الانطباعية حين يتحول إبداع الفضيحة إلى الفن الأكثر جاذبية
فاطمة حوحو
الحركة الانطباعية رمزا لمرحلة هي الأكثر جاذبية في تاريخ الفن الحديث، لاسيما بالنسبة للجمهور، ويؤكد ذلك أعداد المعارض المتتالية والمقالات التي كتبت عنها وكذلك نسبة المبيعات التي حققتها والتي ضربت ارقاما قياسية، بينت التاثير الكبير وغير الاعتيادي لاعمال الرسامين الانطباعيين.
بدت الاعمال الانطباعية في فترة ظهورها انها اعمال عصرية لدرجة اعتبرها بعض النقاد نوع من الفضيحة بالنسبة للرسم واستلزم الامر اكثر من ثلاثين سنة كي يتقبل معاصرو ذاك الزمن تلك الاعمال. اما الان وبعد مرور وقت طويل على تلك المرحلة، يتبين انها كانت على صلة وثيقة مع التقاليد وشكلت مرحلة النضج الجمالي لابداع فني قريب من الواقع.
ثلاثون سنة مرت، قبل ان يستطيع المعاصرون التعود على ذاك الرسم، والسبب هو تعود الناس خلال اجيال طويلة على الرسم الاكاديمي الذي كان سائدا، على الرغم من الرسم الانطباعي لم يقطع الصلة بالرسم الواقعي، انما تجاوز حدود الماضي، بداية في خيارات مواضيعه وباقترابه من الحياة اليومية لكل الناس وباسلوب جديد تماما. اذ جاءت الحركة الانطباعية لتكسب اللوحات الطبيعية رؤية عصرية، باختيارها مواضيع مستوحاة من الحياة اليومية، وتصويرها بشكل حر وجديد مبني على الانطباعات الخاصة والشخصية، لكنها عادت وفقدت ميزاتها مع تطور الفنون في القرن العشرين.
وكان من الصعب حصر الحركة الانطباعية بمظهر واحد فهي مثلت موقف فني من الواقع المفرح والتسلية والجمال والطبيعة وبحث لا ينتهي عن الضوء. انه نوع من فن الحياة المنسجم مع تطلعات المجتمع الحاضر.
بين العام 1820 ـ 1850عرف الرسم في فرنسا حركات فنية متميزة مع الثورة الرومانطيقية وبطلاها جيركو ودي لاكروا ثم الثورة الواقعية مع كوربيه وكوروس،
ويمكن القول ان الانطباعية هي مدرسة فنية فرنسية بامتياز، ولدت على يد مجموعة من الرسامين التشكيليين الفرنسيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وجرى انتقادها بشدة في البداية. ظهرت هذه الحركة ما بين سنوات 1874- 1886عبر ثمانية معارض عامة في باريس، بينت الانقطاع بين الفن الحديث والاكاديمي. وغيرت في المفاهيم والنظرة للامور والاشياء وكان لهؤلاء الرسامين تأثير كبيرعلى الحركة الفنية لذلك العصر، ليس في الرسم فقط وانما ايضا في الادب والموسيقى.
ولد جيل الانطباعيين في الفترة الممتدة بين الأعوام 1830 ـ 1841، وعلى الرغم من أنهم كانوا يختلفون كافراد في خلفياتهم وتدريبهم وأمزجتهم تماماً، إلا أنهم كمجموعات وكانوا يملكون الاندفاع الحاد ذاته في التفرد والإخلاص.
كلهم قدموا إلى باريس حوالي عام 1860، ونشأت بينهم جمعياً زمالة صادقة، وتميزت مجموعتان في تكوينهما، إحداهما في الأكاديمية السويسرية وتركزت حول الرسام بيسارو، والأخرى في ستوديو ” غلير ” وتركزت حول الرسام كلود مونيه.
نشأ الانطباعيون المستقبليون في نظام سلطوي هو نظام نابليون الثالث الذي اعتمد سياسة ثقافية تتمحور حول عظمة الامبراطورية وكانت رؤيتهم مخالفة لذلك.
من هنا برز الانقطاع في التاريخ الفني في القرن التاسع عشر في فرنسا، ما بين الفن الرسمي والفن المستقل، وكانت سياسة الامبراطورية الفرنسية الثقافية تشجع الفن الاكاديمي الذي يصور الناس كما هم، ووضعت فنانين معروفين على رأس اكاديمية الفنون الجميلة وهؤلاء الرسامون التابعون لهذه السياسة الثقافية تنكرت للفن الحديث الذي مثله كوربيه وكورو ودي لاكروا.
وظهر هذا الانقطاع في مجالات عدة:
ـ سياسيا: الرسامون الواقعيون الذين كانت تشجعهم الدولة كانوا يرسمون الطبيعة كانوا مع الجمهورية ضد انقلاب نابليون الثالث.
ـ فنيا: كانوا يكرهون الميثولوجيا التي يلتزم بها الرسامون الاكاديميون ويريدون التعبير عن الجمالية السهلة للطبيعة وحياة معاصريهم الاكثر عوزا.
ـ اجتماعيا: كانوا من اوساط لا علاقة لها بالارستقراطية والسلطة.
ـ جغرافيا: كانوا يبحثون عن مواقع محجوزة للثورة الصناعية.
لكن سياسة نابليون لم تستطع منع كورو من نيل شهرة كبيرة ونمو لدرجة ان الجمهور الكبير بات يعرف اعماله، وكورو كاد ان ينهي اعماله حين ظهر الانطباعيون على المسرح وجعل الانطباعيون من كورو نبعا يستوحونه.
بحث الانطباعيون عن موقع لهم بعد ان تنفسوا الحرية مع كورو من خلال اول معرض لهم اقاموه في العام 1874. وكان الفن الحديث قد انتشر في اوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نحو رسومات سريعة وملتصقة بعالم الحياة لكنه يمر سريعا.
ظهر جيل الانطباعيين بين العام 1860 و1890 ولم يبق منعزلا لانه تطور في كل انحاء اوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر باتجاه رسم سريع وعصري متزامنا مع التفدم المتسارع بنمط الحياة.
كرست الواقعية الجديدة للانطباعيين هيمنة رؤياهم علي النمط التقليدي ونتج عنها نوع من الشبه للشروط التي تظهر فيها مكونات االلوحة اي الضوء والسماء والالوان وكان للرسامين رؤية مختلفة ومتقدمة على تلك التي كانت لمعاصريهم, ترجمها مانيه بقوله: “ارسم ما اراه وليس ما يريد الاخرون ان يرووه“.
محاولات الرسامين لترجمة رؤيتهم بكل تفاصيلها ومفارقاتها لم تعد بناء يتبع القوانين التي تعلموها واضطرتهم الى ابحاث تصويرية كثيرة فيما يتعلق بحدود الرسم واستعمال الالوان والتنويع بين الضوء والظلال وقد ادخلوا اساليب جديدة منها الالوان الزاهية ومزجها ورسم الاشكال والاحجام بلمسات من الالوان بدل تحديد حجم الشىء. التيار الانطباعي هو اذا اصل ثورة فنية كبيرة ما تزال حتى اليوم موضع دراسات وتحليلات تخدم مفهوما جديديا لدور الرسم ومكانته.
بحث الانطباعيون عن مواضيعهم في عالم الطبيعة كما في عالم الحياة التي يتحركون فيها وكل رسام عمل على تطوير موضوعه بطريقته.
بالنسبة اليهم الموضوع ليس المهم انما الرؤية والبحث التصويري للرسام. كانوا يهدفون الى رسم الواقع المحيط بهم في لحظة معينة وضمن شروط محددة. لذلك رسموا لوحاتهم بسرعة وبما يشبه التجربة السابقة لرسم اللوحة.
انه رسم اللحظة ورسم انطباع عابر، كانوا يعتبرون الرسم متعة شخصية توازي متعة القيمة الذهنية انه الفن للفن والفنان حر في ابداعه الشخصي.
علينا أن نكون جاهزين لايجاد الموضوع ، لا أمتعة ثقيلة نحملها . فرشاة أسنان وقطعة صابون فقط ،”هذا ما قاله الرسام “رينوار” الذي ارخى لحيته لعدم ضياع الوقت عند الحلاقة .
في العام 1860تنقل الرسامون على الدوام مع عدتهم الجاهزة للعمل. فقد فضل الإنطباعيون العمل في الخلاء لتصوير الطبيعة مباشرة، وليس داخل جدران المرسم، وقاموا احيانا برسم نفس المنظر مرات عديدة في ظروف جوية مختلفة لإظهار كيفية تغير الألوان وانعكاس الضوء على الاسطح في الأوقات المختلفة. لقد أعطى هؤلاء التصوير في الهواء الطلق سمة النبل والسمو مصممين على بذل كل ما في وسعهم لإظهار مدى التجديد في قلب عادات التصوير كلها وخلق جمالية عصرية
لاقى الرسامون الانطباعيون نقدا من اصحاب ومؤيدي المدرسة الواقعية ـ التي كانت المذهب السائد آنذاك ـ لم يعجبهم الأسلوب الجديد لهؤلاء الشباب، فقال احد النقاد ساخرا إنهم إنطباعيون، ويعني بذلك أنهم ينطلقون في أعمالهم من التأثر المباشر والإنطباع الأول الذي يأخذونه من ألوان الطبيعة .
اعتمد الفنانون الانطباعيون اساليب جديدة وهي:
1ـ الأسلوب التنقيطي: وهو أسلوب يتبع برسم اللوحة بكاملها عن طريق النقاط الملونة المتجاورة .
2ـ الأسلوب التقسيمي: ويعتمد هذا الأسلوب على تقسيم السطوح إلى مجموعة ألوان متجاورة صريحة دون أن يمزج الألوان أو يخلطها، فيرسم بألوان نقية صافية .
3ـ الأسلوب الثالث: يعنى برسم الأشكال أكثر من مرة في لحظات متغيرة من النهار، كأن يرسم الفنان منظراً للطبيعة في الصباح، ثم يعود ليرسمه في الظهيرة، ثم يرسمه في المساء عند غروب الشمس..
واذا كان الانطباعيون اليوم في ارقى درجات الرسم، فمن المهم التذكير بان رسمهم في بداياته لم يلق تفهما كما يبدو، بل لاقى احيانا استنكارا في عصرهم، ويقول احد كبار النقاد في كتابه “تاريخ الرسم” عن جيل الانطباعيين: “علينا ان نعجب بهؤلاء الرجال الذين لم يثنهم عن عزيمتهم الاحتقار الذي جوبهوا به والانتقادات والفقر ولم يغيروا لحظة واحدة من اعتقادهم واصرارهم على ان يتقبلهم الجمهور. انتظروا سنوات طويلة كي ياتي الجمهور اليهم ويحدث تغييرا في الرأي العام وسندهم في ذلك كان اعتقادهم بصحة مبادئهم وقيمة فنهم“.
خلال 25 عاما من 1860 ـ 1886 حين اخترع التصوير الفوتوغرافي بدا الانطباعيون يبتعدون عن الرسم الامين للواقع ليخترعوا اسلوبا فنيا كان شكل بداية لما يسمى الان الرسم الحديث.
يمكن اعتبار 1886 الذي شهد اخر معرض جماعي في باريس واول معرض لاعمالهم في الولايات المتحدة الاميركية بداية نجاح وبرهان على ان الانطباعيين بلغوا هدفهم واعترف بهم الجمهور والنقاد، في الوقت الذي كانت فيه الانطباعية تلقى صدى واسعا في كل اوروبا واميركا الشمالية.
مهد “مانيه” الطريق للرسامين الانطباعيين حين تمرد على التقاليد الاكاديمية التي باتت صارمة لدرجة انها كانت تمنع رسم الاشخاص العاديين المعاصرين في لوحات، لوحته “الفطور على العشب” والاخرى “اولمبيا” التي رسمها عام 1863 هي نوع من الكلاسيكية التقليدية انما معصرنة بفضل عبقريته ورؤيته، خصوصا في لوحاته العارية التي جعلت النقاد يتهمونه بانه يقوم بفضيحة، لكن بسبب ما اعتبر فضيحة وبسبب موهبته العظيمة حصل “مانيه” بسرعة على الشهرة واعتبر منذ العام 1864 رائدا لخلاف مابين الاقدمين والحديثيين. وقد اعتبره الانطباعيون المستقبليون مثالا لاسلوب جديد في الرسم ودليلا جديديا يتحلقون حوله ويتعارفون على بعضهم من خلاله.
مع النهضة الاقتصادية عرف الرسم نهضة وتطورا ليبراليا بمعنى انه لم يعد كما كان في الماضي محصورا برسم ما يحدده البلاط او بناء على توصية من الامراء والسلطات بل اصبح عمل فناينين مستقلين يبيعون لوحاتهم لمن يشتريها.
دخل الفن كسواه من السلع في منطق السوق وهدف الى ايجاد مشترين وكان الفنان يستطيع عرض اعماله وذلك كان هما وجوديا بالنسبة اليهم وبالنسبة الى جميع الاجيال الفنية اللاحقة. ونتيجة للحاجة للعرض انشأ معرض باريس.
كانت هناك هيئة تقيم الاعمال الفنية، كان الصالون الرسمي يقرر نجاح وقيمة الاعمال الفنية ومع بداية العام 1863 اصبح معرضا سنويا وفيه لجنة حكم من اعضاء اكاديمية الفنون الجميلة ومن الذين حصلوا على وسام الصالون سابقا في ذلك العام، رفضت 4000 لوحة من اصل 5000 التي تقدمت من قبل 3000 فنان مما ادى الى تكون صالون المرفوضين من قبل نابليون الثالث.
الغريب هو ان عدة فنانيين انطباعيين لاقوا قبولا في العرض الاول للصالون ولكن رفضت اعمالهم فيما بعد، مثل الفنان دي غار وسيزان الذي لم يحظ سوى بمشاركة واحدة في العام 1882.
يعتبر بيسارو والد الانطباعيين. كانت الاكاديمية السويسرية وهي مرسم مميز جدا انشأ في العام 1815 واداره على التوالي الرسامين “دافيد” و”لاكروا” و”دي لاروش” والرسام السويسري شارل غلير الذى كان يستقدم “الموديل” وكان هناك مونيه ثم غي دومان وسيزان.
التقى مونيه بسيزان في معهد الجملية كما التقى بدي غار وسيلس ورينوار في مقهى “غلير بوا” الذي كان مكان لقاء بين الرسامين الانطباعيين المستقبليين. وكانوا بين العشرين والثلاثين من العمر واقيمت بينهم علاقات متنوعة.
منذ العام 1969 راح مونيه ورينوار يرسمان جنبا الى جنب سلسلة من اللوحات في مكان للترفيه في جزيرة كروسيه التي كانت تتردد عليها البرجوازية الباريسية، مصورين حركة المكان بلمسات سريعة واشخاص مرسومة بخطوط وظلال متحركة على الماء محاولين التعبير عن انطباع توفره تفاصيل هذا المكان ولم تكرس كلمة انطباعية الا بعد خمس سنوات من ذلك التاريخ.
بعد حرب 1870 تابع الانطباعيون عملهم بحماسة بالغة في الاتجاه الذين اختاروه وكانوا اصبحوا واثقين من رؤيتهم ومتحررين من اثقال ثقافة نابليون متاملين بنجاح متزايد ومبيعات متزايدة لكن اصابتهم خيبة ومنيوا بالفشل في الصالون اكثر مما كانوا فاشلين فبل الحرب.
كانت الجمهورية الثالثة غير مستقرة ومجتمعها الذي تعرض لصدمة وفرض مجلس الكومون عام 1871 مناخا ثقافيا حذرا تجاه كل تجدد او ثورة فنية.
راودتهم فكرة امكان استغنائهم عن الصالون وساندهم في ذلك التاجر الفني دوران ريبال فأنشاوا مجتمع الفنانين الرسامين والنحاتين واقاموا معرضا مشتركا للانطباعيين في نيسان 1874 في شقة استأجروها من المصور الفوتوغرافي نادار. كانوا 31 فنانا واطلق على المعرض اسم “انطباع الشمس الشارقة” وهو اسم لوحة لمونيه رسمها عام 1872 وزار المعرض 3500 شخصا بينما كان ذوار الصالون الرسمي يصل الى 400000 شخص.
التقى مونيه وسيزان في الاكاديمية السويسرية وسيزان ودي غار في استديو شارل غلير وكان غوغان في بداياته الفنية رسام هاو التقى مونيه عام 1875 واصبح تلميذه، ثم اشترك عام 1897 في المعارض الانطباعية اما فان غوغ فوصل باريس عام 1886 حيث اكتشف وتبنى الانطباعية.
لم يؤلف الانطباعيون مدرسة لان اعمالهم كانت متنوعة ومختلفة عن بعضها ويبقى بيسارو ومونيه وسيسليه الممثلون الابرز للحركة انما كان كل رسام يسير في طريقه الخاصة.
يمكن اعتبار مسيرة الرسامين الانطباعيين اصحاب شخصيات فنية مميزة لكل واحد منهم انما يجمعهم رفضهم للرسم الرسمي الموصى عليه من قبل السلطة وتمزوا ببحثهم عن اساليب جديدة بتصوير العالم الواقعي.
قادهم الوضع الذي وجدوا انفسهم فيه الى تنظيم معارضهم الخاصة على مدى 22 عاما من العام 1874 حتى العام 1886 وما يزال النقاش يدور حتى اليوم حول ما اذا كان “غوغان” او “سيزان” وهما من رواد القرن العشرين عما اذا كانا من الرسامين الانطباعيين والموضوع ليس جديدا لان مونيه كتب قبل وفاته: ” اتاسف لكوني كنت سببا لاسم اعطي لمجموعة اكثر اعضاءها لم يكونوا انطباعيين في الحقيقة“.
<
p style=”text-align: justify;”>ولذلك فان علي المتابع ان يقدر كل من هؤلاء الرسامين على حدة. كان تاريخ هذه الحركة قصير الامد وبعض الرسامين الذين واكبوا الحركة منذ بداياتها مثل “رينوار” و”دي غاس” تطوروا فيما بعد بطرق جدا مختلفة عنها ولابد من ذكر اثنان من كبار الذين تقاطعوا مع الحركة لبعض الوقت وتطوروا بطريقة مختلفة وهما غوغان وفان غوغ.