ضد التيار: .. عن الكرامة.. وأشياء أخرى!

ضد التيار: .. عن الكرامة.. وأشياء أخرى!

عبد الكريم الأمراني

” سأظل مع القضايا الخاسرة حتى الموت “

محمد الماغوط

  

  لست أدري لماذا يذكرني المشهد الختامي من مسرحية “كاسك يا وطن” للكاتب المبدع محمد الماغوط، بواقعة شخصيةتعود إلى شهر أبريل 1979!   كنت معتقلا لدى شرطة دولة “الحق والقانون” في  “العهد الحسني الزاهر” على رأي ” طيب الذكر ” مصطفى العلوي الشهير بـ “مسقط الطائرات”، في إطار حملة الترهيب التي استبقت إضراب رجال/ ونساء التعليم والصحة، أيام 9/ 10/ 11 أبريل…

كان الاعتقال تعسفيا وظالما بامتياز، لأنه تم في وضح النهار وأمام كشك لبيع الصحف في وسط المدينة الجديدة (دراع اللوز)، وقبل يوم الإضراب بخمسة أيام) من أجل تحقيق هدف واحد ووحيد، وهو ترهيب  “الآخرين” وردعهم لثنيهم عن المشاركة فى الإضراب الذي كان نجاحه مؤكدا، بحكم عوامل

عدة أهمها قوة التمثيل والمصداقية التي كانت تتمتع بها النقابة الوطنية للتعليم وقتها  (حوالي  95 في المئة من الأصوات في انتخابات اللجان الثنائية)… 

    لكل ذلك كان من الضروري استعمال “العصا الغليظة” التي يلجأ إليها “المخزن ” بين الفينة والأخرى لإعادة “الأمور إلى نصابها” ولإفهام من “لا يريد أن يفهم” من أصحاب الرؤوس الحامية، أن”المخزن ما معاه ملاغة”.. و مللي كتحماض ما كاين غي “الله يعطيك صحيحتك”.. و”اللي دوا يرعف” !

  المهم أنني اعتقلت فقط لأنني كاتب جهوي للنقابة الداعية للإضراب!! وضعت في زنزانة انفرادية في مفوضية الشرطة (المقر الإقليمي) أيام الجمعة والسبت والأحد والاثنين والثلاثاء…

… وفي صباح يوم الأربعاء جاءت لحظة التوقيع على المحضر قبل التوجه إلى المحكمة…

  وهنا وقعت”الواقعة” التي تسترجعها ذاكرتي كلما عاينت أو قرأت أو سمعت عن شيء يرتبط بـ…الكرامة ..كرامة الإنسان المغربي المقهور !!

  ففي لحظة التوقيع على المحضر (الذي اكتشفت فيما بعد أنه خضع لتزوير ممنهج بتغيير تاريخ الاعتقال ليصبح، بقدرة ضابط، يوم الثلاثاء بدلا من الجمعة ليتصادف مع يوم الإضراب وتستقيم “تهمة” عرقلة حرية العمل، التي ظهرت على نحو مفاجئ في قاعة المحكمة!!

تقدمت لتوقيع المحضر. بعد قراءته (دون الانتباه لتاريخ الاعتقال المزور).. وهنا فوجئت بأحد الضباط الشباب، يعلق على التوقيع، وهو ينقل بصره بين العبد لله والمحضر، قائلا:

!L ecriture , c’est  l, art des ânes  

  (كان يعلق على توقيعي بخط عربي جميل !!) هكذا… بكل بساطة …

   L écriture الخط .. هو فن الحمير.. أو الأغبياء !  هكذا  !!

  تعليق مهين.. بلا مبرر على الإطلاق.. إلا الرغبة المريضة في الإذلال، والمس بالكرامة الشخصية!!

اكتفيت بابتسامة تنضح بالمرارة وأنا أغلي كالمرجل من الداخل، وتملكتني رغبة جامحة بالرد، ولكنني تمالكت نفسي عندما استحضرت مشاهد ما جرى لي قبل سنوات خمس في نفس المكتب على يد الجلاد “الخمسي” و شافه “لغريب”: ثلاث ساعات من التعذيب الوحشي، وأنا معلق كـ “الطائر” بين طاولتين،  معصوب العينين، ولسعات “السوط” المجدول من “عضو” الثور الجنسي، تتوالى بلا هوادة أو رحمة، وسط صراخ تتخلله “مداعبات” شديدة

“التهذيب”، من قبيل : شنو رأيك، كوميسير “يلا زرنا التر….ديال الشريف؟! شنو ظهر لك؟!”.

      كل ذلك كان يتم مصحوبا بلمسات بـ”سوط” عضو الثور في المؤخرة “المرفوعة” إلى الأعلى بين القدمين المتورمين من شدة الضرب، الذي لم يكن يتوقف إلا على وقع “دوش”سطل الماء الممزوج بـ “لكريزيل”! ولكم أن تتصوروا حجم الآلام والمعاناة في ليلة خريفية غطت فيها الثلوج ضواحي المدينة، وأنت “مرفوع” بقضيب حديدي  بين طاولتين، معصوب العينين، مكبل اليدين، غارق في مياه باردة ممزوجة بـ”لكريزيل”!!، و”الخمسي” ينهال عليك بسوطه الثوري” (نسبة إلى الثور !!) بسادية “غريبة” وسط “شلة الأنس” المشكلة من “m  sieu الكوميسير و مساعديه الذين كانوا “يستمتعون” بمشاهد تعذيب “الشريف بن الشريف”  الذي ينبغي أن  “يرتدع” ويعود إلى “جادة الصواب”، ويكون مثل والده “الاستقلالي العريق” !!

 تذكرت كل ذلك وأنا أجيل بصري بين الحضور. و”لعنت الشيطان الرجيم”، ممنيا النفس بـ”يوم معلوم تترد فيه المظالم  أبيض على كل مظلوم أسود على كل ظالم”.. ومن يومها ترسخت لدى العبد لله قناعة راسخة بأن معضلة المعضلات في هذا البلد المنكوب بالاستبداد والقهر، هي بالأساس “شيء ” اسمه الكرامة !   

كرامة الإنسان/ المواطن المغربي الذي يصر ” أصحاب الحال ” فيه على كسره وإذلاله، انطلاقا من “مبدأ “: ما خصش كحل الراس يعللي الراس!! والله يرحم مولاي ادريس…

      ملحوظة لها علاقة بما سبق:

الاعتقال التعسفي الظالم توج بالسجن لمدة ستة أشهر قضاها العبد لله بين السجن المدني بتازة وسجن عين قادوس بفاس، أعقب ذلك طرد من العمل لمدة تقارب السنة ونصف، انتهت بـ” عفو ” …

( من يعفو عن من؟؟؟!)

Visited 24 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الكريم الأمراني

صحفي وكاتب