غاستون باشلار: شعرية كوكبة نجوم

غاستون باشلار: شعرية كوكبة نجوم

 ترجمة: سعيد بوخليط   

يا له من ثور، وكلب، ودبّ

يا لها من أشياء انتصار هائل

حينما تلج الروح أزمنة دون موردٍ

 فإنها توجِب مكانا بلا شكل

(بول فاليري، مفاتن، نشيد سرِّي)

حول هذه اللوحة الضخمة لليلٍ ينزع نحو لون لازوردي، سينجز التأمل الشارد لعلم الرياضيات رسوما بيانية. لقد بدت من خلالها جميع كوكبات النجوم خاطئة، وإن بكيفية مبهجة!  بحيث ضمت كواكب غريبة كليا، في إطار  نفس الشكل.

يجتذب الحلم الموشَّى بالنجوم، خيوطا متخيَّلة، بين مواطن حقيقية، ونجوم متباعدة مثل مجوهرات ألماس منعزلة.ضمن مجال رسم بالتنقيط اختُزل إلى حده الأدنى، أمكن للحلم،  هذا الأستاذ الكبير لفن الرسم التجريدي، رؤية مختلف حيوانات الأبراج.

يضع الإنسان الصانع – صانع دواليب عربات كسول- في السماء عربة دون دولاب؛ يرسم الفلاح الحالم بحصاده سنبلة ذهبية بسيطة. أيضا، أمام فيض كهذا لقوى الخيال التصميمي، يبدو مضحكا التعريف المنطقي لـ ”كوكبة نجوم” في معجم (بيشريل):

”احتشاد عدد معين من النجوم الثابتة، افتُرض بخصوصها، قصد مساعدة الذاكرة، شكلا إنسانيا، حيوانيا، أو نباتيا، وإعطائه اسما آخر، بهدف تمييزه عن مجموعات أخرى من نفس النوع”.

فقط تسمية النجوم قصد ”تسلية الذاكرة”، كم يبدو الأمر تنكُّرا  لقوى الحلم المتكلِّمة! أيّ جهل بمبادئ التصميم المتخيَّل للتأمل الشارد! تمثل الأبراج الفلكية اختبار هرمان رورشاخ للإنسانية- الطفل. فلماذا نخلق العديد من علماء الطلاسم؟ ثم لماذا غيَّرنا سماء الليل بسماء الكتب؟ 

هناك العديد من الأحلام في السماء، لم تهتم بتسميتها قصيدة تزعجها الكلمات القديمة! كم من كُتَّاب الليل، بوسعنا مخاطبتهم: ”عودوا إلى مبدأ التأمل: حاضرة أمامنا تلك السماء المرصَّعة بالنجوم، كي نحلم بها وليس معرفتها. إنها تجسِّد دعوة إلى أحلام تؤثثها النجوم، وكذا بناء سهل وعابر لآلاف الأشكال المعبِّرة عن رغباتنا؛ تكمن وظيفة النجوم ”الثابتة” في تحديد بعض الأحلام، وإفشاء بعضها، أو العثور ثانية على بعضها. هكذا، يستدل الحالم عن البعد الشمولي للحُلُمي. فذاك الحمل، لراعٍ شاب، مثلما تداعب يدك وجوده في الحلم، ينساب هناك تحوُّله، خلال ليل فسيح! هل ستصادفه ثانية غدا؟ اختره لصحبتكَ. اشرعا معا  في وضع تخطيط لصورته، كي تكتشفه، ثم ترفع الكلفة نحوه. ستظهران معا امتلاككما لنفس الرؤية، والرغبة، وسترون خلال الليلة نفسها إبان العزلة الليلية، مرور نفس الأطياف. كمْ تسمو الحياة عندما تصبح خطيبة للأحلام!.

كمْ تحدِثُ المعرفة التي تضمنتها صفحات الكتب، تضليلا بل وكبحا لخيال السماء،  سندرك ذلك إن توخينا حقا إعادة قراءة بعض الصفحات التي رصدت مجموعة كُتَّاب أبانوا عن قلب مبتهج بصدد ”معرفة” فقيرة قدر كونها جامدة، أضاعت سبيل الحلم. ربما لدي مبرر  كي أقترح نوعا من التحليل النفسي- المضاد بإمكانه تقويض الوعي لصالح حُلُمية مُبَنْيَنة، وحدها طريقة تتيح  للتأمل الشارد استمراريته المريحة. فـ ”معرفة” كوكبة نجوم، وتسميتها على منوال استراتجية الكتب، بحيث تسقط على السماء خريطة مدرسية، يعني إبداء معاملة فظَّة مع قوانا المتخيِّلة، وكذا انتزاع فائدة تنطوي عليها حُلُمية مرصَّعة بالنجوم.

بغير وزن هذه الكلمات ”المواسية للذاكرة”- ذاكرة الكلمات، هذه الكسولة جدا الرافضة لأن تحلم- ستشكل بالنسبة إلينا كل ليلة جديدة تأملا شاردا جديدا، ثم نشأة متجدِّدة للكون. الوعي الرديء، وعي الجاهز، يؤثر سلبا كذلك على الروح الحالمة مثل اللاوعي المتهافت أو المشوَّه. يلزم على النفسية إيجاد التوازن ثانية بين المتخيَّل والمعلوم. لايكتفي هذا التوازن بتغييرات عبثية، بحيث نلاحظ فجأة اقتران القوى المتخيِّلة بخطاطات تعسفية.

الخيال قوة أولى. ينبغي له التبلور في خضم عزلة الكائن المتخيِّل. مثلما الأمر دائما، يقتضي الوضع الانطلاق، من صيغة شوبنهاورية، كي نفهم التأمل:

“ليل تزيِّنه النجوم، يمثل كوكبة نجوم خاصة بي. تمنحني وعيا بقدرتي على التنميق  بالنجوم. تضع بين أصابعي، كما يقول الشاعر، كؤوسا عديمة الوزن، أزهار هذا الفضاء”(1).

ستتاح لي صدفة من هذا القبيل، كي أمارس تحليلا نفسيا مضادا لصالح تطهير للمتخيَّل عند كاتب، يعتبر حالما كبيرا بفؤاده ثم فقيرا جدا على مستوى البصر.

أعتقد في هذا الإطار بأن جورج ساند – روائية أقرأ نصوصها بشغف نتيجة عبقريتها على مستوى خيال الطيبة البسيطة- تقدم نموذجا جيدا بخصوص رومانسية ليلية عالقة، وكذا حُلُمية تصلَّبت بذرتها جراء طلاء معارف منهكة. هكذا، بين ثنايا صفحات عدة ضمن أعمال جورج ساند، أضحى التأمل الشارد أمام سماء تلمع بالنجوم، درسا لعلم الفلك بدا تحذلقه المعرفي مدعاة للضحك.

عندما عشق أندري جونيفييفGeneviéve ، امرأة لطيفة وأنيقة، سيبادر أولا إلى ”تلقينها” علم النبات، بمعنى تسمية الورود علميا، بعد ذلك شرح لها أسرار السماء الليلية: “أندريه سعيد، مزهو، فقد تأتى له للمرة الأولى خلال حياته، تلقين شيء ما، بحيث شرع يشرح لها نظام الكون، معتنيا بتبسيط مختلف الدلائل وجعلها في متناول تلميذته.الأخيرة أدركت بسرعة: هناك لحظات يدفعها أندريه المحتدِم، كي تؤمن بقدرات عجيبة”. 

تستكين جونيفييف إلى عزلتها (ص 103): “عند حلول الليل، تجلس فوق ربوة لأشجار نبات الزعرور، كي تتأمل بزوغ الكواكب التي شرح لها أندريه حركتها. إنها تحس سلفا بتأثير، هاته التأملات التي تشعرها كما لو أنها تغادر سجنها الأرضي كي تحلق صوب مناطق أكثر نقاء”. بالتالي، تمتزج هنا الأنشطة التخييلية والذهنية بعد سياقات تضادهما، الواحدة نحو الثانية.

رغم أن  جورج ساند تدين لي بمقاربة نفسية فيما يتعلق بحرية فضاء ”أرين” ،مثلما أشارت إليه، وكذا تمدُّده عبر حلم مرصَّع بالنجوم، فقد ألهمت قارئها أفكارا. ثم أيّ أفكار، حين الإحالة على ما أوردته دون تردد في رسالتها: ”يلزمك الاهتمام بالفلك. فلن تتجاوز مدة تعلُّمه ثمان أيام!. بوسعنا أن نكتشف على امتداد عمل الروائية تأثير هذه ”النجمة المُعَقْلنة”، التي شكلت موضوع تأمل فقير  كأنها “شمس بعيدة”.

في إطار تأمل متحذلق، ببساطة شديدة، تأتَّى لكواكب النجوم وضع اسم على امتداد السماء، ليس أكثر من اسم. ستضفي أجمل الكواكب، نجمتي الماعز و العقرب، رنينا على مشهد ليلي. يعكس الاسم وحده علما بالفلك؛ تخلط أحيانا جورج ساند بين كوكبي”الزهرة” و”الشَّعْرى اليمانية” (سيريوس)، الأخيرة نجمتها المفضَّلة، ينبغي لها التألُّق خلال اللحظات المأساوية التي تكتنف ليالي ساند. طبعا، هذا الهيجان بخصوص تسمية النجوم ليس متعلقا بجورج ساند، بل نصادفه لدى العديد من الشعراء.

مثلا تظهر لنا صفحات كتاب ”صحن كنيسة” لصاحبه إليمر بورجيس، أمثلة عديدة بخصوص هذا التفخيم الدرامي لسماء تزيِّنها النجوم. لن يتردد الكاتب المعاصر،حين حديثه عن سماوات قديمة، كي يميز خلال ليل :“كواكب سيارة هائلة تنجذب فيما بينها”(ص 254). ”شغوفا مثل أورانوس، الإله الأسمى الذي يشكِّل جوهر الكوكب، والأرواح ثم الأفكار.أرأيت! تنساب آلاف العوالم، بين طيات كل واحدة من أشعتي. أبعد من هذا الكون الصغير حيث تتدلَّى الأرض، ضمن سلسلة كواكب سيارة، سيكتشف بصركَ نيرانا متعددة الألوان، أكثر وفرة من أمواج الوديان أو أوراق الغابات. بدورها، تحلق هذه الكواكب السيارة الهائلة، تجذبها كواكب أخرى، ثم أيضا أخرى، وهي تحوم ضمن شعلها الفوسفورية وكذا أعاصيرها الهائجة، وقد انتشلها رقص دون توقف صوب سعادتها اللانهائية”. 

طيلة مختلف لحظات تشكُّل الحياة الليلية حينما تمتزج الأجناس، ويتحقق الجمع بين الأحلام القديمة والمعارف النيوتونية، لم يتمكن إليمر بورجيس من مشاركة تلك الحياة، أو استمالته القارئ نحوها، وجعله يحيا بتأنٍّ نشأة الكون الليلي وأنواره. الحلم ديناميكيا بالليل قوة بطيئة، ترفض الصخب والطنين المكتسحين لعمل بورجيس.  

تبدو لي، ضرورة أن يستعيد الخفيّ تلك الأشكال الكبيرة للطبيعة، بفضل القصيدة الحقيقية، الأصيلة. لانقدم شيئا معينا إلى قوة الإشارة، حين الهمس باسم يد الجوزاء (النجم العاشر) والنجمة تلمع في السماء. كيف ندرك، يتساءل طفل، بأنها تسمى يد الجوزاء؟ ليست القصيدة تقليدا. القصيدة حلم أولي، وإيقاظ لصور أولية.

لا تنطوي انتقاداتي من جهة أخرى، على مضمون مطلق.ذلك أنه بوسعنا العثور ثانية، بين طيات الخيال المعاصر، رغم الاستعمالات السيئة لكلمة موحِيَة، عن فعل صورة أولى. بعيدا عن كل تصميم، وجراء نوع من السحر اللفظي، تبدو كوكبة نجوم مثل صورة أدبية خالصة، لايمكنها أن  تحظى بتثمين سوى  في إطار الأدب.

حينما كتبت جورج ساند في (ليليا) (طبعة كالمان ليفي، ص 73): “تغوص بطاريات نجم العقرب وسط البحر، الواحدة تلو الأخرى، حوريات جميلة، أخوات لاتنفصلن، وتظهرن كما لو تحضن إحداهن الثانية وتتدرَّبن بدعوة إحداهن الأخريات إلى شهوات استحمام عفيفة”. ليس مطروحا اكتشاف القارئ حيثيات المشهد الوارد. فقط، هل يعرف بأن كوكبة نجم العقرب تحشد أربعة نجوم؟ لكن من خلال صورة الكواكب السيارة، التي تتمرن بهدوء في إطار حركة مشتركة- صورة لها قيمتها فقط بالنسبة إلى الأدب – سيأخذ التأمل ضمن صفحات نص ليليا، قيمة ديناميكية.

يضفي الشاعر الحقيقي حركة على قصيدة من خلال مقاطع شعرية معينة. يقول شارل فان ليربيرغ (2): 

موجات كبيرة تؤثثها نجوم

تنبعث خلال ليل يرتجف وقد خبا نجمه.

اقتفاء الأثر التدريجي للحركة التي توحي بها فقرات رواية ليليا، يجعلنا نشعر بالتناوب أن النجوم تختفي وسط البحر. يمنحها الحالم حركة شاملة، لذلك تعمل كوكبة النجوم التي تنتعش بهذه الكيفية على تحريك كل السماء  الزاخرة بالنجوم. بالتأكيد، سيكتفي كاتب متسرِّع قصد إخبارنا بأنَّ النجوم تختفي تباعا في البحر، أما القارئ المدمن دائما على خطاطة الكتب، فلن يفكر قط سوى في الفجر الوشيك. القارئ ”يقفز على  التفاصيل” لأننا لم نعلمه كيفية تذوق ”الخيال الأدبي”.

هكذا، تكمن حسب اعتقادي إحدى الوظائف الأساسية للصورة الأدبية، في تعقُّب ديناميكية خيالنا وتأويله.من الطبيعي جدا أن تعاشر ديناميكيا كوكبة نجوم، بدل نجمة منعزلة. يحتاج الخيال إلى امتداد وكذا إبطاء. بشكل خاص، يحتاج خيال المادة الليلية إلى البطء، أكثر من أيّ شيء ثان. كم زائف هذا الأدب الذي يسرع، ولا يترك لنا  مجالا لقراءة صوره، فينتزع منا حق إطالتها ضمن تواتر عادي للأحلام يلزمه إثارة كل قراءة.

إذا تأملنا بكيفية دقيقة درس الديناميكية المتخيّلة المستلهَمِ من كوكبة نجوم، سندرك بأنها تلقِّننا نوعا من البطء المطلق. بهذا الخصوص، يمكننا القول مثلما يفعل برغسوني: “سنلاحظ بأنها انعطفت، دون أن نرى أبدا كيفية فعلها ذلك. تعتبر سماء النجوم، الأكثر بطئا مقارنة مع الأجسام المتحركة الطبيعية. ثم، المتحرك الأول ضمن نظام البطء. يضفي هذا البطء خاصية ناعمة وهادئة. إنه موضوع انخراط لاواعٍ يمكنه بعث انطباع مميز، أساسه خِفَّة هوائية شاملة.تلتئم صور البطء وكذا ثِقَلِ الحياة. مثلما لاحظ روني بيرثيلوت (3): ”لم تتوقف المقارنة بين البطء الاحتفالي بحركات على نحو شعائري ضمن الاحتفالات، مع حركات  الكواكب”.

يظهر بأن القصيدة النثرية المعنونة بـ ”الكاهنة” لجورج موريس دو غيران (4): حظيت بجانب كبير من جمالها الطاغي، نتيجة هذا ”السفر الثابت” لكوكبة نجوم في السماء. سياق يدعو إلى استحضار صفحة رائعة، توضح انتعاشة الكائن عند القمم ضمن نطاق حياة هوائية  “أرتقي نحو مستوى الجبال التي تستقبل خطى الخالدين؛ لأنه ضمن صفوف هؤلاء من يسعده المشي مقتفيا آثار سلاسل القمم، وقد تسيَّدوا على مسيرتهم الثابتة فوق تموجات القمم. حين الوصول إلى تلك المرتفعات، أدرك عطايا الليل، ثم الهدوء والنوم. إنَّها استراحة تماثل استراحة الطيور، أصدقاء الرياح وباستمرار محمولة بين طيات انسيابها”.

يبدو بأن الحالمة تنام في الأعالي تحت كنف أوراق الأشجار، تبدي بهجة حتى في خضم نومها حيال “انتهاكات الرياح”، بروح ”تنفتح بكيفية ما على أبسط الروائح المتأتية من قمم الغابات”.

إذن الكائن المستكين في الأعلى، ينام نوما هوائيا حقيقيا، سيعيش ثانية أسطورة كاليستو التي عشقها جوبيتر، فانتقلت إلى السماء بفضل الإله (ص 45): ”ينتزع الإله جوبيتر غابات كي يضمّها إلى النجوم مهتديا بمصائره في إطار استراحة لم يعد بوسعه قط  الاستغناء عنها. لقد حظي بمأوى في عمق سماء قاتمة هكذا، تنظف السماء من حولها الظلمات العتيقة جدا، فأتاحت له مجالا كي يتنفَّس مبادئ الحياة التي لازالت في حوزتها نتيجة انتشاء أبدي، استمرت كاليستو متماسكة جهة القطب، بينما يمضي نظام كوكبة النجوم برمته، مخفِّضا مساره إلى المحيط ، تتأمل طيلة الليل، السكون من أعلى قمة الجبال”.

لازلنا هنا أمام صورة أدبية مطلقة. لم يتم تناول كوكبة نجوم كاليستو وفق شكلها؛ يحرص الشاعر جيدا حين تأويله للأسطورة مما يقودنا نحو دروس مدرسية. بصعوبة تتذكر كاليستو، بأنها اكتست إبان حياتها الأرضية، ”شكلا متوحِّشا جراء حسد الإله جونو”. لاامتياز لكوكبة النجوم هاته، بحيث لم يعمل الشاعر على توهُّج الأنوار. تنتمي حياة الصورة بأكملها في قصيدة موريس دو غيران، إلى الخيال الديناميكي.

كوكبة نجوم ضمن مقاطع هذه القصيدة، صورة للأعين المنغلقة، محض صورة حركة بطيئة، هادئة ،سماوية ،عن حركة دون صيرورة أو توقف، غريبة عن كل صدمات المصير أو إغواء أهداف معينة. يتعلم الكائن الحالم، لحظات تأمله الانتعاش من الداخل، تعلمه أن يعيش زمنا متناسقا، دون اندفاع أو اصطدام. إنه زمن الليل. تقدم لنا الحلم والحركة، في إطار هذه الصورة، دليلا عن توافقهما الزمني. يجابه زمن النهار آلاف المهام، مبعثرة قد استغرقتها تصرفات جامحة، تسكن الجسد وتنبعث منه ثانية، فيتبدَّى تبعا لكل خيلائه. يكتشف الكائن الحالم أثناء الليل الهادئ نسيجا مدهشا لزمن يستريح.

عندما نعيش تأملا شاردا من هذا القبيل، تغدو كوكبة نجوم نشيدا أكثر منها صورة. وحده ”الأدب” بوسعه التغني بهذا النشيد. نشيد دون إيقاع، صوت دون حجم، حركة تسامت بأهدافها ووجدت مادة البطء الحقيقية. سنصغي لموسيقى الأفلاك حين مراكمتنا مجازات عديدة، الأكثر تنوعا، بمعنى لحظة استعادة الخيال لدوره الحي كمرشد لحياة الإنسان.

عندما نعيد قراءة الكاهنة لموريس دو غيران، وفق مرتكزات الخيال الهوائي والديناميكي، سنعاين في إطار ذلك نموذج عمل لا يدين بأيّ شيء إلى إلهام قديم، بل على العكس، يتسم بكونه حاضرا كليا، وحيّا تماما. يمكننا خلال السطور الأخيرة تلمّس مفعول صورة غير محدَّدة على مستوى شكلها أو مرغوب فيها، ولا تتحقق سوى باستثارة للمتخيَّل. بشكل دقيق جدا، الحثّ الديناميكي لكوكبة نجوم. يرتبط بفضلها الحالم بالحركة، عند مصير السماء المرصَّعة بالنجوم (ص 51): ”أتسامى على وقع آثار هذه الكاهنة التي تسير أمامنا، مثل الليل، وعندما ينصرف الرأس كي يستدعي الظِّلال، يتجه نحو الغرب”.

كي نقتنع جيدا بالجمال الديناميكي لصورة موريس دو غيران، يستحسن ربما الاقتراب منها عبر نموذج صورة مذهلة أخرى تواترت أمثلتها في كتاب إليمر بورجيس ”صحن الكنيسة” (ص 45): “أخاطبكَ، أنت من يقود بغير كابح، هذا الطائر/ الحصان بريش نسر، وسط هاويات مزيَّنَة بالنجوم. حتما، مادمت أسمع صرخاتكَ، فبدورك قد بلغكَ مدى صرخاتي. من أنت محارب؟ شخص؟ إله؟ شيطان وسيط؟ أجبني؟ ما العدوّ السماوي المندفع عبر أورانوس،عقب تحليقكَ الملتهب؟ هل تعيش في سلام مع الأرض؟ هل امتطت مذبحة ورعب انطلاقتكَ؟”،وأيضا (ص 47) هذا التجسيد بألوان متوقِّدة، للبطل الإغريقي بيليروفون: ”هاها!  هاها! هاها!  دِرْعي، حيث يلتف الثعبان المتحمِّس للصعقة، أَضْرم النار في جسدي حَدَّ العظام.النجمة الساطعة عند أعلى خوذة برونزية تغطي دماغي الذي يغلي. تبعث عيناي  أفلاكا.تتقطَّع أنفاسي”.

إذا ارتأيتُ إبداء رأيي بخصوص هذا المصنع لـ ”وحوش أورانوس” بتطبيق المبدأ الذي سماه موريس بوشير، بكثير من العمق، الأبعاد الأربعة لكلمة شعرية: المعنى، هالة القداسة، المنحدر، ثم العمر، سنكتشف حينها بأن صورة البطل الإغريقي ”بيليروفون” مثلما استحضرها إليمر بورجيس تفتقد لهذا الرباعي العميق. هنا على العكس، من نص “الكاهنة” للكاتب موريس دي غيران، سيعمل التقليد على الخلط بين الأعمار. شكَّلت الكتب مصدر الإحالات. ولم تتعقب الحركة الجامحة منحدر الليل. أيضا، تغيب حُلُمية الدلالة وكذا هالة القداسة إلى درجة يستحيل معها نشأة أيّ تأمل شارد  داخل روح القارئ.لايبدو بأنَّ إليمير بورجيس  قد عاش بالخيال واحدة من قوى النزوع نحو تمثّل شخصية ”بيليروفون” المتميزة جدا  لدى حالمي الليل الحقيقيين.

يثير أيضا ضوء النجوم العذب والمتلألئ، تأملات شاردة أكثر مثابرة وانتظاما: أحلام يقظة مرتبطة بالنظرة. يمكننا اختزال جلّ مظاهر ذلك ضمن قاعدة واحدة: في خضم سيادة الخيال، فكل ما يلمع بمثابة نظرة.حاجتنا بهذا الصدد كي نرفع الكلفة كبيرة جدا، مادام الاستغراق في التفكير يعكس بشكل طبيعي جدا، بَوْحا شخصيا لأن كل ماننظر إليه نظرة شغوفة، بناء على أسى أو شوق، يحيلنا إلى نظرة حميمة، والتعاطف أو الحب، وحينما نُثَبِّتُ نجمة وسط سماء مجهولة، تغدو نجمة لنا، تلمع من أجلنا، تحيط بضوئها قليلا من الدمع، هكذا أمكن الحياة الهوائية أن تخفِّف عنا أحزان الأرض. يبدو، إذن بأنَّ نجمة قدِمت إلينا. يجترّ العقل تبريره دون طائل بأنها تاهت وسط الأرجاء: يجعلها حلم حميمي قريبا من فؤادنا. يبعدنا الليل عن الأرض، لكنه يعيد إلينا أحلام التضامن الهوائي.

بوسع تحليل نفسي لنجمة وكذا علم الكون، التطور بكيفية مسهبة نحو صيغ متقابلة، ستقدم نفسها في إطار وحدة خيال مدهشة، يقتضي اختبارها دراسات طويلة. يمكن في هذا الإطار بسهولة رصد إحالات عديدة ضمن نصوص أعمال شعرية تنتمي لمختلف البلدان والأزمنة. غير أنه فيما يتعلق بالسياق الحالي، سأكتفي بتقديم صفحة لامس خلالها حلم التحديق تجاه نجمة أقصى قوته على مستوى نشأة الكون. نستعيرها من عمل أوسكار ميلوش ”رسالة شعرية عن الحب العائلي”، أبرزت انبثاق دليل قوي عن وحدة الأنظار، بعد تأمل عبر مسافات لانهائية أمام فضاء للنجوم: ”أدرك، على امتداد تعاسة سمائنا الفلكية، نجمتين لامعتين استثنائيا، صديقتين حميمتين، جميلتين وشفافتين، وضع يجعلني أعتقد بأنهما ابتعدتا عن أصدقائهما بمسافات يستحيل تخيّلها. ثم خلال ليلة أخرى، سقطت فوق يديَّ من المصباح فراشة ليلية كبيرة، بدا فضولي متأهبا قصد استفسار عينيها المتوهِّجتين”. 

نعم نجمتان/ توأمان جسَّدت أصلا بالنسبة إلينا، وجها يتأملنا، أو تبعا لتقابل دقيق، بمثابة عينين ألهمتنا نظرتها، تؤثر كوكبيّا على روحنا مهما بدت غرابتهما إزاء حياتنا الخاصة. خلال لحظة، تتكسَّر عزلتنا. يتبادل هنا، النظر والاهتمام ديناميكيتهما : نتلقَّى ونعطي. تنعدم كل مسافة، ثم تنمحي لانهائية الهائل أمام لانهائية وحدة الشعور. يلامس عالم النجوم روحنا: إنه عالم النظرة.

مصدر المقالة :

Gaston Bachelard :Lair et Les songes .Essai sur l imagination du mouvement(1943).pp186-201.

هوامش:

(1)غي لافو : شعرية السماء ،1930،ص 30

(2) شارل فان ليربيرغ : حدوس ، بروكسيل،1898،ص. 49

 (3) روني بيرثلوت : البيولوجيا الفضائية والفكر الآسيوي، مجلة الميتافيزيقا والأخلاق، أكتوبر 1933 ،ص.474

 (4) موريس دو غيران :مقاطع مختارة، ص 39 .

Visited 23 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي