جائزة نوبل للآداب من قلب السيرة

جائزة نوبل للآداب من قلب السيرة

باريس- المعطي قبال

هذه المرة، لم يخطيء أعضاء لجنة تحكيم جائزة نوبل للآداب الهدف. بمنحهم لأم الجوائز للروائية آني إيرنو، كرسوا اعترافا مستحقا في حق روائية مقتدرة وملتزمة في دفاعها عن القضايا المعاشية لمعذبي الأرض. وأهم ما يميز جوائز نوبل على تنوع خصائصها وتخصصاتها هو عامل المفاجئة والمباغتة. وكل الذين لهتوا خلف جائزة الآداب، وهم كثر، لم يفهموا هذه القاعدة الذهبية ولذلك رفضت ترشيحاتهم. ولدى إعلان الأكاديمية عن فوز آني إيرنو بالجائزة انتابت هذه الأخيرة الدهشة وأعربت عن مفاجئتها لهذا الخبر. على أي جاءت هذه الجائزة لتتوج سيدة فرنسية بعدما نالها كل من جان-ماري غوستاف لوكليزيو وباتريك موديانو. وتعتبر الروائية أول فرنسية تحصل على نوبل الآداب. وقد تلقي الجائزة أضواء كاشفة على أداب بدأت تذبل تحت مفعول الابتذال والنشر السريع مع رغبة متزايدة في تحويل الروايات إلى سيناريوهات سينمائية الغاية منها المزيد من الربح. لذلك قد تلعب روايات آني إيرنو وظيفة مرآة ينظر فيها الكتاب وبالأخص منهم الشباب إلى صنعة الكتابة وتوليف الحكي قبل الانتقال إلى النظر في المرآة الكبرى، مرآة المجتمع الذي تحتكم إليه دوما آني إيرنو. حرست هذه الأخيرة على أن يجد كل قاريء نفسه في رواية من رواياتها التي تقارب العشرين رواية. في حكاياتها تبعث فرنسا كما كانت عليه بالأمس وكما هي اليوم أيضا، تبعثها من سهادها، بل من رمادها. تستخرج من الأعماق حكايات الجنس، اللحم البشري، السياسة، ما هو اجتماعي وحميمي. تمزج بين هذه العناصر في شعرية بالغة لكن عبر صور خام. لكن تبقى حياتها الشخصية نبراسا لكل رواياتها. وهي في 82 من عمرها، قهرت الخوف العائلي والاجتماعي وحررت قلمها من كل التابوهات. لذلك يفتتن القاريء بأسلوبها السلس، الانسيابي والخالي من العقد البلاغية التي تثقل العديد من الكتابات. تمارس هذا التحرر حتى في مقابلاتها لما تعرب عن مواقفها اليسارية الراديكالية في موضوع الديمقراطية، التفاوت الاجتماعي، اللاجئين، النسوية، البدلات الصفراء، والدفاع عن أولئك الذين فقدوا أسنانهم وأصواتهم…لم تنس أصولها الاجتماعية المتواضعة هي التي كانت عائلتها تملك مقهى-متجر للتغذية.

لو اخترنا من بين نصوصها العديدة والمتباينة (حتى وإن كانت سيرتها الذاتية هي المرجعية الأولى في كتابتها)، تبقى رواية «السنوات» الصادرة عام 2008  ورواية « الساحة »، أحد أهم رواياتها بامتياز. فقد حصدت رواية «السنوات» عدة جوائز من بينها: جائزة مارغريت ديراس، جائزة فرانسوا مورياك، جائزة اللغة الفرنسية، وجائزة سترينا الأوروبي. في هذا العمل ثمة مجهود كثيف لاستحضار ذاكرة جماعية وشخصية. تنهل من حياتها الشخصية من دون استعمال أية مصفاة لانتقاء نتف أو شذرات، بل تقوم بتنزيل أحاسيسها المتضاربة على الصفحة البيضاء. ذاك هو الأدب الحر والخالص الذي يستدعي ذكريات الطفولة مثلا أيام الحرب. أول الذكريات كانت ذكريات الطفولة لما كانت العائلة تنتمي للطبقة العاملة: «كنا نعيش بالقرب من البراز.».  وفي غياب المراحيض في البيت العائلي كانت تخرج الفتاة إلى الفضاء الخارجي لقضاء أغراضها. في هذه التفاصيل الدقيقة التي استرجعتها الكاتبة والتي انقرضت من المشهد، مادة سوسيولوجية انكب عليها علماء السوسيولوجيا لمقاربة العادات الأسرية، التقاليد والبادية الفرنسية ما بين الحربين الكونيتين. وثمة تواصل وتقارب بين توصيفات إيرنو للبؤس الاجتماعي والعمل السوسيولوجي الذي أنجزه بيار بورديه في دراسته « بؤس العالم ». وكانت العلاقة بينهما علاقة صداقة قوية وأمينة. ولما توفي بورديوه شعرت إيرنو بنوع من اليتم.

لحظة التحرر الأولى كانت قراءتها لجان-بول سارتر وسيمون دي بوفوار. في المدرسة كانت « ابنة الشعب » تلميذة نبيهة وكانت تعرف أنها ستصبح كاتبة. في سن 33 عاما قبلت دار النشر غاليمار إصدار روايتها الأولى «الخزائن الفارغة». كانت تجربة الإجهاض التي عاشتها مع اختفاء العاشق الذي كان من المفروض أن يأخذ بيدها، محور هذه الرواية. لكنها عادت لتكتب عن عنف هذه التجربة في رواية «الحدث» التي نقلتها إلى السينما المخرجة أودري ديوان وقد أحرز الفيلم على جائزة الأسد الذهبي بمهرجان البندقية عام 2021.    

أحرزت رواية الساحة عام 1984 على جائزة «رونودو» وتبقى أهم إنجاز على مستوى المبيعات. تبدأ مع وفاة والدها عن عمر 67 عاما، وذلك بسنة قبل أن تحصل على التقاعد. هي رواية القطيعة بين الأجيال وتتساءل الكاتبة كيف الإبقاء على العلاقة مع الماضي ومع العائلة المتواضعة في الوقت الذي تستعد فيه لتسلق السلم الاجتماعي والانتقال من طبقة إلى أخرى؟ تقدم الكاتبة توصيفا دقيقا ورهيفا لعالم في طور الانقراض. كما تتابع مسلسل التفكك العائلي لما تموت الأم في أحد دور المسنين، بمدينة سيرجي في ضواحي باريس حيث البؤس والأسى والعزلة الكبرى.

لا تلخص الكاتبة أو الكاتب نصوصه وكتاباته فحسب، بل تعرف به أيضا مواقفه. آني إيرنو سيدة مواقف وبسبب هذه المواقف، (تماهيها مع طروحات ميلنشون، دفاعها عن المستضعفين، عودتها إلى أصولها الشعبية الخ..)، تعرضت على شبكات التواصل الاجتماعي، لهجوم عنيف استعملت خلاله نعوت كاريكاتورية من قبيل: « متبرجزة تبصق في الإناء »، «شعبوية خرقاء»، « إسلاموية »، «عن ارتداء الحجاب» الخ… لكن اليمين المتطرف الذي يقف وراء هذه الحملة، لم يعد يملك سوى خراطيش مبللة لا تقوى على إصابة حدث وسيدة بهذا العيار الثقيل.

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المعطي قبّال

كاتب ومترجم مغربي - رئيس تحرير مساعد لموقع "السؤال الآن".