عن رؤية سلامة موسى لفلسفة وإيمان دوستويفسكي
د. جمال القرى
في نهاية القرن التاسع عشر، بداية القرن العشرين، برز اهتمام المثقّفين العرب بالثقافة الروسيّة من ضمن اهتمامهم بالثقافة العالمية التي أتت في سياق التطوّر الاجتماعي- التاريخي الذي بلغه حينها المجتمع العربي مع ظهور العلاقات البورجوازية وانبثاق عصر النهضة، وأتاحت لهم فهماً أعمق لمشكلات بلدانهم. إلا أن الأدب الروسي الكلاسيكي الذي عكس المشكلات والتغيرات التي طالت المجتمع الروسي وحمل أفكاراً اجتماعية وإصلاحية وسياسية وفلسفية، عبّر أيضاً عن واقع المجتمع العربي وعن تطلّعات المتنورين العرب.
وفي الذكرى الأولى بعد المئتين لولادة الكاتب الروسي العظيم فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي 1881 ــــ 1821 التي تصادف اليوم 11 نوفمبر، أوجز قراءة المفكر المصري سلامة موسى لفلسفة وإيمان دوستويفسكي.
أدرج سلامة موسى في كتاب “هؤلاء علّموني” ـــ القاهرة ـــ 1953 مقال دوستويفسكي تحت عنوان فرعي “الذكاء العاطفي”، وكتب قائلاً أن قراءته لأعمال العملاق دوستويفسكي في شبابه كانت مناسبة سعيدة في حياته تركت أثراًعلى تفكيره وساعدته على الارتقاء إلى مستوى يسمح له بفهم فن النثر، وبفضلها، أصبح انتقائياً وامتنع عن قراءة تلك الأعمال السردية الإنكليزية والفرنسية والأميركية التي لم تصل إلى مستوى الأعمال العظيمة لتولستوي ودوستويفسكي وغوركي وغوغول وتشيخوف.
وفي معرض مقارنته هذه الأعمال بأعمال برنارد شو وويلز وديكنز وأناتول فرانس وأندريه جيد وغيرهم، وجد أن جميع هذه الأخيرة تحمل قيمة اجتماعية أكثر من كونها فنية، فالأفكار فيها تتقدم ويُستبعد الفن والمشاعر.
ويواصل قائلاً: “كان الانتقال من قراءة دوستويفسكي إلى قراءة الإنكليزي أرنولد بينيت بمثابة قفزة مخيفة إلى الهاوية، ومن تولستوي إلى أي كاتب آخر من أوروبا أو أميركا يشبه الانهيار القاتل”.
ثم يضيف: “لم يحب دوستويفسكي الشباب المتمردين على القيصر، فهو سخر منهم ومن مبادئهم في أعماله. إلا أن هذا الرفض، لم يكن مبنياً على حبه للنظام الاستبدادي للحكومة القيصرية. ولهذا السبب كرهته أوروبا التي دعا إلى مقاطعة حضارتها”.
وفي معرض حديثه عن مشاعر دوستويفسكي المعادية للغرب، يقارنه بنيتشهـ يؤكّد واعظ القوة وعدو المسيحية أنه عرف دوستويفسكي واعظ الرحمة والمسيحي الحقيقي من خلال أعماله الأولى، وعلى الرغم من هذا الاختلاف بين هذين العظيمين، وكلاهما رافض للحضارة الغربية المعاصرة، يلاحظ أن من أسباب كره دوستويفسكي لأوروبا هو تخلّيها عن الكتاب المقدس والمسيح، بينما كان كره نيتشه للعالم القديم على العكس من ذلك، بسبب اعتناقه الكتاب المقدس والمسيح. لقد اعترف نيتشه بأنه أحب دوستويفسكي لأنه الشخص الوحيد الذي تعلّم منه بعض الأشياء في علم النفس. وفي هذا الإطار يكتب نيتشة: “دوستويفسكي هو عالم النفس الوحيد الذي تعلمت منه بعض الأشياء، وأعتبر أن التعرّف إليه، كان من أفضل النجاحات في حياتي”. ويكمل موسى: “كان لكليهما رؤيته البشرية الخاصة، ولكنهما تطابقا في كونهما حالمين، إلا أن أحلامهما اختلفت من حيث الإتجاه والهدف. كان حلم دوستويفسكي هو المسيحية العالمية، بينما كان حلم نيتشه هو الصراع من أجل الوجود. فبينما ينتصر شعور الرحمة والحب لدى بطل دوستويفسكي في النهاية على العقل، كان نيتشه يحتقر العقل والمنطق ويتحدث عن الشعور بالقوة، عن هذا الصقر الذي يجب أن يأكل الطائر الصغير بلا رحمة. لقد كشف نيتشه للغرب عن دوستويفسكي المفكر”.
الآن أنا أقرأ للكتّاب الروس وخاصة دوستويفسكي. أسهر طوال الليالي أقرأ
أعماله وأستمتع بعمق أفكاره ومعروف تأثير شخصيات دوستويفسكي المتمردة وخاصة صورة كيريلوف من رواية “الشياطين” على نظرية الشخصية الخارقة لنيتشه.
ويكمل موسى: “إذا تعمقت في كلمات دوستويفسكي، ستشعر بأنه كان لديه موقفاً سلبياً تجاه جميع العلوم المادية والفيزياء، وكرهاً للحركات الاجتماعية القائمة، وبأن روحه كانت مسكونة بالرغبة المستمرة في أن يحيا الناس بالإيمان بالله، وبأن أقوال الإنجيل هي أساس الأخلاق. لم يستطع دوستويفسكي فهم الفكرة الأوروبية الجديدة القائلة بأن الأوروبيين بدأوا منذ بداية القرن التاسع عشر باستبدال رؤية التقدم البشري والأخلاق والدين من خلال تعزيز مؤسّسة الكنيسة…لقد فهم أن العلم بدون دين هو موت للبشرية جمعاء”.
ويورد موسى مقطعاً من الرسالة التي كتبها دوستويفسكي في العام 1854 بعد الإفراج عنه من سيبيريا إلى زوجة الديسمبري م.أ.فونفيزين، صاغ فيها رؤيته للإيمان: يرسل لي الله أحياناً لحظات أشعر خلالها بهدوء تام… وفي هذه اللحظات بالذات، وضعت رؤيتي للإيمان كان فيها كل شيء بالنسبة لي واضحاً ومقدساً. وهذه الرؤية بسيطة للغاية: لا يوجد شيء أجمل وأعمق وأكثر حكمة وشجاعة وكمالاً من المسيح… فإذا أثبت لي شخص ما أن المسيح ليس على حق، وبأن الحق خارج المسيح، فأنا أفضّل أن أبقى مع المسيح على أن أبقى مع الحق”.
جميع أعمال دوستويفسكي يقول موسى، “مليئة بعمليات البحث عن الإيمان التي يمكن للإنسان أن يثبت نفسه من خلاله في هذا العالم، حتى لو كان هذا الإيمان يتعارض مع منطق الحياة”.
وجد دوستويفسكي دافعه الأكبر نحو الإيمان عندما وقف أمام الجنود بانتظار لحظة إطلاق النار. لقد غيّره توقّع الموت، وبدّل نظرته إلى الحياة والإنسان، وبات ينظر إلى الحياة من وجهة نظر الموت، وهذا ما انعكس في كل كتاباته…ولم يكن الدين وحده هو ما حدّد نظرته تلك، فقد أصبح الموت بحد ذاته بالنسبة إليه، هو أعظم حقيقة بشرية.
ويشير موسى إلى أن المرء يشعر بالطريقة التي شعر بها دوستويفسكي وخبرها وكرّرها في كل أعماله: “نحن أبناء حياة واحدة…والحياة تفصل بين الناس، ولكن هذا لا يمنع وجود الحب والمودة والرأفة فيما بينهم، فكلنا بشر زائلون إن الاقتناع العميق بعدم وجود شيء ما بعد الموت، يقوّي حبنا للحياة، وينتابنا هذا الشعور عندما نقرأ دوستويفسكي. ولكن في الوقت نفسه، يشعر القارئ أحياناً، أن إيمان الكاتب بالله يتزعزع عندما كان انتشار المادية الأوروبية يثير غضبه. فهل يمكن تفسير ذلك بأن الخوف من الموت والإحتراق بالنار دفعاه للتمسّك بالإيمان ما ولّد لديه مشاعر القلق والشك والخوف المصاحبة للموت؟ ربما، أن يكون هذا الإيمان قد فتح في إبداعاته الباب أمام المحبة واللطف والأخوّة والرحمة على مصراعيه، وهذه الفضائل، تتغلغل في كياننا كبلسم وتسمو بأرواحنا إلى الأعلى، وتُشعرنا بأن الكاتب يسعى لإقناعنا بأن الإنسان مزيج من الخير والشر، وأن في الإنسان المجرم مكان للكرامة والتقوى”.