توتُّرُ العلاقات بين الرياض وواشنطن.. حتى لا تحفر السعودية قبرها بيدها؟

توتُّرُ العلاقات بين الرياض وواشنطن.. حتى لا تحفر السعودية قبرها بيدها؟

عبد السلام بنعيسي

بعكس الرائج في وسائل الإعلام، يصعب على المرء المتأمل، استيعاب القول، إن ارتفاع حدة التوتر في العلاقات السعودية الأمريكية ووصولها إلى هذا الحدِّ من الاشتباك والتصادم، يعود إلى خفض حصص الإنتاج النفطي من طرف أوبك بلاس بقيادة موسكو والرياض. يمكن القول، إن خفض الإنتاج من الجانب السعودي كان نتيجةً للتوتر، وليس عِلَّته وفاعله. التوتر في العلاقات بين البلدين كان هو السابق، وخفض الإنتاج جاء لاحقا، وتتويجا للتوتر الذي لم يكن قد أُشهِرَ للعموم، بشكل صريح وعنيف.

بحسب المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي، فإن قرار أوبك بلاس بقيادة السعودية يعادل “دعم اقتصادي” لروسيا أحد أكبر مصدري المحروقات، مشيرا في تصريحات للصحافيين “يمثل ذلك أيضا دعما معنويا وعسكريا لأنه يسمح (لروسيا) بمواصلة تمويل آلتها الحربية”. وأضاف كيربي إن السعودية “يمكن أن تحاول التلاعب أو تحويل الانتباه، لكن الوقائع واضحة”.

نحن أمام خطاب أمريكي حادٍّ وعنيف جدا تجاه السعودية، فواشنطن تتهم الرياض بتقديم دعم عسكري لروسيا في حربها في أوكرانيا، بعبارة أوضح، السعوديون متهمون من طرف الإدارة الأمريكية بأنهم في مواجهة عسكرية، غير مباشرة، مع الأمريكيين في أوكرانيا. هذا الاتهام، قاطعٌ وحازمٌ، أمريكيا، فوفقا لتصريحات المتحدث باسم مجلس أمنهم القومي، فإنهم لا يقبلون، في شأنه، ما يسمونه ((التلاعب أو تحويل الانتباه)) من طرف السعودية…

من المفترض أن المملكة العربية السعودية كانت تتوقع هذا الردَّ الأمريكي العنيف على قرارها خفض الإنتاج النفطي، فساستها ومفكروها والمقررون في شؤونها الداخلية والخارجية يعرفون العقلية الأمريكية، وهم على اطلاع على ما يزعجها ويقلقها، وعلى ما تجد فيه راحتها وسكينتها، فرغم علمهم أن قرار خفض الإنتاج سيغضب الأمريكان ويُوتِّرهم، فإنهم اتخذوه، وجاء القرار رغم تحذير الرئيس الأميركي جو بايدن من أنه ستكون هناك “عواقب” للخطوة التي قد تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط وبالتالي ملء خزائن روسيا من عائداتها النفطية لتمويل حربها في أوكرانيا، كما تؤكد على ذلك الصحافة الغربية، فلماذا أقدمت الرياض على ذلك القرار، رغم علمها أنه سيكدر علاقاتها بواشنطن وسيُوتّرُها، إن لم تكن لديها دوافعها السابقة له لاتخاذه؟

يبدو أن السعودية في عهد محمد بن سلمان قد طفح كيلها من الولايات المتحدة الأمريكية، فسياسة اللين والتودد ومدَّ اليد صوب الأمريكيين لم تنتج عنها أي فائدة تُذكر بالنسبة للسعوديين عموما ولولي العهد السعودي محمد بن سلمان على الخصوص، فلقد كان المأمول أن صفقة 460 مليار دولار للإدارة الأمريكية في عهد دونالد ترامب ستجعل أوامر الرياض سارية في واشنطن، وأن هذا الكرم السعودي سيقابل باعتراف أمريكي، وسيتم الردُّ عليه بما هو أحسن منه، أو مثله، على أقل تقدير، ولكن عندما اعتلى السلطة في البيت الأبيض جان بايدن، كانت الأهزوجة التي بات يرددها على لسانه هي أنه يريد أن يجعل من السعودية ((دولة منبوذة في العالم))…

وهذا موقف أمريكي خطير تجاه الرياض، ولاشك في أنه سيجعل النوم يطير من أعين صانعي القرار السعودي، فحين الحديث عن جعل السعودية دولة منبوذة في العالم، فلا أحد يدرك معنى كلمة منبوذة، كما يريدها سادة البيت الأبيض.  ما هو مضمون هذا النبذ؟ إلى أين يمضي؟ وإلى أين ينتهي بأرض الحجاز؟ فالأكيد هو أن النبذ ليس غاية في حد ذاته، إنه وسيلة للوصول إلى أغراض سياسية معينة، فما هي هذه الأغراض وكيف الوصول إليها؟ كلمةُ نبذٍ كلمةٌ مطاطة جدا، وقد تعني التطويق، ثم الحصار، وقد تفضي إلى تغيير النظام، ولم لا إلى التفتيت والبلقنة، فالمشروع الأمريكي الساطع، الذي تبلور في أوضح صوره بالمنطقة، خلال السنوات العشر الماضية، هو حصار دولها، وتجويع شعوبها، ثم شنُّ الحروب عليها لتدميرها وتفتيتها…

رغم كل الانتقادات التي يمكننا توجيهها للسياسة الخارجية للدولة السعودية، فإن وجود دولة بالحجاز، وفي قلب العالم العربي، وبذلك الحجم الجغرافي، وبالثروات الهائلة التي حباها الله بها، وبتأثيرها الروحي على العالم الإسلامي، وبثراتها الزاخر في هذا الباب، وبرأيها العام الذي في مجمله يتمسك بعروبته ودينه الإسلامي، ويناصر أشقاءه في فلسطين، ويتألم للمجازر التي تقترف في حقهم من طرف الكيان الصهيوني، ويتطلع إلى تحقيق تضامن عربي إسلامي ينجز للأمة العربية والإسلامية وحدتها وتقدمها وازدهارها، ويعيد لها الدور التاريخي الذي لعبته في لحظة ازدهار وتألق حضارتها…

دولة بهذه المعطيات، لا يمكن أن تكون موضع قبولٍ تامٍّ بالنسبة للغرب وللأمريكيين وللصهاينة، إنهم يتعاملون مع السعودية كدولة أمرٍ واقعٍ، ولكنهم، في قرارة أنفسهم، يفضلون كيانات قزمية تنشأ بدلا عنها وتقوم مقامها، ويسهل تبعا لذلك التحكم فيها، حاضرا ومستقبلا، بشكلٍ شامل ونهائي، فلماذا لا يكون التوتر في العلاقات بين السعودية وأمريكا يندرج في هذا السياق؟ لماذا لا يكون مؤشرا على أن الولايات المتحدة الأمريكية تعد العدة لخطط تقسيم بلاد الحجاز وتفتيتها؟؟

تُبيِّنُ الوقائع الراهنة أن الرياض ارتكبت أخطاء كارثية حين غطّت وساهمت في غزو العراق واحتلاله وتدميره، وتحويله إلى دولة فاشلة، وأعادت السعودية اتخاذ نفس القرارات التدميرية في كل من ليبيا وسوريا واليمن، لنتصور للحظة أن العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن، كانت لا تزال دولا آمنة ومستقرة، وترفع نفس الشعارات المتمثلة في مناهضة السياسة الأمريكية بمنطقتنا والتحريض على مقاومة الكيان الصهيوني، هل كانت أمريكا ستجرؤ على توتير علاقاتها بالسعودية، إلى هذا المستوى؟ ألم تكن واشنطن تجد نفسها مضطرة لمحاباة الرياض ومجاملتها، ولو من باب الحاجة إليها، في المواجهة الحاصلة مع الدول العربية التي كانت تصفها أمريكا بالمتطرفة والمارقة؟؟؟

بالمساهمة في تدمير الدول العربية التي كانت في علاقات متوترة مع أمريكا، خلقت الرياض الفراغ من حولها، ولم تعد الحاجة إليها كما كانت سابقا من طرف الغرب، وتقترف السعودية ذات الخطأ الكارثي في تحريضها حاليا ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فوجود إيران القوية والمتماسكة، والتي على صراع مع الأمريكان إلى جانبها، أفضل ألف مرة للسعودية من إيران ممزقة ومفككة وضعيفة، وتكون في الحضن الأمريكي، إذا باتت إيران في هذه الصورة، فإنها ستصبح القاعدة الذي ستنطلق منها الخططُ الأمريكية صوب السعودية لكي تنجز فيها ما أنجزته في إيران.

لا قاع ولا قرار لسياسة ممالأة أمريكا ومحاباتها، مطالبها لا تنتهي، إنها تعيد إنتاج نفس الشعار الذي رفعه جورج بوش الابن بعد تفجيرات 11 شتنبر: من ليس معنا فإنه ضدنا. أمريكا تريد في اللحظة الراهنة من السعودية إغراق السوق بالنفط الزائد عن الحاجة لتركيع روسيا، تطلب واشنطن من الرياض أن تكون في الحرب إلى جانبها ضد روسيا في أوكرانيا، أن تقاتل معها كما تفعل بريطانيا وفرنسا وألمانيا… ولكن ماذا تستفيد السعودية من ذلك؟ لا شيء على الإطلاق، بل إنها ستتضرر أكثر إذا استقرت القطبية الأحادية بقيادة أمريكا لسنين طويلة أخرى، والتي قد تكون وبالا على السعودية حين يأتي دورها…

الخيار الوحيد الممكن أمام الرياض هو رفض السياسة الأمريكية وعدم الانصياع لها، ولم لا مناهضتها في عالمنا العربي والإسلامي، يتعين مراجعة كل القرارات الخاطئة التي اتُّخذت سابقا، وأولها العمل من أجل وقف الحروب المندلعة في اليمن، وفي سوريا، وليبيا، وإنهاؤها وإقرار السلام في هذه الدول ومساعدتها على إعادة الإعمار، وإدماجها مجددا في محيطها العربي، ثم المساهمة في إعادة إعمارها، ويتعين الانفتاح على الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإقامة أحسن العلاقات معها، وتقديم الدعم للمقاومة في فلسطين ولبنان، لسد الطريق أمام الكيان الصهيوني ومنعه من تحقيق مراميه، التي هي مرامٍ أمريكية في منطقتنا…

بسياسة مغايرة تماما للسياسة التي ظلت سائدة منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، وبتمنيع محيطها العربي والإسلامي وتقويته، ودفعه للالتفاف حولها، لكي تصبح قاطرته التي تقوده في تجاه تعميق التعاون في كافة المجالات، مع روسيا، والصين، والهند، وبالقيام بالإصلاحات السياسية الضرورية داخليا…. يمكن للسعودية أن تقوي ذاتها، وتحصن نفسها ضد السياسة الأمريكية العدوانية تجاهها، دون الحاجة إلى إنفاق الأموال الطائلة على التسليح من الغرب وأمريكا، تخصيص جزء بسيط منه لإعادة إعمار محيطها، أفضل للسعودية ألف مرة…

أما إذا كان الهدف الذي تبغيه الرياض وتحركش من أجله في مواقفها الراهنة، هو إسقاط الديمقراطيين في الانتخابات النيابية والرئاسية الأمريكية، لكي يحل محلهم جمهوريون، وإذا كانت إسرائيل لا تزال كما قال محمد بن سلمان: حليفا محتملا، ويمكن الرهان عليه، إذا كان هذا هو الهدف مما يجري حاليا، فإنه يعني أن السعودية ستعيد إنتاج نفس التجارب المريرة التي عاشتها في علاقاتها بأمريكا وستعمقها، وستكون بذلك كأنها تحفر قبرها بيدها. خيارُ مقاومة السياسة الأمريكية في منطقتنا، في السعودية والمغرب والجزائر والعراق وسوريا… خيارٌ صعب ومُكلف، ولكنه الخيار الوحيد المتاح أمامنا، إنه قدرنا، لكي ننتزع عبره حرية التقرير في مصيرنا…

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة