“دفاتر الجديدة” التي وجب علي كتابتها
المصطفى اجماهري
في كتابي “دفاتر الجديدة، التاريخ المتقاسم” الصادر سنة 2010، وكذا في مقال سابق بجريدة “لبراسيون” المغربية يعود إلى تاريخ 24 ماي 2014 ، تطرقت إلى الحيثيات والدوافع التي جعلتني أهتم بالتاريخ الاجتماعي لمدينة الجديدة، بما هو مجال يحتاج نبشه إلى عدة معارف منها الأدب والأنتربولوجيا والسوسيولوجيا، فضلا عن سبب جوهري يتجلى في كون المجال لم يحظ بالاهتمام الكافي من الباحثين ما دام عملا متعبا يستهلك كثيرا من الجهد والوقت. لكن، في المقابل، ثمة إحساس بأن مثل هذه الأعمال، التي ينجزها أيضا غيري بالنسبة لمناطق مغربية أخرى، تبقى ضرورية لمعرفة جزء من هويتنا. ذلك أن الكتابات، من هذا النوع، تنطلق من أرضية المحلي لتخلق تعالقات وروابط تمتد نحو الآخر، نحو الوطني والعالمي، ذلك لأنها وسيلة تعبير عن المشترك الإنساني العام.
أشتغل على “دفاتر الجديدة” منذ ثلاثين سنة، فقد بدأت التجربة مع بداية التسعينيات حينما قدرت، لأسباب كثيرة، ذاتية وموضوعية، الانكباب على الذاكرة المحلية. حفزني وقتها على المغامرة بدخول هذا الحقل البحثي ثلاثة عوامل: أولا الخصاص الملحوظ في الدراسات التي تعنى بالمحلي، وثانيا لقائي بالراحل عبد الكبير الخطيبي في ورشة “الكتابة والجهة” المنظمة بالجديدة. وكان هذا الأخير يرى أن ما هو مهمش أو هامشي لا يجد الاهتمام اللازم من الباحثين. كما حفزني، من ناحية ثالثة، تكويني في مجال الإعلام، بوصفه تكوينا منفتحا على كثير من التخصصات. من ثمة يمكن القول إن موضوع الاشتغال هو الذي فرض طريقة المعالجة. فغير خاف على الملم، أن المراجع والوثائق في هذا المضمار، أي المتعلقة بالذاكرة المحلية وتاريخ الجهات،كانت، منذ الحماية وحتى وقت قريب، متوفرة في غالبيتها بالفرنسية. فكان من الوجيه، من باب توفير الجهد، استعمال الرصيد الوثائقي في لغته الأصلية.
لقد دفعني اتصالي بالراحلين عبد الكبير الخطيبي والمؤرخ “البيضاوي” المعروف غي مارتيني، لأتساءل معهما عن كيف نجعل الكتابة وسيلة لإفادة القارئ والمجموعة ككل؟ وكيف نعمل بمنطق الأولويات في مجتمع أصبح نافرا من الكتاب الورقي؟ وأستحضر هنا قولة للكاتب الفرنسي، إيريك فوتورينو، المدير السابق لجريدة لوموند،(من أب مغربي يهودي)، في حواره مع مجلة “ماريان” الباريسية: “هناك كتب يجب علينا كتابتها”.
هكذا كان “واجب الذاكرة” من بين الدوافع التي جعلتني أطلق مشروع “دفاتر الجديدة”، سنة 1993، وهو سلسلة كتابات حول التاريخ الاجتماعي لمدينة الجديدة ودكالة. مع التوضيح بأن هذه الكتابات لا تأخذ دائما شكل مؤلفات مطبوعة بل كذلك دراسات ومقالات أنشرها في الصحف والمجلات وبعض المواقع الإلكترونية. فهي تصب كلها في ذات المنحى. كما أنها ليست دائما تاريخا، بالمفهوم الحصري للكلمة، بل قد تكون أدبا (مثلا زيارة أنطوان دو سانت إيكزوبيري لبولعوان)، أو تحقيقا (البحث عن تذكار الطيار المفقود بشاطئ الولجة)، أو استطلاعا (المعمار الأوربي في بادية دكالة)، أو توثيقا (شهادات نساء الجديدة في نهاية الحماية)، أو نبشا في الأرشيف (القنصليات الأجنبية بالجديدة).
ومن حسن حظي أن مشروعي هذا لقي، وما زال، دعما صادقا بالتشجيع والنصح أو بالتأطير من ثلة من المثقفين المرموقين مثل عبد الكبير الخطيبي، وغي مارتيني، ونلسيا دولانوي، وفؤاد العروي، وغريغوري لازاريف، ومحمد الناجي، ومصطفى الكثيري، وفاطمة المرنيسي، وغيثة الخياط، ومحمد جبريل، وبوبكر بوهادي. كما لقي العمل تنويهات مختلفة من باحثين معروفين مثل عبد الله حمودي، وجامع بيضا، ومحمد كنبيب، وعبد الفتاح الزين، ومحمد نور الدين أفاية، ودال إيكلمان، ومن الناشر عبد القادر الرتناني.
وكان ما شجعني على مواصلة هذا المجهود أن الكتابات التي أصدرتها في إطار “دفاتر الجديدة” ساهمت، حسب كثير من الشهادات، في إحداث تراكم معرفي حول المدينة والجهة. كما لقيت تجاوبا لدى القراء وذلك لسببين على الأقل: أن هذه الكتابات سدت، من جهة، بعض الفراغ الملموس في الساحة الثقافية، كما أنها، من جهة ثانية، استجابت لحاجة القراء المحليين (وغيرهم) في معرفة محيطهم القريب على المستويين التاريخي والاجتماعي. وأضرب مثلا، بالنسبة لهذا السبب الأخير، أن مجلة “زمان”، التي أساهم بالكتابة فيها، توصلت برسائل من قراء يطلبون مني فيها مزيدا من هذه النوعية من المقالات.
هذا التجاوب الفاعل من قبل القراء، مغاربة وفرنسيين خاصة (من قدماء المغرب أو الجديدة تحديدا)، مكن هذا المشروع البحثي من البقاء والاستمرار. بمعنى أوضح أن هناك فئة من القراء ترى أن هذه السلسلة من الكتابات تلبي حاجاتها النفسية وفضولها الذاتي. وطبعا فلم تغب عن بالي يوما نصيحة الراحل عبد الكبير الخطيبي أن على الكاتب أن يخلق جمهوره الخاص.
بعد ثلاثين سنة من العمل، يسرني أن أتوصل أحيانا في بريدي الإلكتروني برسائل من قراء، من داخل المغرب وخارجه، يطرحون علي فيها تساؤلات بعضها، أحيانا، خارج نطاق تخصصي، وذلك بدعوى أنني “الرجل الذي يعرف كل شيء عن الجديدة”، كما عبر عن ذلك مرة الصحفي الفرنسي بيرونسيل هوغوز، كبير المراسلين السابق بجريدة لوموند، في مقالة له حملت ذات العنوان، ونشرت بالموقع الإخباري المغربي Le360 بتاريخ تاسع شتنبر 2016.