غاستون باشلار: السَّديم

 غاستون باشلار: السَّديم

    ترجمة: سعيد بوخليط

منتصف الليل وخمسة عشر دقيقة: ليالي غير معلومة، أترصَّد إبانها تأمُّلا مرور سفن كثيرة: آه أيُّها السديم- الأمّ.

(جولز لافورغ ، مقدمات سير ذاتية، الأعمال الكاملة، ص 64)

يمثل الحلم تشكيلا ليليا للكون. مع حلول الليل ، يبدأ الحالم العالم ثانية. حينما يدرك كل كائن الانفصال عن هواجس النهار، وكذا إعطاء تأمله الشارد مختلف قوى العزلة، سيعيد إلى التأمل الشارد وظيفته المتمثِّلة في تأسيس الكون. لحظتها يحس بمدى صدق فحوى كلام فلاديسلاس ميلوش : “فيزيائيا، ينساب الكون برمته  داخل ذواتنا” (1) .

يمتلك الحلم بالكون، في إطار بصيص ضياء نومه، يخلق بنوع من السَّديم الأولي  أشكالا بلا عدد. وعندما يفتح عينيه، سيكتشف ثانية عبر السماء عجين بياض ليلي- أكثر طوعا من الغيمة- يتيح إمكانية، صياغة عوالم لانهائية.

أيضا، كم هي السهولة التي يستسيغ وفقها الفكر الموسوعي فرضيات العلم المعاصر بخصوص نشأة الكون وقد أخرجت العوالم من سديم أصلي! وأيّ نجاح، يدركه كتاب مبتذل، جراء حمولة صورة بسيطة عن سماء تبرزها زوبعة سديمها ! فلأن الخيال الديناميكي يشتغل ضمن سياق صور من هذا القبيل.

إذن، بينما تُقارن النجوم غالبا، بمسامير ذهبية، مادامت تجسِّد رموزا للثبات، فإن سديم مجرة درب التبانة على العكس من ذلك – يلزم النظرة المتأمِّلة أن تضفي عليها نفس ثبات النجوم- تبلور خلال تأمّل ليلي، تيمة تحولات لانهائية. صورتها ملوَّثة في الوقت ذاته، غيمة و حليبا. تنتعش ليلا، عبر هذا الضوء اللّبَني. تتجلى، معالم حياة متخيَّلة داخل هذا الحليب الهوائي. أمكن حليب القمر اغتسال الأرض، يمكث في السماء حليب مجرة درب التبانة.

لقد عاين باتريك لافكاديو هيرن هذا الانسياب السماوي لدرب التبانة. ثم انصب تأويله لعدة قصائد يابانية، انطلاقا من هذا ”النهر السماوي”حيث نرى ”أعشاب ماء نهر السماء تنحني أمام ريح الخريف”، ويبعث إلى أسماعنا” جَلَبَة تجديف القارب الليلي” (2). عندما اختبر لافكاديو بكيفية معكوسة العقلانية المعهودة، تبعا لنموذج ينبغي تسميته باللاعقلانية، خَلُص وجهة مايلي :”لا أتأمل أبدا مجرة درب التبانة مثل دائرة مرعبة عن الكون ،ظلت مئات ملايين الشموس عاجزة عن إضاءة هُوَّتها. بل أنظر إليها كما لو تجسِّد نهرا سماويا. أرى رجفة مجراها المتلألئ، وكذا الغيوم التائهة بجوار ضفافها. وأعرف بأنَّ نبيذ وردها المتناثر عبارة عن غبار ماء تبعثه مجاذيف راعٍ”.

هكذا، يستعيد الخيال حقوقه، خارج كل معرفة موضوعية، رغم كل اختبار هادئ، ويضخّ الحركة والحياة في صوره الأكثر ثباتا وفتورا. إنه يجعل المادة تصبّ من السماء. حينما أسس ديكارت بحثا علميا حول الكون ظهرت معه”السماوات سائلة”، أمكننا ذلك تبيُّن ملامح عقلانية تأمل شارد منسيٍّ.

يمكننا علاوة على ذلك، اقتراح مايلي، باعتباره فرضية أساسية للخيال المادي الديناميكي: تستحيل رؤية المبعثَر في إطار الجمود. يبدو، حسب قول دانونزيو (المدينة الميتة) ، بأنَّ “مجرة درب التبانة تخفق للريح مثل حجاب طويل”. يأخذ كل تراكم متعدد وعديم الشكل، صورة ازدحام . هكذا، نعت فيكتور هيغو درب التبانة ب”عشِّ نمل السماوات”.

تبعا لنفس المسلمة، يعتبر الوميض، بالنسبة للكائن الحالم، أكبر من الضوء، لأنه من بين الماهيات المتخيَّلة للوميض امتداده وانتشاره ، بعيدا عن الحدود التي حصرته ضمنها اللمحة. أيضا، بوسع الخيال انطلاقا من تأمل درب التبانة، العثور على تجربة قوة كونية ناعمة.

يبرز غوستاف كاهن مثالا عن هذه الرؤية التي تعرف تضخيما عذبا: “تتضاءل عذوبة مجرة درب التبانة على امتداد فضاء أكثر رحابة جراء مزيد من العوالم البعيدة، وفِضَّة نابضة بالحياة، ثم المجهول وكذا وعود غامضة وعذبة”. (3) ينساق الحالم كليا بين طيات هذه الفتوحات المتخيَّلة، خلف التهزهز. يظهر بأنه قد عثر ثانية على الوثوق في طفولة بعيدة. الليل حِضْن ضخم. 

أحيانا يأخذ التأمل الشارد لمجرة درب التبانة بين صفحات عمل وضعا محوريا جدا، بحيث يشرح تماما وجهة نظر. ينطبق الأمر مثلا على عمل جولز لافورغ، الذي يمكننا بسهولة تأطيره ضمن نطاق فضاء أدبي للسَّديم. يشكِّل الأخير بالتأكيد مصدرا للعمل.

سنقرأ، بين صفحات رسائل إلى صديق، تحديدا غوستاف كاهن: “أودُّ القول …أقمتُ في الكون، قبل تحولي إلى صاحب هواية وكوميدي”.

لقد أحبَّ جولز لافورغ في الطبيعة، كأنَّه من سلالة فاوست، المواد الوافرة و الطرية، و الخيمياء الشعرية، فاكتشف فعلا تحوُّلات ملموسة:

لو كنتِ تعلمين، يا أمي الطبيعة

لو كنتِ تعلمين، بأنَّ حِصْني أصله مائدة موادكِ!

تعتبرينني مسؤولا

نعم أنا مسؤول غاية الموت! 

(ملتمس- شكوى لفاوست الابن)

   يخبرنا العلم بأن الحياة الفعلية بدأت في البحر؛ بينما تبلورت الحياة الحالمة داخل نوع من المحيط السماوي. كتب جولز لافورغ  في ”ابتهالات البؤس” ما يلي:

تحلِّق نحو السماوات الزرقاء، مخصِّبات الشمس

تسقط بحيرة متوهِّجة ثم تتبعثر

من هناك تشكَّلت بحار العهود الأولى ثم أنين الغابات وكذا مختلف صرخات العالم. 

ويتساءل تأمله الشارد اللامتناهي: 

آه !هناك، هناك … عند ليلِ الغموض،

أين أنت إذن، منذ كواكب عديدة، غاية الآن

أيها النهر الفوضوي، أيتها السَّديم- الأمّ،

حيث انبثقت الشمس، أبونا القويُّ؟

(غروب الشمس ذات يوم أحد صيفي، ص 41) 

بالتأكيد قد تظهر الدلالة الكونية لقصائد جولز لافورغ، متوارية لدى بعض القراء نتيجة  الخاصية المموهِّة للقصائد .

يلزم من بعض النواحي، قصد تحقيق التأمل الذاتي في الفضاء  الكوني للافورغ، الانتقال عبر كون مقرِف. بيد أنَّ التحليل التفصيلي للصور يسمح بتناول انحدار حالم مشمئِزٍّ من أضواء متخثِّرة، وكذا ليالي تمخَّضت عنها بشكل سيئ زوابع غير عادية، ثم أقمار شاحبة و هلامية. جملة أوصاف لن يجد المحلِّل النفسي صعوبة كي يمنهجها. نعمل على تجميعها فقط لتبيان كيف أن المواد تكتسح سماء العالم .

بالنسبة إلى لافورغ، السماء فعلا: ”حلم يُرى مرة أخرى”. مع حلول كل ليلة، ينطلق كي: “يرتشف نجوما في متناوله، آه يالغز !” (ص 62 ) “يغازل أوراش النجوم”. ثم يكرِّر أمنيته أمام درب التبانة: “فلتكوني هَيولى” (ص 63 ).

في السماء كما الأرض، يتضخم كل ماهو غامض ومستدير، ما إن يتدخل التأمل الشارد. لن يقف إفراط الخيال عند الانتفاخ وكذا الانسياب، سينتابه غليان ثم يعيشه. هكذا، بدت صفحة (تمهيد)، بين دفتي كتاب إليمر بورجيه “صحن الكنيسة”، في غاية الارتقاء على مستوى اللون، ومتصنِّعة جدا قوتها: ”تخرج عن هذا العراء سيول أعاصير ذهبية مندفعة؛ تتفتَّح داخل أعماقها أشكال حيوانات إلهية، نسر، ثور، بجع، مذهلة، مثيرة جدا، بالكاد نلاحظها وسط زبد البحر المضطرم، وكذا أبخرة الذهب الهادرة التي تصدر فقاعات”. يعزى هذا الدويّ المفرط للمادة الدائرية إلى تأمل ليلي هادئ جدا: ”يتلقَّح مجمل الأثير بندفه،  من بذور هذا الثلج الفضي”.

ينتابنا نفس الانطباع،  مع صفحة أخرى لأندريه أرنيفيلد ،عندما يحلم بتقاسمه حياة السَّديم: ”أرى نوعا من الاضطراب المتشنج توهُّجه، عجين غيمات نار تتبادل دون توقف منحنياتها، وكذا الامتداد والكثافة. ضفائر، انتفاش ، تطاير شَعْر نيران صوب مختلف الجهات، تتبخَّر حينما يلاقي تدفقها الصاخب، برودة الفضاء ، أو تتساقط ثانية أمطارا ملتهبة” (4).

لاتسمح لنا هذه الأصوات الخشنة كي نرهف السمع إلى صمت الليل. كم سيتم فهم قوى الإبداع بشكل أفضل من طرف فلاديسلاس ميلوز:” اقتربْ إذن بصدغ أذنكَ واستمعْ. رأسي أشبه بحجرة ملتقى طرق وكذا تدفّق كونِيَيْن. هاهي تمرُّ عربات تأمُّل  كبيرة سوداء وصماء. ثم يحدث فزع وكذا انسكاب للماء الأصلي.سيكون مختلف ذلك صمتا”. (5)

بالنسبة لسَديم في طور التشكُّل، يتأمل الليل بصمت، تلتئم رويدا رويدا الغيمات الأصلية. ينبغي لشاعر كبير الاحتفاظ بهذا البطء وكذا الصمت.

تتمكن قوة متخَيِّلة وكذا هيولى الصور،في خضم تأمل مشهد من هذا النوع، كي تتبادل قيمها. سنعثر ثانية هنا على تفسير جديد لما سميناه بالخيال المعمَّم، في فصل سابق، كي نحدد صورا لاينفصم معها ارتباط المتخيَّل والمتخيِّل مثل الواقعة الهندسية والفكر الهندسي فيما يتعلق بالنسبية المعمَّمة.

تجسِّد القوة المتخيِّلة وحدة مع هذه الصور، حينما يشتغل الحالم على العجين السماوي. يفسح سحر اعتاد التأثير على الكون، المجال أمام سحر ثان يشتغل على فؤاد الحالم نفسه. يتضافر سحر منفتح وآخر انطوائي، وفق تبادل دقيق.

القصيدة الكلية والمثالية، بالنسبة لهيغو فون هوفمانستال: ”جسد قزم، شفَّاف كالهواء. إنه مبعوث يقظ يحمل عبر أجواء الهواء  خطابا سحريا: يمسك حين العبور بلغز الغيوم، النجوم ، القمم الجبلية، الرياح، بحيث تعكس الصبغة السحرية بكيفية دقيقة، وقد امتزجت بالأصوات المبهمة للغيوم، النجوم، القمم وكذا الرياح” (6). يصبح الرسول ورسالته كيانا واحدا. يتبارى العالم الباطني للشاعر مع الكون: ”مناظر لحظة انتشاء أكثر روعة من مناظر سماء مرصَّعة بالنجوم؛ ليست لها فقط دروب مجرة  التبَّانة التي أرستها ملايين النجوم، لكن أيضا انطواء ظلمة فجواتها على حياة، يكتنفها اللانهائي، تغدو جراء استفاضتها غامضة ومختنقة. بوسع لحظة أن تضيء تلك الفجوات حيث الحياة تلتهم نفسها، فتحرِّرها، وترتقي بها صوب سبل لمجرة درب التبَّانة”.     

هوامش:

مصدر المقالة :

Gaston Bachelard :Lair et Les songes .Essai sur l imagination du mouvement (1943).pp :31 -37.

(1) أوسكار فلاديسلاس ميلوش: فنُّ اكتشاف العظيم .

(2) لافكاديو هيرن: رواية مجرة درب التبانة،ص.51 – 61

(3) غوستاف كاهن: الملعب الشمسي، ص 110

(4) أندريه أرنيلد : التابوت، 1920، ص 36

(5) أوسكار فلاديسلاس ميلوش: فن اكتشاف العظيم ص 35

(6) هيغو فون هوفمانستال: كتابات نثرية، ترجمة، ص : 169- 171

     

Visited 4 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي