومتر؟
في المقابل يرى كلاوزفيتز أن الجيش المدافع يرى خطوط مواصلاته تتقلص ويحارب داخل تراب يعرفه حق المعرفة لأنه وطنه، ويجد طاقة معنوية في الصراع الذي يقوم به داخل بلده. هذا في الوقت الذي تضمحل فيه طاقة المهاجم المعنوية وتتآكل، ويعرض جوانبه أثناء حملته للتعرية، إما بفعل الخسائر التي يتكبدها أو بفعل الإنهاك الذي يتسبب فيه تصريف مجهوداته. لذا فإن ثمة استراتيجية تقوم على ترك الخصم وجرِّه إلى إنهاك ذاته في مجهودات الهجوم .
لاينبغي إذن التقرير في مصير حرب وفق نتائج المعارك الأولى، حيث من الممكن أن يخسر القائد العسكري كل المعارك الأولى (يتخذ كلاوزفيتز في هذا الشأن مثال الجنرال الروسي koutousov في مواجهته لنابوليوون) ويربح الحرب مع ذلك في النهاية؛ كما يمكن للقائد أن ينتصر في كل المعارك (كشأن نابوليون في حملته ضد روسيا) ويخسر الحرب خسارة عظيمة .
إن مؤدى ما سبق من إحالة على كلاوزفيتز هو بيان الوضعية غير المريحة للجيش الروسي داخل أوكرانيا؛ فلا هو جيش شعبي يقاوم معتدين داخل بلده، ولا هو جيش مسكون بمعنويات عالية، ولا هو مدعم بتأييد شعبي. ولنا في النداء الأخير للتعبئة العسكرية “الجزئية” خير مثال على تراجع فجائي، من خطة ترمي إلى القيام بمجرد عملية عسكرية محدودة إلى تعبئة حربية لا يعلم أحد متى ستتوقف، وهل ستتم الاستجابة لها طواعية من طرف الشعب الروسي. كما لا يغامر أحد بالرهان على مستقبل الطغمة الحاكمة في روسيا، إذ تفاقم الحروب من تناقضات الطبقات الحاكمة.
في جميع الحالات فإنه يبدو من الآن أن حربا كهاتة غير قابلة لأن يفوز فيها أي طرف، ولو كان الجيش الروسي “الجرار” يواجه بقوة متقادمة ميدانياً، جيوش المعسكر الغربي التي تحارب بالوكالة .
ليس ما سبق ازدراء لقوة الجيش الروسي الذي يملك تاريخا مجيداً منذ قرون، وليس خيبة أمل في انتظارات محبطة، بل تساؤل عن مغامرة مصنوعة سياسيا، مؤداها قد يكون مثيلا لمؤدى كل المغامرات. غير أن قوى امبريالية عظمى كالولايات المتحدة الامريكية تملك ما يكفي من الآليات السياسية لامتصاص صدمات الهزائم العسكرية، كما كان الشأن في الهزيمة الأمريكية في كوريا خلال الخمسينات من القرن الماضي (هزيمة كان الجنرال ماك أرتور Douglas Mac Arthur يضغط لاستعمال السلاح النووي لدرئها…)، أو الهزيمة أمام الثوار الفيتناميين خلال سبعينات القرن الماضي، وهزيمة الجيش الفرنسي في ديان بيا فو في الخمسينيات …
هل تملك روسيا، التي يقودها حكم سلطوي، من آليات سياسية تسمح بتخفيف وقع كوارث الحرب، عن طريق تداول السلطة سلميا والإفراج عن الآراء السياسية المختلفة كضرورة في هذا الشأن؟
لنرجع مرة إلى كلاوزفيتز لمحاولة مقاربة ما وقع مؤخرا من تراجع للجيش الروسي في منطقة خاركيف شمال شرق أوكرانيا. قام الأوكرانيون بمناورة غايتها خداع خصومهم؛ مضمون هذه الخدعة هو إيهام الخصم بهجوم كبير في منطقة خيرسون، وجعل هؤلاء يستجمعون قواهم وانتباههم هنالك. وقد تصور جل المراقبين أن غاية الجيش الأوكراني هي الالتفاف على الجيش الروسي ومحاصرته بقطع طرق التراجع عليه (وتلك خطة عسكرية متداولة، عانى منها الجيش المصري وهو منتصر في حرب 1973، حين اكشف الجيش الإسرائيلي بقيادة مجرم الحرب الجنرال شارون ثغرة الدفرسوار، التي نفذ منها للعبور إلى الضفة الغربية من قناة السويس ومحاصرة الجيش المصري الثالت…). لكن الهجوم أتى من حيث لا ينتظره أحد: حوالي ألف كيلومتر شمالاً عند خيرسون. كان للخدعة النتيجة المعروفة: تراجع الجيش الروسي بشكل مفاجئ غيرمتوقع.
أليست “الحرب خداع”؟ كما في المأثور العربي…
هذه الفكرة يدعمها كلاوزفيتز من زاوية مغايرة، حين يؤكد أن النظرية حين تزعم تقديم قوانين ووصفات للفاعل العسكري، فإنها تصطدم بواقع أن المحارب غالبا ما يقوم بفعله بالاستناد على موهبته، دون الرجوع إلى صنافات قوانين الحرب. لا يعتبر كلاوزفيتز الحرب تقنية، بل يعتبرها فناً un art ، فالحرب بالنسبة له مسألة ذات صلة بالعبقرية le génie، أي ما لا تستطيع لا المعرفة ولا النظرية إنتاجه. فتعقيدات عملياتها وخصوصيات تطوراتها تستلزم طبيعة موهوبة. تقوم عبقرية القائد على إيجاد حل أوحد لإشكالية مفردة وغير متوقعة بالتالي – حل يضمن الانتصار. فالعبقرية في الحرب هي الفرادة، إذ تتضمن الحرب مناسبات كلها فريدة وغير قابلة للتوقع؛ وحده القائد العبقري قادر على اقتناصها. وتُفسَّرُ فرادة الحالات وعدم قابليتها للتوقع، بعوامل شتّى، منها تعددية العناصر المكونة للحالة، تفاعلها فيما بينها (منتوج فعل ما يتوقف جوهريا على الطريقة التي يستقبلها بها الخصم ويؤولها). في كل مرة ابتكر فيها القائد حلّاً أصيلا، فإنه يضع نفسه في تناقض مع العقيدة العسكرية التي تزعم وضع تشريع للحرب .
ليست الحرب، حسب هذا المنظر، مجرد تصادم لقوى فيزيقية، لأن العوامل المعنوية فيها تلعب دوراً حاسماً، إذ لا تقاس قيمة جيش بقوة النار لديه، ولكن بقوة التصميم والعزيمة أيضاً وبمدى تماسكه وتجانسه.
لهذا الطرح النظري لدى كلاوزفيتز صلاحية بل راهنية فيما يخص الحرب الروسية في أوكرانيا، إذ يبدو أن الجيوش الغازية غاصت في حقل ملغوم، وتأخرت في إنجاز النتيجة التي كانت تنتظرها في ظرف وجيز.
<
p style=”text-align: justify;”>إن كفاية التوقع السياسي هي خاصية مفصلية لدى القائد السياسي، ولكن الغريب هو أن القيادات السياسية ترهن مستقبل بلد عظيم بمستقبل حاكم لا هو بالديموقراطي ولا هو بالمتعقل، وكأننا أمام أمام شخص يبحر بالعين المجردة في مياه غير مطروقة .