قراءة في الحكاية الشعبية: أبو سعدية أو الذكورة المنبوذة
لحسن أوزين
ونحن نريد التفكير نقديا في خطاب الذكورة، كمنظومة فكرية ثقافية سياسية تعبر عن رؤية محددة للذات والآخر والعالم نجد أنفسنا أمام مجموعة من التساؤلات الملحة والمحرجة: ألا يمكن اعتبار هذا المفهوم “الذكورات المنبوذة” من المسكوكات التي أنتجتها استراتيجية التسمية لخطاب الذكورة، كسلطة سيطرة وهيمنة فالقدرة على التسمية هي قدرة سلطة ذات هيمنة او تسعى إليها؟ بمعنى أين يكمن العجز في انتاج المفهوم المناسب لنقض الذكورة كممارسة سياسية اجتماعية وفكرية ثقافية؟ أليس في القبول بهذا المفهوم كما هو اعتراف بالثنائية الضدية المفتعلة بين الذكورة والأنوثة الى درجة الحساسية من خوف وصف خصوم الذكورة \ تبعا للمضمون الذي حددناها به \بأي لفظ أو تعبير قد يحيل بشكل أو بآخر إلى ما هو أنثوي؟
فما سر هذا الخوف من رهاب الخصاء اللغوي والمعنوي في حق الذكورات المنبوذة كممارسات ايديولوجية وسياسية نقيضة للذكورات الصراطية كممارسات ايديولوجية وسياسية و فكرية ثقافية؟ وإذا كنا على وعي بتجاوزنا للمنطق الايديولوجي السياسي البيولوجي للذكورة الصراطية كأساس للتفكير والتحليل والنقد فما الذي يجعلنا اسرى استراتيجية سلطة التسمية هذه ؟ وهل يعود سبب هذه الالتباسات الى استعمالنا المجرد للمفاهيم بمعزل عن ربطها بالممارسات الايديولوجية السياسية أي بالصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية كواقع تعيشه المجتمعات؟ كيف يمكن لنقد ونقض الذكورة أن يكون ذكورة منبوذة؟ وهل الذكورة شر لابد منه أم أن انتاج المفهوم البديل صعب إلى هذا الحد إلى درجة تجعل الفكر النقدي للذكورة مكرها على الانطلاق من التربة الايديولوجية نفسها كما لو ان اللغة الذكورية شاملة وشمولية بحيث لا مفر من استعمال عدتها اللسانية والمعرفية والثقافية؟
أولا \ أبو سعدية وشم في ذاكرة المحجب والبغيض = إرادة النساء و إرادة الشعب
هل يمكن أن تكون الكتابة إزاء التحدي الذي يطرحه أبو سعدية سهلة ومبتذلة وفي متناول الجميع وتسمح بنوع من حق التأويل انطلاقا من قراءة معينة للألوان والأشياء والعلاقات والرموز والعلامات والدلالات قراءة يمكن ان تؤسسها المقاربات السميائية والسوسيولوجية وانتروبولوجية المتخيل الثقافي والاجتماعي…؟
بمعنى هل نستطيع وبثقة كاملة في النفس، انطلاقا من معرفة مدرسية اكاديمية، تجهل حرقة أسئلة البعد النقدي في الفكر والحياة، التجاسر وبوقاحة مسحة الصوفي المقنعة بخدعة الورع الديني الاخلاقي على خدش المحجب والبغيض، ذلك القبح المزدوج لإرادة النساء وإرادة العامة أو الشعب الذي يستميت المقدس\ الخليفة بشراسة على حجبه وإخفائه وقهره، بالخنوع والسمع والطاعة في وقت يصر أبو سعدية على حمل عبئه الثقيل؟
أين يختفي المهمش ويتمظهر السائد بلغة ناجية الوريمي؟ أو بالتعبير المؤرق لناصر حامد أبو زيد في كتابه الخطاب والتأويل كيف يسود خطاب المركز للغزالي ويبتلع خطاب الهامش ابن رشد؟ أي كيف يحكي و يعيد أبو سعدية انتاج سيطرة المركز على الهامش؟ ما الذي يخفيه أبو سعدية من سيرورات تاريخية اجتماعية سياسية ثقافية، ومن صراع حول المعاني والأفكار والدلالات ومن تعدد أريد له الحجب والفناء؟
نريد أن نفكر “تلك الأسئلة التي من شأنها أن تدخلنا في تاريخ اخر يقذف به البحث عن التفسير الى الجانب الاخر من المرآة ” 1 حيث يختفي التاريخ الصامت والمسكوت عنه وراء الابداع السخري للتراث الحي المتحرك والدينامي الذي يمثله أبو سعدية، وهو يتحايل في اشكال مقاومته للمقدس والسلطة.
وهل نحن في غنى عن منهجية رونيه جرار في العنف والمقدس الذي سيفيدنا في الكشف عن الأسس والاليات المعرفية والمعنوية السياسية والدينية والثقافية التي عملت على حصر الشر في الانثوي والعامة، أي في المحجب والبغيض بتعبير فاطمة المرنيسي، والوقوف بالمرصاد في وجه الحنان المتولد من صراع الانثوي والذكورة المنبوذة، التي تجرأت على رد الاعتبار للنساء والعامة، ضد الأسياد والارستقراطية، ومن ثمة الوقوف على ما أريد له أن يكون كبش الفداء أو الأضحية البديلة التي أنتجت السلطة روايتها بعنف القهر في إطار مربع “المقدس، السلطة، الجنس والحقيقة” وأسست لها تقاليدها الإسلامية بدءا من تلك الثورة المغدورة لصراع الحب والجنس المتمثل في احتجاج نساء النبيء حيث كان للمقدس و للسلطة الذكورية الكلمة الفصل فكيف يمكن الحديث عن الروحانية النسائية في ظل النظام الابوي الذكوري؟
ومن جهة أخرى ألا يذكرنا أبو سعدية بنص هام حيث “ينقل الطبري شهادة رجل حضر تشييع الخيزران الى مقرها الاخير سنة173 هـ “قال رأيت الرشيد يوم ماتت الخيزران وذلك في سنة 173 هـ وعليه جبة سعدية وطيلسان خرق أزرق قد شد به وسطه وهو اخذ بقائمة السرير حافيا يعدو في الطين حتى أتى مقابر قريش فغسل رجليه ثم دعا بخف وصلى عليها ودخل على قبرها” 3 . هكذا أريد لذاكرة المقدس والسلطة أن يسخر من الذكورة المنبوذة، من خلال تبخيسه لإنسانية المرأة واحتقارها الى أبعد الحدود، واعتبارها كائنا ما دون خط البشر. فتم الانتصار لتأويل واحد ضيق في خلفيته المعرفية، وفي قيمته الدينية، وفي رؤيته السياسية الكونية لمفهوم المجال الخاص السلمي الحريم، والعام الحربي الذكوري، وفي نظره للاختلاف الجنسي كهندسة اجتماعية. كما تم اختلاق أحاديث نبوية عدائية في حق النساء وفي حق الرجال الذين رفعوا من شأن المرأة، ومن قيمتها الانسانية وليس هارون الرشيد وحده من كان ضحية هذا الخطاب الذي تحالف في انتاجه وتشكيله عبر أحادية في التفكير وفق تصورات ومعتقدات تحجب كليا الحقيقة التاريخية والتعدد الفكري والسياسي والقيمي والمعنوي الذي عاشته المجتمعات العربية والإسلامية. وهذا ما يوسع من اشكالية اركون في تناوله لـ “الحقيقة، العنف، المقدس” التي لم تعد ثلاثية الأبعاد بل رباعية الأبعاد “الحقيقة، السلطة، المقدس، الجنس” انه بعد الرهاب النسائي والشعبي. أي الرهاب من النشوز عند النساء والعامة وهو في لسان ابن منظور مرادف للإرادة في أوسع معانيها الوجودية والإنسانية. وهذا البعد المكبوت والمخفي والمحجب كانشطار عاطفي ووجودي يعيشه الرجال في علاقتهم بالمرأة بين المقدس والمدنس. حيث المقدس مسطح لا عمقه له إلا المدنس. فأية روحانية مذهبية او طائفية او صوفية يعيشها الرجال وتعيشها النساء بخشوع ابن أوى؟
إن ذاكرة الأشراف والملأ الارستقراطية التي تكن الحقد والعداء والعدوانية للمرأة والعامة والعبيد أخذت في التشكل والتبلور كمقاومة للمساواة والعدل واقتسام الفضل والسلطة بمعيار الكفاءة والانجاز. هذه الرؤية العدائية تطورت حتى سيدت صورتها النمطية الوحيدة حول موقف المجتمعات الاسلامية من العامة الشعب والنساء وحاولت بكل ما أوتيت من جهد المعرفة والسلطة الدينية والدنيوية، من حكام ومؤرخين وفقهاء وقضاة الحط من قيمة النساء والعامة أو الشعب. كما عملت على اغتيال تاريخ ذاكرة الشعوب وهي تسدل الستار على عبيد وجواري حكمت عليهن بالحجب والنسيان والإقصاء والتهميش، في وقت أسسن دولا رائعة في الحكم وتجاوزن ضعف الخليفة وهشاشة مؤسسة الحجابة، وفقه الحجاب مثل انهيار الخلافة في وجه الغزو المغولي الذي قتل الالاف من الناس بما في ذلك الخليفة المستعصم الذي سخر من شجرة الدر حاكمة دولة المماليك، أي العبيد الذين استطاعوا وقف الزحف المغولي وتصدوا له ببسالة بفضل تضافر جهودهم بقيادة امرأة، بل أكثر من ذلك هزمت الغزو الصليبي الفرنسي وأسرت ملكهم.
إن سخرية ووقاحة العداء ازاء المحجب والبغيض الذي أراد أعداء هما تأسيسه في وجه الذكورات المنبوذة هي التي يحمل أبو سعدية سياقاتها الدينية والسياسية والتاريخية والثقافية، فمن يزيح هذا العبء عن كاهل وروح أبوسعدية؟ انه عبء ليس من المزق والخرق والأقنعة والاستعارات المؤلمة والمتخيل المسرحي، والفكاهة بايقاع أكل اللحم البشري الحي، عبر السخرية والضحك واسقاط الكراهية والعدوانية والعنف الداخلي للذات على الشبيه والنظير. فمن يزيح هذا العبء حيث تبلور تراث من الهزء والسخرية اللاذعة في حق كل ذكورة ناصرت والتحمت بالتفاعل المخصب للقيمة الانسانية بين الرجل والمرأة، من خلال قبول ندية حق الكلام و حسن الانصات لإرجاع الأثر في صراع الحب والجنس في اطار السلطة والمقدس؟
لا أعتقد أنني تعسفت في قراءة وشم الذاكرة الحي حيث انقلب السحر على الساحر. وظل أبو سعدية ذاكرة حية عصية على الفقدان والنسيان، كفوهة بركان تاريخي مكبوت ومسكوت عنه ومغيب بآلاف أشكال الحجاب، منها السخرية والقدح والقبح. فما الذي يعجبنا فيه، قامته، شكله، رموزه، علاماته أقنعته، غرابته تضاريس جسده وتشخيصه الحي للشر والقبح والمحجب والبغيض ؟ ما الذي تخفيه الاسطورة حسب مقاربة رولان بارت؟ هل هو عبء التاريخ المنسي لإرادة النساء والشعب؟ ” آن الاوان أن نتجاوز اسلام السادة وعلينا من أجل ذلك أن نخترق المستنقعات المظلمة حيث التهميش والاستثناء، أي أن نكتب تاريخ المنسي والمهمش، المتمثل في الرفض والمقاومة. تلك هي القراءة الوحيدة القادرة على أن تعيد للمسلم انسانيته العظيمة حيث تظهره لنا كائنا مسؤولا قادرا على الرفض اذا ما أمر بتشويه ذاته او التخلي عن قدرته في التفكير بشأن حياته وليس مجرد آلة”. 4
لم نضخم من أبو سعدية، فهو ليس موضوعا، بل ذاتا حية حقيقية تمثل إرادة مكفوفة، مقيدة ومحجبة الوجود والقيمة الإنسانية. كما أنه ليس ظاهرة تاريخية معزولة وخرافية كبهلوان “بلدي أصيل” يعبر عن خصوصية ما. بل هو قضية سياسية تاريخية مرتبطة موضوعيا بأسس نظام إستراتيجية التحكم والهيمنة الذكورية الأبوية في جدلية الانتباذ والانجذاب الحاكم لتفاعل “الحقيقة ، السلطة، المقدس والجنس” وبالتالي فحرية وتحرر هذه الذات\ الارادة المخنوقة مرتبط بزوال ذلك الفهم للسلطة والمقدس، ازاء الحقيقة \ حقائق والجنس والشعب. أي ببروز ذلك العري الجميل الأخاذ الذي جعل قاضيا محافظا يقدم تنازلا قانونيا شرعيا فيما يخص الحجاب ازاء الجمال الذي تتمتع به نساء المالدييف” يلاحظ ابن بطوطة بأن نساء المالدييف يبدين أجمل وهن نصف عاريات ” وكان لي جوار كسوتهن لباس أهل دلهي يغطين رؤوسهن فعابهن ذلك أكثر مما زانهن إذ لم يتعودنه” . 5 والعري هنا لا يقف عند سقف الجسد فقط بل يتخطاه نحو أفق شاسع لانفتاح الروح بنوع من الخشوع والتوحد الناذر الأقرب الى التجلي، والكشف الصوفي لقيمة الحب وسيادة الشعب وخصوبة ارادة النساء.
ما يزال سؤال التحدي مطروحا، كما أن أسئلة أبوسعدية وهو يدق الأجراس لا تكف عن الصهيل، مثل خيول جامحة. فهل أدعي الآن سهولة الكتابة لا أتصور ذلك. الكتابة مهنة صعبة كما يقول ناظم حكمت لأن الأمر لا يحتاج في مثل هذا الموقف إلى القول والبحث والخطابة والذكاء فقط، بل أيضا وبالدرجة الأولى الى ممارسة ليست فقط جندرية وإنما إنسانية شاملة كنمط تفكير وأسلوب حياة وجودية ورؤية للعلاقات والعالم. بكلمة واضحة قضية النساء والشعب تحتاج إلى الإرادة ” إن ما يزعج هو قرار امرأة بأن توجد كإرادة حرة وهناك فرق كبير بين الذكاء و الإرادة إن ذكاء امرأة يمكن أن يوضع في خدمة من يملكها أما الإرادة فلا تخضع لأحد أبدا الإرادة توجد أو لا توجد وإذا ما كانت موجودة فإنها تدخل حتما في منافسة مع إرادة أخرى وخاصة مع إرادة الشخص الذي علينا طاعته “. 6