لا رجال دولة في الحكم.. ولا ثوار في الساحات
د. وفيق ريحان
مع نهاية العهد الرئاسي، دخلنا فترة ستكون حافلة بالخطوات المتسارعة لتحقيق بعض الإنجازات التي قد تنسينا جميع الإخفاقات المتراكمة خلال السنوات الست المنصرمة، أما أعداء الأمس فباتوا أصدقاء اليوم، وها هو حاكم مصرف لبنان الذي شنت عليه جميع الحملات السابقة، يعد لخصوم الأمس مسرحية الإخراج من عتمة إنهيار سعر صرف العملة الوطنية تجاه الدولار الأميركي، وحيث تجاوز سعر صرف الدولار الواحد والأربعين ألف ليرة لبنانية منذ بضعة أيام، ليعود بضربة الحاكم المعلم الى عتبة الستة وثلاثين آلف ليرة، ولربما سيستمر هذا الإنخفاض طوال الأيام القليلة، ولا يكون مسؤولاً بعد ذلك عن أي تدهور في سعر صرف العملة الوطنية التي لا شيء يضمن استقراره من الناحية الإقتصادية أو المالية أو السياسية، وإن لعبة العشرين ألف مليار ليرة لبنانية التي جرى طبعها منذ شهر أو أكثر، وتدخل مصرف لبنان بواسطتها في شراء العملة الخضراء من السوق مساهماً بذلك في الارتفاع المتفاقم لسعر الدولار بوجه الليرة اللبنانية، بسبب زيادة الطلب عليه. فقرار المصرف المركزي بالتوقف عن شرائها حالياً سوف يقلل دون شك من وتيرة ازدياد الطلب عليها، وبالتالي انخفاض سعر الدولار نسبياً وتدريجياً مقابل العملة الوطنية. يضاف الى ذلك موافقة المركزي على بيع المزيد من تلك العملة الخضراء عبر المصارف التجارية، وفقاً لمنصة “الصيرفة”، مما يعيد ضخ المزيد من تلك العملات في الأسواق المالية، لكن ذلك سوف يبقى محكوماً دون شك بالإمكانيات التي توفرت لدى مصرف لبنان جراء شراء الدولار من السوق السوداء، وربما بالاستعانة بما تبقى من احتياطي إلزامي لديه من أموال المودعين.
يضاف الى ذلك أيضاً، عملية توقيع رسالة الترسيم للحدود البحرية بين لبنان ودولة العدو الإسرائيلي نهار الخميس الواقع في 27 تشرين الأول- أكتوبر 2022، والتي يعتبرها بعض السياسيين، ومن ضمنهم التيار الوطني الحر، إنجازاً عظيماً من إنجازات هذا العهد، وبأن ذلك سوف يساهم هو أيضاً في خلق مناخ من الاستقرار والازدهار المستقبليين للبنان بحسب توقعات تلك القوى والتيارات السياسية المتحالفة بالرغم من التخلي عن أجزاء واسعة من المنطقة الإقتصادية الخالصة والواقعة بين الخطين 23 و29 من الجهة الحدودية الجنوبية للبنان.
ويطل علينا حالياً وبصورة شبه يومية جبران باسيل رئيس التيار الوطني الحر الذي ما زال يعتقد أنه سيكون خليفة العهد الأفل واستمراراً طبيعياً له، وذلك بالرغم من إدراجه عالمياً ضمن لائحة كبار الفاسدين والمختلسين للأموال العامة والإثراء غير المشروع في لبنان، متباهياً بنظافة كفه وزملائه في تياره السياسي، ومعلناً الحرب العلنية على حكومة رئيس مجلس الوزراء الحالية نجيب ميقاتي، والمكلفة بتصريف الأعمال ضمن نطاقها الضيق وفقاً للدستور، ورافضاً منحها مستقبلاً أية صلاحيات دستورية وفقاً لما تنص عليه المادة 62 من الدستور اللبناني كما يلي “في حال خلو سدة الرئاسة لأي علة كانت، تناط صلاحيات رئيس الجمهورية بمجلس الوزراء” أي بكامل الصلاحيات، ولم تميز هذه المادة الدستورية بين الحكومة التي تتمتع بكامل صلاحياتها وحكومة تصريف الأعمال التي تمارس مهامها ضمن النطاق الضيق في المرحلة التي تسبق إعادة تكليف حكومة جديدة بتلك الصلاحيات وفقاً للأصول الدستورية. وفي ظل وجود رئيس للجمهورية يكلفها أساساً بتصريف الأعمال المطلوبة ريثما يتم تشكيل الحكومة الجديدة، لكن المشكلة هنا تكمن في ممارسة المهام والصلاحيات بعد شغور سدة الرئاسة، فهل من المجدي أن تقع البلاد في حلقة جديدة من الفراغ على مستوى إدارة البلاد والانتظام العام للمؤسسات الدستورية وشل عمل المرافق العامة للدولة؟ وهل من المنطقي أن تكون إرادة المشترع تهدف الى إغراق البلاد بالفوضى الدستورية وتعميم الفراغ القاتل وشل قدرة السلطة التنفيذية عن ممارسة مهامها وفقاً للدستور ريثما يتم إنتخاب رئيس جديد للجمهورية؟ أم أن الرهان على إستثمار حالة التعطيل والفراغ لتحقيق أهداف باطنية هي أقرب لأوهام المراهقين في الحياة السياسية وبعيدة كل البعد عن الواقع السياسي والاقتصادي والإجتماعي للبلاد.
إن المصلحة الوطنية العليا، هي الأهداف السامية لدستور الوطن، وينبغي على جميع النواب أو الوزراء والمسؤولين إحترام تلك الأهداف، والإبتعاد عن جر البلاد الى المزيد من الفوضى التي يدفع ثمنها الأبرياء في هذا الوطن، الذين دفعوا الكثير من أموالهم وتضحياتهم وفلذات أكبادهم في ظل هذا العهد العامر بالأزمات والإخفاقات والانهيارات التي لم يعهد لها لبنان مثيلاً في أي من العقود السابقة.
أما أنتم يا ثوار الساحات، ويا أهالي ضحايا جريمة إنفجار مرفأ بيروت، وعائلات مئات الآلاف من المودعين الذين هدرت حقوقهم، ويا موظفي القطاعين العام والخاص والمتقاعدين من مدنيين وعسكريين الذين تدنت رواتبهم الى أدنى مستوى عالمي، ويا شباب لبنان ومثقفيه وطلابه وأساتذته، وكل مواطن على أرض الوطن، لا ترضخوا لأي عهد يزيد من غلواء فقركم وإذلالكم ودمار مرتكزات الوطن ومؤسساته الحاضنة.
كان ينبغي على جميع القوى السياسية التي يتكون منها هذا المجلس النيابي أن يحرصوا على إنتخاب رئيس للجمهورية ضمن المهلة الدستورية، وإعادة تشكيل حكومة جديدة في أسرع وقت ممكن، حرصاً على إستقرار الأوضاع في الوطن، وإحتراماً لمشاعر المواطنين الذين يئسوا من كل أساليب التعطيل والعرقلة وإدخال البلاد في أتون الفراغ القاتل من جديد. وكان ينبغي أيضاً على نواب التغيير أن يكونوا أكثر حرصاً ودقة في إختيار مرشحيهم لرئاسة الجمهورية بالتضامن فيما بينهم، ووفقاً للبيان الانتخابي الذي حدد المواصفات الأساسية للرئيس المرتقب والحفاظ على كتلة التغيير التي علقت عليها آمال ناخبيهم وجموع اللبنانيين الرافضة لمنظومة الفساد والتداعيات الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي فاقت كل التواقعات.
إن خروج لبنان من أزماته المحدقة يحتاج في هذا الوقت الى رجالات دولة من الطراز الأول، فهل يمكن للقوى السياسية الحاكمة أن تدرك هذه الحقيقة؟ أم أن جنون العظمة وحب الاستئثار بالسلطة سوف يطغى على كل شيء، ويقضي على ما تبقى من مرتكزات دولة القانون والمؤسسات.