معرض الفرَس في الجديدة.. غُرَّة جَمَاليّات الفلكلورالمغربيّ
د. محمّد محمّد الخطّابي
كانت بداية الاهتمام بالفولكلور فى أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر فى كنف الثورة الصناعية الكبرى، حيث بدأت الدول تشعر بالقوميات، والرّغبة فى الإنتماء، بعد أن تفتّح الذهن البشري على الإكتشافات العلمية فى مباحثه التاريخية، والأدبية، والانثروبولوجية وغيرها، فإتّجهت من ثمّ إلى العناية بالمأثورات الشعبية بصفتها أحد مظاهر الشعوب، ومقوّماتها الأساسية، التي كانت فى القديم تروى وتتناقل متواترة من جيل إلى آخر، إلى أن جاء عصر التدوين والتوثيق والدراسة والتعليق، فزادت العناية بهذا العلم بعد انحسار النفوذ الأجنبي، وبعد أن قلّت أهوال الحروب، وهدأ أوار الفتن والقلاقل، ولإتجاه الشعوب إلى البحث عن مقوّماتها الحضارية، والتنقيب عن تراثها الشعبي، والعناية به وإحيائه، كلّ ذلك كان له الأثر الكبير فى العناية بهذا العلم ، كما إنصبّت العناية كذلك على غيره من العلوم الأخرى التي لها صلة بموروثات الشعوب.
ومعروف أن “الفولكلور” مصطلح أطلقه فى القرن الثامن عشر عالم إنجليزي يُسمّى “وليم جيمس تومس”، ولقد استحبّ العلماء بعده هذا الاسم، فصار عِلماً تعرف به عادات، وتقاليد، وموروثات، ومأثورات، وطقوس، وأغاني شعبية، ورقص، وأهازيج وغيرها. هذه الألوان المختلفة من الفنون الشعبية المتوارثة والأشكال الفنية عند كل أمة تندرج جميعها تحت هذا المصطلح. الذي يعود فى الأصل إلى كلمة جرمانية قديمة تعني معارف الشعب، أو مأثورات، أو موروثات الشعب، أو كلّ ما يصدر عن الشعب من غناء، ورقص، وأدب شعبي، وحِكم، وأمثال، وطرائف وأزجال،ومستملحات وغير ذلك، وبمعنى إجمالي هو روح الشعب النابضة، أو ضميره الحيّ الذي يعكس لنا أهواء، وأصداء، ونوازع، وإبداعات الشعب على إختلاف طبقاته، وتباين شرائحه، وتعدّد فئاته وألوانه، والشعب هو صاحب هذا الذي نطلق عليه إجمالاً الفلكلور .
المأثورات المتوارثة
لا حاضر ينشأ من عدم ومن الطبيعي أن تقيم كل أمّة من الأمم مهرجانات وتظاهرات فولكلورية إحتفاء بهذه الفنون الشعبية التي هي فى الواقع الصورة الحيّة النابضة لروح شعبها وأنعكاس واضح لما فى بواطنها من أهواء، وغرائز، وطموح. كل هذه النفائس الشعبية – التي يظنّها البعض خرافات – تحوي تاريخ هذه الأمّة ومعتقداتها ، وتعبّرخير تعبير عن آمالها، وآلامها، حاضرا وماضيا ومستقبلا،وكما هو معلوم لا حاضر ينشأ من فراغ أو عدم، بل لابدّ أن يقوم على دعامات وأسس – والفولكلور أحد هذه الأسس والدعامات بدون شك- لأنه من الشعب وإليه ،وتربطه به صلات وثيقة جدّا نابعة منه وعنه .
غلغامش الملحمة البابيليّة
وليس من شكّ أنّ دراساتنا للفلكلور تكشف لنا النقاب عن حقائق تاريخية مذهلة لم تكن فى الحسبان. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، بعد العثور على ملحمة “غلغامش” الشهيرة (1)، أزاحت الحجب عن كثير من الحقائق المجهولة، والأسرارالمثيرة، مثلما كان عليه الشأن مع سواها من الملاحم الشعبية والتراثية الاخرى فى مختلف انحاء العالم التي تؤؤّل تأويلا رمزيا فتعطينا نماذج من صور الشعوب، وأنماط حياتها، وعوائدها، ومعتقداتها، وتقاليدها، وعباداتها، وعلومها، ومعارفها، وفنونها،وخرافاتتها، ومعايشاتها فى القديم .
ولا ينبغي أن يقتصر أو ينحصر دور الدّولة على الاحتفال بهذه الفنون كلما حال الحول، وإقامة المهرجانات لها التي يغلب عليها الطابع السياحي المرتجل، وإنما ينبغي ان ترصد لهذه الفنون، والموروثات فى الوقت ذاته إمكانات مادية وعلمية شتّى لتسليط الأضواء الكاشفة عليها، ودراستها، وتقييمها، على أسس علمية ثابتة والعمل على تطويرها وإنمائها.
مهرجانات فلكلورية
يحفل العالم العربي بالعديد من المهرجانات الشعبية والفلكلورية على امتداد رقعته الجغرافية المترامية الأطراف، حيث تقدّم عشرات الفرق داخل الوطن العربي وخارجه لوحات رائعة تعكس هذه الفنون الإبداعية الفطرية والفنية على إختلافها، وتنوّعها، وتعدّدها بشكل جليّ غنى وثراء وتنوّع هذا التراث الزّاخر الذي يكس بدوره مدى عراقة هذه الشعوب وتعدّد إثنيياتها وأجناسها، ينبغي أن لا تظلّ هذه الفرق الفلكلورية فرقا قائمة هائمة على وجهها تعتمد على إجتهادها الشخصي وحسب، بل ينبغي أن توفّر لها جميع إمكانيات، وفرص التطوّر، والرعاية والعناية والتشجيع ، كما ينبغي أن توفّر لها وسائل التدريب والمران والممارسة والإحترافية، وأخذها على مناهج الدراسات الأكاديمية الحديثة فى الحركة، والإيقاع، والصّوت، والتجديد، وتلقين هذه الفرق مختلف أنواع الفنون الموسيقية، وضروب الألحان، وأصول الأنغام والإيقاع. ولا يجب حصر نشاطاتها داخل البلدان العربية فقط، بل علينا أن نختار أجودها، ونعني بها حتى تكون سفيرتنا فى الإبداع الشعبي الخلاّق فى الخارج،لتشارك فى مختلف اللقاءات، والمهرجانات، والتظاهرات الفولكلورية والفنية فى العديد من بلدان العالم.على غرار الفرق الفنية والشعبية العالمية الأخرى التي تمثّل مختلف دول وأمم وشعوب المعمور. العناية بهذا التراث الثريّ ولتعريف به، والمحافظة عليه، ونشره، وذيوعه، واستمرارية إشعاعه، وتألّقه أمر لا مندوحة لنا عنه .
مورُوثات الشّعب
وممّا لا ريب فيه أنّ الفلكلور يعتبر من أهمّ مورُوثات الشّعب وهو ضميرُه الحيّ ورُوحُه النابضة. وعالمنا العربي والامازيغي زاخر بالمواهب، حافل بالأصالة، ولكنه يحتاج إلى توجيه سديد، وهو مطالب بالتجديد (إذا تكلّمنا عن الرّقص والغناء الشعبيين بصفة عامة) فهذان اللونان محتاجان إلى مزيد من التجديد، والتطوّر حتى لا يملّ منهما المستمع والمتفرّج، خاصّة وأنهما ما برحا يعتمدان فى الغالب على النغمات والإيقاعات المتكرّرة والمتواترة والمكرّرة، أو يقومان على الإيقعات المتشابهة المعهودة، عكس أداء العديد من الفرق الشعبية العالمية الأخرى من مختلف بقاع وأصقاع المعمور، التي تتعدّد وتتنوّع فيها النغمات ،وتتلوّن الإيقاعات لتفادي التكرار والرتابة، فالتطوّر، والتنوّع، والتجديد، والتشجيع ، كلّ هذه العناصر والمستجدّات ضرورية، ولا مناص لنا عنها إذا أردنا لفنوننا الشعبية أن ترقى إلى منازل الفلكلور العالمي المنظم،الذي يسمو فوق الذوق، والرّوعة، والإعجاب، والإنبهار. وما النجاح الذي أحرزته بعض فرقنا الغنائية الشعبية والفلكلورية المعاصرة الجيّدة إلا إنعكاس لهذا التطوّر الملحوظ فى التنغّم، والأداء، والحرص على الإبتكار، وتفادي التكرار والرتابة، مع الحفاظ على روح المضمون الذي يقف على أرضية خصبة من التراث، والذي ينطلق ويستقي مادته الأولى، وعناصره الاساسية – فى المقام الأوّل- من ضمير الشعب، ونبض الجماهير، ومعاناتها، وآمالها، وآلامها، ونضالاتها، وتطلعاتها، وطموحاتها وتطلعاتها نحو غد أرغد.
الفانتازيا التبوريدة
فنون “التبوريدة” حاضرة بقوة في هذ التراث الزاخر فى المغرب والتي تسمّى كذلك الفانتازيا ولقد امكن لهذا التراث الحي ّ ان يحظى بتقدير خاص وعناية فائقة من طرف المنظمة العالمية لليويسكو حيث سجلت مؤخراً “التبوريدة” كتراث ثقافي انساني عالمي غير مادي لدى هذه المنظمة الدولية، تؤول تسمية هذا الفن الفلكلوري العريق إلى صوت البارود الذي ينطلق فى حماس منقطع النظير من فوهات بنادق الفرسان خلال الاحتفالات والاستعراضات الشعبية التي يتم تنظيمها فى العديد من المناسبات والاعياد الدينية والوطنية وحتفالات الختان والعقيقة والزواج وسواها من التظاهرات بمداشرو بوادي وقرى المغرب، فضلاً عن إحياء ذكريات المواقف البطولية أثناء الحروب البطولية التي خاضها اجدادنا الميامين ضد المستعمر ولقد شاهدنا لوحات مبهرة لهذا الفن المتوارث الرفيع في المعرض الوطني للفرس المنظم مؤخراً بنجاح مبهر في مدينة الجديدة ومعروف ان هناك لوحات للعديد من الفنانين التشكيليين العالميين، من بينهم الرسام “أوجين دولاكروا” الذين اولوا عنايتهم واهتمامهم بهذا اللون من الفنون المتوارثة الجميلة التي تندرج تحت مصطلح الفلكلور الذي يعتبر ولا ريب ضمير الشّعب الحيّ ورُوحُه النابضة.
لهذه الأسباب وسواها نرجو أن يولي القائمون على هذه التظاهرات والمهرجانات الشعبية، والفنون الفلكلورية التي تقام فى تواريخ متباعدة فى مختلف المدن، والحواضر، المناطق المغربية والعربية على وجه العموم حقها من الدّراسة والتمعّن، والتمحيص، والتحليل، مع العناية، والإهتمام بباقي المأثورات الشعبية الأخرى التي تدخل فى صلب الفولكلور بمعناه الواسع، وذلك بتنظيم أيام دراسية، وإقامة طاولات مستديرة، وإلقاء محاضرات، وعقد ندوات، وحلقات دراسية، وميدانية جادّة، وأكاديمية متخصّصة يستقصي فيها ومن خلالها المهتمّون والمتخصّصون هذا التراث الحضاري الثريّ بقيمه الجمالية والفنية، التي تزخر بها فنوننا الشعبية المتنوّعة الأصيلة.
وكان الفرس في صلب مواضيع العديد من الندوات الثقافية والعلمية في معرض الفرس بالجديدة كما كان هذا الملتقى العتيد مناسبة لتبادل الخبرات بين الباحثين والدارسين والطلاب والمهتمين بعالم الخيول، وشكّل المعرض فرصة سانحة لدراسة ومناقشة التطورات الجديدة المستجدّة التي لها صلة بهذا بالقطاع الهام الحيوي من تاريخنا العريق. كما تمّ تنظيم موائد مستديرة وورشات تعليمية وملتقيات ترفيهية للجمهور بهدف توعية الأجيال الصاعدة بأهمية الفرس وبمكانته المرموقة في حياة وتاريخ المغرب ، فضلا عن تقديم مختلف فنون الفروسية الاستعراضية بمشاركة فرق وطنية وأخرى دولية رفيعة المستوى.
وفى مقال قادم بحول الله- وفى نفس سياق الاحتفال بمعرض الفرس – سنسلط الأضواء الكاشفة على تاريخ الحصان وحيثيات وصوله واستقراره وانتشاره والعناية والاحتفاء به في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية وفى البيرو على وجه الخصوص الذي ما زال الى يومنا هذا يطلق عليها الباحثون المتخصّصون في هذا البلد الصديق بـ: (الحصان البربريّ – المغربيّ) El Caballo Berberisco Marroquí الذي وصل عن طريق الاسبان الى أمريكا.
ويؤكد الباحثون ان هذه الأحصنة التي يطلق الاسبان على بعضها بـ: “خيول الريح” انتقلت من المغرب إلى إسبانيا في عهد الأمير الأموي عبد الرحمان الداخل المعروف بـ: (صقر قريش)، وسُميت بهذا الاسم نظراً لما تتمتع به من رشاقة وخفة وسرعة الحركة كما تتميز بخفّة وزنها وقوتها على الصّبر والجلد، وقدرتها على تحمّل العطش. ويقال عنها في الاقوال العربية المأثورة وهي تسابق الرياح عدواً: (انها تكاد تخرج من جلدها من كثرة العدو). ولقد قطعت الخيول المغربية – البربرية بحر الظلمات حتى وصلت أمريكا، غداة وصول كريستوبال كولومبوس وصحبُه إلى أراضي العالم الجديد في القرن الخامس عشر الميلادي حيث اصطحب معه عدداً منها وانتشرت في مختلف الديار الأمريكية .
——————-
(1) ملحمة غلغامش، ملحمة بابلية قديمة إعتبرها الكاتب العراقي الرّاحل عبد الحق فاضل ثامنة أعاجيب العالم القديم لما فيها من دهاء فنّي عجيب، ولما تتوفّر عليه من مضمون إنساني عميق، من أشهر مترجميها “ساندرز” الإنجليزي، و”سبايزر” الأمريكي ، وطه باقر، ثمّ أخيرًا الصّديق العزيز المرحوم عبد الحق فاضل، وتعتبر ترجمته من أوفى الترجمات الثلاث، ولقد كشفت هذه الملحمة عن حقائق مثيرة ومعلومات مذهلة فى عالم ما بين الرّافدين فى العصر البابلي القديم.