بنية علاقة القهر׃ التسلط والرضوخ
لحسن أوزين
إذا كانت الدراسات الاجتماعية والاقتصادية قد اهتمت بالبعد المادي للتقدم والتطور والتنمية ، فإنها كانت قاصرة على إدراك تعقد وتركيب وشمولية المهمة التي أرادت انجازها، وهي مجابهة تخلف مجتمعات التخلف. فالكثير من المحاولات فشلت في تحقيق أهدافها، لأنها قللت من قيمة وضرورة الإنتاج النظري، أي إنتاج معرفة بواقع التخلف تكون قادرة على تملكه معرفيا. وذلك بتأسيس أرضية ثقافية عقلية تستوعب الجديد وتستنبته، عوض الاكتفاء باستيراده جاهزا. وتزداد المسألة تعقيدا على المستوى الفكري، “فالفكرة ليست محض تجريدات لا علاقة لها بالواقع، أو أوعية جوفاء يمكن أن تمتلئ بأي سائل من أي نوع، وإنما هي تنشأ في سياق تاريخي وحضاري وثقافي معين، وهي تولد على يد بشر مهيئين تاريخيا وحضاريا وثقافيا لإنتاجها وتطويرها وتنميتها. ” 1
فاهدار السياقات، واختلاف مستوى تطور المجتمعات إلى جانب الإلغاء والإقصاء، كنوع من الاغتيال الرمزي لإنسان المجتمعات المتخلفة ، بدعوى أنه متقدم على مستوى الأخلاق والقيم ، ما ينقصه هو تطور حياته المادية التي يمكن للاستيراد أن يحققها، هذا الهدر للسياقات وللبنية الفوقية النفسية للإنسان هوا لذي أدى إلى تأبيد التخلف”. وإذا كان التخلف التقني والصناعي والاقتصادي والاجتماعي واضحا في خصائصه ومحطاته، فان التخلف النفسي الوجودي مازال بحاجة إلى جهد كبير لاستجلاء غوامضه.”2. ومن منطلق التأسيس العلمي للمشروعية الوظيفية لعلم النفس، كانت البداية بإنتاج مفاهيم نظرية لعلم نفس التخلف، انطلاقا من تميز الواقع العربي في بنياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يصعب فيها الحديث عن التمايز بين البنية المادية والفوقية. حيث يسود نوع من الترابط المعقد في بنية الكل الاجتماعي. يعني هذا نوع من التضافر البنيوي بين المادي والثقافي النفسي، “ولذلك لا يستقيم الحديث عن التخلف، ولا يمكن لصورته أن تكتمل إلا إذا أعطينا لهذه البنى الفوقية مكانتها، فهي وإن كانت في الأصل نتاجا للبنى الاجتماعية الاقتصادية وما يحكمها من قيم ومعايير التنشئة والتشريط وأنماط التربية والعلاقات، وما يحكمها من قيم ومعايير وأساطير قوة قائمة بذاتها متفاعلة جدليا مع البنى التحتية . إنها تتحول إلى عامل يرسخ البنى التحتية ويعزز وطأتها.”3 حيث تتحول البنية النفسية إلى قوة مادية فاعلة وموجهة ومؤطرة، ومنتجة للعلاقات الاجتماعية والثقافية والرمزية. فبنية علاقة القهر والرضوخ، هي بنية نفسية ذهنية معرفية مخيالية اجتماعية لاشعورية، أنتجتها البنية المجتمعية.4 إنها أشبه بما يصطلح عليه بالبنية الفوقية، لكنها على المستوى النفسي بنية تحتية باطنية، تعيق التغيير والتطور والتنمية، بل تقاوم وتحارب الرؤى المستقبلية التحديثية، والحرة المبدعة ذات الإرادة الفاعلة. “أشد نقاط المقاومة استعصاء على التغيير هي البنية النفسية التي يفرزها التخلف بما تتميز به من قيم ونظرة إلى الكون”. 5 .
فلا يمكن للمجتمعات المتخلفة أن تنهض وتتغير، إلا بتحطيم بنية علاقة القهر والتسلط والرضوخ والخنوع، كبنية نفسية ذهنية معرفية لاشعورية. تشتغل كإيديولوجية خفية مولدة للنقص والدونية والعجز، ولمختلف أشكال التبخيس الذاتي، وفقدان الاعتبار والفشل الوجودي في تحقيق الذات، أو حماية البعد القيمي الإنساني. إنها نفسية الإلغاء وهدر المعنى الوجودي لحقيقة الإنسان. إننا أمام تحكم بالإنسان ونفاذ إلى أعماقه، وضبطه من الداخل، بإغراقه في عبادة الماضي سلوكا وتفكيرا وموقفا. إنها نظرة إلى الذات والآخرين والعالم تحكمها وتوجهها عقلية خرافية، تجهل السؤال وهي مضطربة انفعالية ومتصلبة، ذات أحكام قطعية ونهائية وعنيفة. تتحاشى الحوار والتواصل، لأنها تميل إلى الإخضاع لا إلى الإقناع، نفسية متصدعة قلقة مشحونة بالعدوانية والعنف و الانفعال، مما يعيق تطورها التجريدي، النقدي والجدلي. “انهيار القدرة على التجريد الذي يشكل أحد أرقى المظاهر الذهنية في التكييف للواقع والسيطرة عليه”. 6. فالقهر والتسلط حشرها في زاوية المعيشي، في المستوى النباتي الذي لا يسمح بالارتقاء الذهني والفكري الذي يسمح لنمو الفكر النقدي . فالإنسان المتخلف يعيش انحساره الوجودي، بنوع من قلق الخصاء الذهني. حيث ينزاح عدم إشباعه لحاجاته، كما حددها هرم ما سلو، النفسية والعاطفية والمادية …عن مستوياتها الطبيعية لتتكثف على المستوى الجنسي في نوع من قلق الذكورة، وتحت ضغط ما تبقى من حجم الدماغ الهيبوتلاموس7. – ربما هذا من بين ما يفسر كثرة الأطفال داخل الأسرة في مجتمعاتنا – ” هذا المأزق يجعله يعيش في حالة دائمة من التوتر الانفعالي الذي ينبث في ثنايا شخصيته معطلا القدرة على الحكم الموضوعي، والنظرة العقلانية إلى الأمور، وهكذا فان التوتر الانفعالي بمقدار ما يتصعد يخلق عقبات معرفية متفاقمة أمام الإنسان المقهور.”8
كما يكون منشطرا على نفسه بين تقديس الأم وتدنيس المرأة، فبنية علاقة القهر والرضوخ مسخت عمق الإنسان وخربته من الداخل، فتحول إلى كائن هش وتافه في قضاياه ومشاكله. ينهار تلقائيا أمام الصعاب ومشاكل الحياة، فالعجز لجم إرادته مما عطل مرونته وقدرته على التحليل والتقدير الموضوعي لكل ظواهر الواقع، سيطرة الانفعال ترهقه بتوتراتها وعدوانيتها المتراكمة. ذلك يحول دون تطوره التاريخي وارصانه الذهني للواقع .
عندما يصل التدمير الاستبدادي التسلطي القهري إلى تلك النواة الداخلية التي يتستر عليها الإنسان المتخلف بشتى المظاهر، كدفاعات مرضية يكون المتسلط قد أنهى وجود ما هو أجمل في الإنسان׃ الحلم، الفرح، الحب، العاطفة، الاعتبار الذاتي والحاجة إلى التقدير…، في مقابل تضخم وسطوة أنا ووجود المتسلط، إنه ضحية ساد يته التي تجعله لا يهدأ، كما نرى في السودان، وسوريا و مصر وإيران… إلا بعد أن يمارس مختلف أشكال القهر. “إن ما يميز العقلية المتخلفة هو ذلك النموذج من التسلط والقهر الذي يحكمها، هو تغلغل الإرهاب حتى أعماق النفسية كأسلوب وحيد لتصور العالم. هذه الوضعية المترسخة تخلق مقاومة عنيدة وخطيرة، بقدر ما هي خفية لكل تغيير، ولكل تنمية في اتجاه الاعتبار الحقيقي لإنسانية الإنسان”. 9
إذا كانت الدراسات الاقتصادية والسياسية قد اهتمت بكسر العلاقة التبعية في مستواها البنيوي المادي، إما بفك الارتباط كما يدعو إليه سمير أمين ، أو بالقطع الثوري للعلاقة الكولونيالية كما يطرح مهدي عامل إلى جانب اختيارات أخرى للطريق الثالث اللاراسمالي… فإن واقع التخلف أثبت أن بنية علاقة القهر، كمستوى نفسي معرفي ذهني لاشعوري، لم تحظ على مستوى التفكير السياسي والاقتصادي بنفس أهمية العوامل المادية. “الإنسان المتخلف لم يعط الاهتمام نفسه الذي وجه إلى البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. صحيح أن هذا الإنسان هو وليد البنية الاجتماعية المتخلفة، ولكنه ليس مجرد أمر مادي قابل للتغيير تلقائيا.” 10
يحدث هذا، ليس فقط بسبب قوة القهر السياسي، وهدره لجميع مستويات الوجود الإنساني الحياتي والنفسي والفكري …وإنما أيضا بتجاهل الكتابات والتنظيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لإشكالية بنية علاقة القهر والرضوخ ، كبنية نفسية ذهنية معرفية لاشعورية ، تشتغل كإيديولوجية خفية فتعمل على هضم الجديد واستيعابه في أطر وقوالب تقليدية أو مستحدثة. فإنسان المجتمعات المتخلفة، ” هو ضحية عملية غسل دماغ مزمنة يقوم بها المتسلط ، فهذا الأخير سواء كان محليا أو أجنبيا يشن حربا نفسية منظمة، لتحطيم القيم الاجتماعية والحضارية للفئة المقهورة، تؤدي إلى تبخيس وازدراء كل ما يمت إلى عالمها بصلة.”11 ولعل الحالة النكوصية التي تعيشها المجتمعات المتخلفة ، من جمال الدين الأفغاني في بداية النهضة إلى حجاب أو نقاب الدين الأفغاني راهنا، لأكثر تعبير عن مفارقة صعبة، تتجاوز مفارقات محمد عبده التي ناقشها عبد الله العروي في كتابه مفهوم العقل.
مجتمعات تنتقل من الجمال بمعنى النهوض والتنوير إلى الحجاب بمعنى الخوف والذعر والتسلط الكامن في القبيلة والعشيرة والعصبية والمذهب وحدود العقل الدينية …إنه القهر المزمن. فعوض بناء الإنسان من الداخل، وتقوية مناعته الذاتية وضميره الثقافي والقيمي ومتانة صحته النفسية، ينكفئ على ذاته تقليديا هاربا، مذعورا، جامدا ومتسترا على بؤسه الداخلي وكارثته الوجودية. حالة من الخوف والشك والحذر تنتابه أمام كل جديد أو غير مألوف، وفي الوقت نفسه هناك حالة من التماسك والشجاعة المتهورة والرضا بسفك الدماء، داخل نفسية المتسلط بعدالة ثروته وسمو أخلاقه وشرعية قهره للآخرين. ” إن هذه الظاهرة الشاملة ظاهرة إيمان أصحاب الامتيازات بان حصولهم على ثروتهم أمر عادل متجذرة عميقا في عدد من الأنماط السيكولوجية، فحين يقارن رجل سعيد وضعيته بوضعية إنسان تعيس، لا يبدو مسرورا بواقع أنه سعيد، بل نراه يرغب في أكثر من هذا يرغب في الحصول على الحق في أن يكون سعيدا، وعلى وعي أنه إنما اكتسب ثروته بالتناقض مع الإنسان الذي لم يحصل على أية ثروة والذي كان عليه بدوره أن يكتسب تعاسته …إن ما تطلبه طبقة أصحاب الامتيازات من الدين إن كانت تطلب منه أي شيء على الإطلاق، إنما هو هذه الطمأنينة السيكولوجية لمشروعية حصولها على امتيازاتها “12
إن ما يحاك ضد نفسية المقهور وحياته، هو تقوية لبنية علاقة التسلط والرضوخ في بعدها النفسي الثقافي والديني، كإيديولوجيا للشرعية من خلال تغييب وطمس التناقض بين المتسلط والمقهور، و جعله نموذجا للتماهي. وفي ظل هذا الواقع تنتشر الكثير من الأيديولوجيات، الاسلاموية والعلمانوية، التي تنتصر للاستبداد، خاصة بعض التوجهات الدينية التي كانت سندا له في محاربة القوى اليسارية، بدعوى مقاومة التغريب والكفر. فبسطت نفوذها على المجتمع العميق في بنياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. من خلال سطوها على معتقد الناس. بواسطة أحزاب وجمعيات ذكورية و( نسوية إسلاموية). تسعى الى فرض وصايتها على ضمائرهم الروحية والعقلية، خدمة لبنية التسلط والرضوخ للأنظمة الاستبدادية.
الهوامش
1-فؤاد أبو حطب مشكلات علم النفس في العالم الثالث ضمن الندوة المشار إليها سابقا ص 15و16
2- مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي ص 32
3- المرجع نفسه ص 31
4- نحاول أن نجمع بين اللاشعور المعرفي والمخيال الاجتماعي
5-مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي ص 58
6- المرجع نفسه ص 72
7- مصطفى حجازي الإنسان المهدور المركز الثقافي العربي ط 1 س 2005 ص 167
8- مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي ص71
9- المرجع نفسه ص 84
10-المرجع نفسه ص 9
11- المرجع نفسه ص 133
12- ماكس فيبر ضمن كتاب جيمس سكوت- المقاومة بالحيلة- ترجمة إبراهيم العريس و مخايل خوري دار الساقي ط1 س 1995 ص94