حيثيات وفاة رولان بارت
سعيد بوخليط
يوم 25 فبراير 1980، كان رولان بارت يجتاز الشارع في الحي اللاتيني متوجِّها إلى مؤسسة كوليج دو فرانس، ليس بهدف إلقاء محاضرة، بل معاينة الاستعدادات التقنية والتفاصيل اللوجيستيكية بخصوص محاضرته المقبلة، التي سيتحدث في إطارها عن موضوعي “مارسيل بروست” و”التصوير”، بحيث يحتاج في سبيل ذلك إلى جهاز عرض ضوئي.
تشير الساعة بالضبط إلى الرابعة زوالا، يطوي بارت سيرا على الأقدام شارع “المعاطف البيضاء”، إلى أن بلغ شارع المدارس، يواصل تقدمه على الرصيف الأيمن. يتأهب للعبور كي يبلغ ممر الجهة اليسرى، على بعد أمتار قليلة من بوَّابة كوليج دو فرانس، تقف عند الرصيف سيارة تحمل لوحة مسجَّلة في بلجيكا، مما أثَّر على وضوح الرؤية، يتقدم مع ذلك، فجأة وقعت الحادثة الشهيرة. لم تكن الشاحنة مسرعة جدا،غير أن الاصطدام بدا عنيفا جدا. ارتمى بارت أرضا فاقدا للإدراك، ينزف من أنفه.
حضر الإسعاف والشرطة، لم تتم بداية تحديد هوية بارت، بحيث اعتقد بعض المتحلِّقين حول جثة الشخص المصاب، بأنه ميشيل فوكو، بينما رجحت شهادات أخرى هوية روبير موزي، أستاذ في جامعة السوربون وصديق قريب من رولان بارت.أخيرا، تجلت حقيقة الضحية .
نُقل جريحا صوب وجهة مستشفى بيتي – سالبيترير، أحد أبرز وجود النقد الأدبي، خلال القرن العشرين (1915- 1980)، العاشق الأبدي للهامش والمتمرد باستمرار على التقاليد الأكاديمية والنماذج الجامعية والأنماط المؤسساتية، فيلسوف العلامات المميَّز، الملتقط بلغة شعرية إيروسية وعذبة، لممكنات المختلِف والعابر واللاحدود واللامكان والمنفلِت والمتعدد، تلك الومضة الخفية- الجلية، الحاضرة- الغائبة.
لم يكن بارت مؤوِّل سيميائيات الهامش، يؤمن بالأدبيات الجامعية أو نمطية مناهجها وكذا رتابة صيغ اشتغالها، لذلك سيراكم بالاستناد إلى هذا المنظور غير المعياري جلّ العناوين المثيرة لمشروعه، أهمها :
الدرجة الصفر في الكتابة (1953)، ميثولوجيات (1957)، حول راسين (1963)، دراسات نقدية (1964)، عناصر السيميولوجيا (1964)، النقد والحقيقة (1966)، نظام الموضة (1967)، موت المؤلف (1967)، س/ ز(1970)، امبراطورية العلامات (1970)، لذة النص (1973)، إنها الصين (1975)، شذرات من خطاب عاشق (1977)، الصورة- الموسيقى والنص (1977)، الغرفة المضيئة (1980)، حول الأدب (1980)… ، إلخ.
يقول بهذا الخصوص ميشيل فوكو، في حوار مع جاك شانسيل سنة 1975 :“لقد ألهمنا بالتأكيد جانبا من زعزعة صيغة معينة للمعرفة الجامعية، التي لم تكن سوى لامعرفة”.
قضى بارت شهرا داخل المستشفى تحت العناية الطبية، يتنفس بواسطة أنابيب ووسائل اصطناعية؛ تمده بشيء من الأوكسجين، بعد أن عجزت رئته الجريحة من أثر الصدمة نتيجة تعرض قفصه الصدري لرضوض جراء الحادثة، وضاعف هذا الأمر معاناته الأصلية مع هشاشة الجهاز الرئوي، منذ فترات طفولته حينما أصيب بمرض السل واضطر كي يوقف مساره الدراسي والمكوث داخل مؤسسة صحية للعلاج.
وضعية صحية غير متماسكة تماما،جعلته يستشرف منذئذ نهاية لحياته لن تكون بعيدة في الزمان، من ثمة بدأ يتجنب خلال بداية مشروعه العملي،الكتب السميكة والضخمة ومكتفيا بالموجز والمقتضب. يقول :”أتوخى إراديا إنتاج أدب موجز”.
يوم 26 مارس 1980، أي بعد انقضاء شهر عن واقعة الحادثة، توقف نبض رولان بارت داخل نفس المستشفى عند حدود الساعة الواحدة زوالا وأربعين دقيقة، فلم يعد قادرا على التنفس، ثم أسلم روحه للسماء.
في هذا الإطار، تحدثت روايتان عن العلَّة الحقيقية لوفاته، تلتقي معا في نهاية المطاف عند ضعف رئتيه، وحادثة الدهس، من طرف شاحنة تابعة لمحل صباغة قادمة من مدينة مونروج، تظل ظاهريا مجرد معطى أولي:
* أصابت بارت عدوى ترتبط بأجواء المستشفى، يلتقطها المريض عادة داخل تلك الأمكنة وقد تصبح قاتلة.
* تأكيد تقارير الأطباء على أن سبب وفاة بارت، نتيجة مضاعفات حالته الرئوية: ”لدى شخص عانى أصلا من حالة قصور رئوية حادة”، مما يفسر قرار النيابة العامة الباريسية يوم17 ابريل بعدم متابعة سائق الشاحنة.
أيضا، وجب ضمن السياق نفسه، استحضار رواية ثالثة غير طبية تماما، لكنها نفسية إلى حد ما وميتافيزيقية جدا، طرحها بعض القريبين من حياة بارت الشخصية، المطَّلِعين على تفاصيل يومياته، كما الشأن بالنسبة للثنائي فيليب سوليرز وجوليا كريستيفا، مفادها استسلام بارت الضمني، تدريجيا خلف الموت وترسخ هذه الرغبة نتيجة وفاة أمه، التي شكلت محورا لحياته، بحيث عاشا معا، منذ موت أبيه المبكر لويس بارت، ضابط البحرية، في جبهة الحرب سنة 1916، بعد سنة فقط من ولادة رولان بارت.
فداحة رحيل هنرييت الأم – الأيقونة، أشعره بتعب واكتئاب جعله يدشن عهد انزلاقه وانحداره بحيث تماهى أكثر فأكثر مع تعقيدات مثليته الجنسية وعلاقاته بالفتيان، ثم فجأة اتخذ الوضع الجديد وتيرة سريعة، مستأثرا كليا بهواجس تفكيره ،رغم تمسكه بحلم تحقيق القطيعة، والتزهد، وبلورة حياة مغايرة، وكتب جديدة، وتدشين انطلاقة مختلفة.لكنه، أخيرا، رهن مصيره بالانغماس في هذا المسار.
داخل مستشفى بيتي- سالبيترير، استعاد صاحب نظرية ”اللغة فاشية” شيئا من وعيه، يجلس على مقربة من سريره أخوه ميشيل سالزيدو وصديقاه يوسف باكوش وجون لوي بوت، بدا، كما لو أن حالة الرجل مطمئنة إلى حد ما، توحي بممكنات نحو الأفضل.
مساء، تبثّ وكالة فرانس بريس أول أقصوصة خبرية، عن الحادثة:“رولان بارت، الجامعي، الباحث، الناقد، البالغ من العمر أربعة وستين سنة، تعرض يومه الاثنين بعد الظهيرة لحادثة على الطريق في منطقة الدائرة الخامسة، شارع المدارس. هكذا، تم نقله إلى مستشفى بيتي- سالبيترير.اتصلنا بإدارة المستشفى التي لم تقدم مع ذلك عند الساعة الثامنة ونصف أيّ معلومة حول الحالة الصحية للكاتب”.
صبيحة اليوم التالي، صدر إعلان ثان، اعتُبر أكثر اطمئنانا، عن حالة مثقف موسوعي عاش بحياد مختلف التحولات الكبرى التي عرفها التاريخ المعاصر، لكنه ساهم باجتهاداته الجادة وأطروحاته النوعية، كي يجعل مايجري مفهوما:
“لازال رولان بارت يرقد في مستشفى سالبيترير. تؤكد الإدارة بأنَّ بارت يخضع للرعاية الطبية وحالته الصحية مستقرة غاية اللحظة الراهنة.لقد أوضح ناشر أعمال الكاتب بأنَّ حالته الصحية لاتثير أيّ قلق”.
فيما بعد، أوضح فيليب سوليرز، خلال حوار أجري معه يوم 3 شتنبر 2013، بأنَّ فرانسوا وول، وكذا باقي الناشرين الآخرين المسؤولين عن دار النشر”سوي”، تجنبوا قول الحقيقة إلى الرأي العام، بخصوص الحالة الصحية لرولان بارت، والتكتم عن وضعيتها الحرجة جدا، تفاديا لإمكانيات نسج خيوط علاقة رصدها فعلا اهتمام الصحفيين، بين وجبة الغذاء بدعوة من فرانسوا ميتران، الرئيس المقبل لفرنسا، ثم حادثة السير. كيف ذلك؟
ظهيرة ذلك اليوم، أي قبل الدهس بساعات معدودة، غادر بارت لقاء التأم حول مائدة وجبة غذاء- آخر لقاءاته العمومية- أشرف عليه جاك لانغ الذي أصبح فيما بعد وزيرا للثقافة، يندرج في إطار التحضير للاستحقاق الرئاسي المقبل، في غضون سنة تقريبا، بحيث تطلع لانغ، نحو إحاطة فرانسوا ميتران الاشتراكي خلال حملته الانتخابية لمنافسة اليميني جيسكار ديستان، بنخبة مثقفين وفنانين معتَبَرين، فقد حضر فعلا إلى جانب بارت، فيليب سير Serre النائب السابق عن الجبهة الشعبية، والذي رغم غيابه لأسباب خاصة خلال تلك الفترة فقد أتاح للضيوف المدعويين فضاء منزله لتنظيم مجريات اللقاء، بدل منزل ميتران الكائن في شارع بييفر، نظرا لصغر حجم مساحته قياسا لزخم هذا النوع من الاحتفالات، ثم بيير هنري المؤلِّف الموسيقي، والممثلة دانييل دولورم، ورولف ليبرمان مدير أوبرا باريس وكذا المؤرخيْن جاك بيرك وهيلين بارمولان، بجانب جاك لانغ وفرانسوا ميتران العاشق الأكبر للميثولوجيات، بالتالي يجسد بارت أحد أفضل المتحاورين في هذا المجال.
الوضع الاعتباري الذي يحظى به بارت، ووزنه داخل المشهد الثقافي، أتاح له خلال فترة سابقة تحديدا شهر دجنبر 1976، المشاركة في لقاء غذاء من هذا النوع بدعوة من الرئيس فاليري جيسكار ديستان. خطوة انتقدها بعض أصحابه، لأنهم رأوا في الإقدام عليها من طرف بارت ولاء ضمنيا لليمين.غير أنها ربما، تنسجم حقا مع طبيعة مزاجه السياسي ورؤيته للشأن العام، بناء على إدلائه سرا إلى فيليب ريبيرول السفير الفرنسي في تونس، بإحساس مفاده تورطه رغما عنه في حملة فرانسوا ميتران.
قبل أن يغادر بارت منزله ذلك اليوم، قصد الاستجابة لدعوة الغذاء تلك، انزوى داخل مكتبه للكتابة مثلما دأبت عادته كل صباح، وشرع في تطوير بعض أفكار مضمون محاضرة يتطلع إلى إلقائها في مدينة ميلانو بمناسبة ندوة ستجري وقائعها خلال الأسبوع الموالي. ستتطرق مداخلته إلى ”ستاندال وإيطاليا”، فاختار لها كعنوان: “نخفق دائما في الحديث عن مانحبه”. رَقن على الآلة الكاتبة الصفحة الأولى وبداية الثانية، ثم توفق استعدادا للخروج.ولن يعود قط، إلى إتمام محاضرته.
وُضع جسده داخل تابوت. بعد مرور يومين، عاينه زمرة أصدقاء، وطلبة، وشخصيات، أشهرهم فيليب سوليرز بجانب زوجته جوليا كريستيفا، ميشيل فوكو، جوليان غريماس…، خلال احتفال سريع جرت مراسيمه وسط ساحة المشرحة، ثم دفن في قرية أورث.
هناك مقاربتان جديرتان بالعودة إليها، تؤرِّخان بشكل مستفيض جدا، لمختلف حيثيات ودقائق، الموت العبثي والمباغت لرولان بارت:
* دراسة أكاديمية ضخمة قاربت ثمانمائة صفحة، صدرت سنة 2015، احتفالا بمئوية ولادة بارت.عمل توثيقي رصين تحت عنوان ”رولان بارت: سيرة ذاتية”، اشتغلت على تأليفه الباحثة والناقدة الأدبية تيفاين صامويولت، أستاذة الأدب المقارن في جامعة السوربون الجديدة. استثمرت أرشيفات غير معلومة ورسائل ومذكرات ويوميات ومذكرات يومية تحوي ملاحظات وآراء ومواقف وأفكار، إلخ.
* رواية ”الوظيفة السابعة” لصاحبها لوران بيني،الصادرة بدورها سنة2015، التي رشحت لأكثر من جائزة أدبية، واحتفل بها الإعلام الفرنسي.استعاد،هذا النص المثير، بتقاطعاته السردية، الخيالية، البوليسية، والتوثيقية، مأساة موت رولان بارت، واضعا تقرير الشرطة جانبا، كي يفتح القضية من جديد،وتوجيه تهمة الاغتيال مباشرة دون تردد إلى الأوساط الثقافية الباريسية.