مع صاحب “أغرُومْ وَحْدَسْ” محمّد شكري خِلالَ رِحْلةٍ  طويلةٍ من طنجة إلى الرّباط (2)  

مع صاحب “أغرُومْ وَحْدَسْ” محمّد شكري خِلالَ رِحْلةٍ  طويلةٍ من طنجة إلى الرّباط (2)  

د. محمّد محمّد خطّابي   

 في مقالنا السّابق الذي يحمل عنوان: (عَوْدة إلى صَاحِب “الخُبز الحَافي” محمد شكري في ذِكْرَاه .. ما فتئت أصداؤه  تُسمع فى الأوساط الأدبية داخل المغرب وخارجه)، الذي تفضل بنشره ممنوناً موقع (السؤال الآن) المنيف بتاريخ 21 نوفمبر 2022 في ركن (ثقافة وفنّ) عشنا مخاض ولادة هذا الكاتب المُعنّى في قريته المغمورة بني شيكر المترامية في أقاصي بلاد الريف وانتقاله إلى طنجة، وسلطنا الأضواء الكاشفة على بعض الظروف والملابسات التي جعلت منه كاتبا من طينة خاصّة، حيث تجاوز في كتاباته كلّ الطابوهات والمحظورات التي كانت سائدة في المجتمع المغربي آنذاك، وخرج على الناس بأدب قشيب جديد من نوع خاص لم يعرفه ولم يألفه الأدب العربي من قبل حتى وان كان له وجود في الغرب.

فى هذا المقال سنعود الزّمانَ القهقرىَ لنرصد عن كثب، ونتابع عن قرب لقاءنا المُطوّل مع صاحب ”الخبز الحاف” أو “العيش وحده” أو ” أغرُوم وحْدَس” ” بلا دواز” خلال رحلة شيّقة على متن قطار بطيء جمعتني به عن طريق الصّدفة، ويا لها من صدفة من طنجة العالية إلى مدينة الأنوار رباط الفتح أوائل السبعينيّات من القرن العشرين الفارط، حيث تجاذبنا فيها أطراف الحديث عن مسائل شتّى كانت تشغلنا في ذلك الزمن البعيد بلغاتٍ ثلاث  لغة الضّاد، ولغة سيرفانطيس، ولغة الزعيم محمّد عبد الكريم الخطابي!

كان قد دار بيني وبين ثلاثة من أصدقائي الأصفياء عبرالأثير حديث ودّي بشكل منفرد عن لقاءاتي مع المرحوم محمد شكري صاحب الرّواية الجريئة ”الخبز الحافي” التي نُقلت إلى العديد من لغات الأرض، هؤلاء الأصدقاء هم الأدباء النجباء المبدعون المتألّقون ابراهيم الخطيب، وأحمد علوش، وإدريس عفارة، فجاءت هذه الفذلكة الاستكناهية، والاجهاشات الإفصاحية على اثر هذا الحوار الأخوي المثري معهم حول هذا الصّوت الإبداعي المتفرّد فى الأدب المغربي، إن لم أقل العربي.

من حاضرة ملتقى البحريْن إلى رباط الفتح

كانت لي لقاءات بالفعل مع الأديب الراحل محمد شكري، وذلك بعد عودتي من القاهرة أواخر السبعينيّات من القرن الفارط، وأطول لقاء بيننا كان على متن القطار البطيء آنذاك الرابط إبذانئذٍ بين مدينتيْ طنجة والرباط، حيث التقينا وتحدثنا خلال هذه الرحلة الطويلة عن العديد من الأمور التي كانت تشغل بالنا فى ذلك الأوان، والغريب أنّ معظم الحديث بيننا كان يدور بالأمازيغية الرّيفية، وكانت لغة الحديث فيما بيننا تختلف قليلاً.. قليلاً جدّاً، فالتباين اللغوي بين المنطقتين اللتيْن ينتمي كلٌّ واحدٍ منّا إليها فى ريف المغرب المترامي الأطراف يكاد أن يكون منعدماً، إلاّ فى بعض التعابير والمُسمّيات، والمُصطلحات القليلة جدّاً التي لا يُحسب لها أيّ حساب، محمد شكري كان من بني شيكر وهي منطقة توجد بمحاذاة مدينة الناظور، وأنا من أجدير التي تنتمي لقبيلة بني ورياغل الكبرىَ التي لا تبعد سوى بضع كيلومترات قليلة عن مدينة الحسيمة، ولقد كنت قد نشرتُ فى الزّمن الغابر شذراتٍ من الإنطباعاتٍ، والذكريات الاسترجاعية حول هذه اللقاءات المبكّرة التي جمعتني بصاحب (أغرُومْ وَحدَسْ)… (الخبز الحافي باللغة الأمازيغية الرّيفية) أو ”العِيشْ الحَاف.

عندما  يُصبِح اليومُ برهةً

كان الصّديقان الكريمان أحمد علوش، وادريس عفارة من جهةٍ أخرى قد تفضّلا مبروريْن وممنونيْن مؤخراً بمشاركة ومتابعة وتقاسم مقالي على الفيس الذي كانت قد تكرّمت بنشره منذ بضعة سنوات جريدة ”القدس العربي” اللندنيّة عن بلديّنا.. (ميسْ نطمُورْث نّغْ إخناغ إعِزّنْ) .. (ابن أرضنا العزيزة علينا) المرحوم محمّد شكرى، الذي قيّض الله تعإلى لي أن ألتقى به فى قطار طنجة – الرباط أوائل السبعينيّات من القرن الفارط. والحمد لله، ومن حُسن الحظ، وروعة الطّالع ومَبسمه أن كان القطار الذي كنّا نمتطيه في ذلك الإبّان بطيئاً ”أيّ كان بيمشي على طُولْ.. بَسْ على مَهلُو” ( لى نسق عاميّة إخواننا المصريين)! حيث تسنّى لنا خلال هذا اللقاء توثيق أواصرَ المحبّة، وعرى المودّة بيننا…ومع ذلك فكأنّ ذلك اليوم غدا برهة من الوقت.. وتلك المدّة  الطويلة التي استغرقت فيه الرحلة أصبحت لحظة عابرة من العُمر..! وتحدّثنا طويلاً.. طويلاً والحديث مع ابن بني شيكر البار محمد شكري ذو شجون.. وفنون.. وجنون.. ومجون كذلك.. كان لقائي مع هذا المبدع النابغة فرصة ذهبية لأتعرّف عليه عن قرب، وما زلتُ أتذكّر هندامه البسيط، وشعر رأسه المنفوش، وشواربه المعقوفة الكثّة التي أنهكها التبغ الأسود القاتم من صنف (بيكادُورَا) الإسباني، الذي كان يتعاطاه في شرخ عمره والذي كان يتكاثر فى مدن شمال المغرب الذي يوازي سجاير(كازا سبُور) المنزوعة الفيلتر، وهذه السّجاير بدورها هي بنات عمّ غير شرعيّات لصنف  سجاير (غولوَاز) و(جيتانْ ) الفرنسيان ! .. شوارب طلاها النيكوتين بذلك اللون الرّمادي الداكن من فرط تعاطيه منذ شبابه المبكّر، ونعومة أظفاره بشراهة لعادة التدخين، هذا التبغ الأسود سرعان ما هجره إلى صنف التبغ الأشقر، كما كانت المُوضة المُستحبّة والمُنتشرة بين معظم شباب ذلك الجيل الحائر المُعنّى الذي ظهر غداة استقلال المغرب حائراً، مشدوهاً،ملتاعاً،  قلقاً، مترقباً متطلعاً نحو مستقبل مجهول.

عناق لغة الضّاد وأمازيغيّة الرّيف

كنت أتمنّى أن يُصاب القطار بعطب ليتوقّف، ويتوقّف معه الزّمن.. كنتُ حديثَ العهد من العودة من القاهرة، وكنت قد قرأتُ لشكري بعض بواكيره الإبداعية الأولي التي استقدمها معهم إلى قاهرة المعزّ  أواخر الستينيّات من القرن المنصرم بعضُ الخلاّن الأكارم من الطلبة المغاربة الذين كانوا يتابعون دراساتهم العليا فى القاهرة كذلك المنحدرين من مدن تطوان،  والعرائش، والقصر الكبير، وطنجة،، والقنيطرة، والناظور، والحسيمة – على وجه الخصوص- أذكر من بين هؤلاء الأصدقاء الأصفياء المرحوم أحمد الكشوري ، وعبد الكريم بوعجاج، والميموني العلمي، وأحمد العمارتي، إدريس السايب، وعيسى شوحو، والدكتور مصطفى قلّوش، والمرحوم أحمد الزياني، وأحمد المفتوحي وسواهم… ولم يكن هناك بعد لا عيش حاف، ولا خبز جاف، ولا (حاتيتا) (البغرير)، ولا الرّغايف، المسمّن (الفطير المشلتت)..! إذ لم يكن شكري قد نشر بعد ”الخبز الحافي” الذي سيظهر أوائل السبعينيات من القرن الفارط .

كان الحديث لطيفاً شيّقاً خصوصاً عندما علم أنني من الرّيف الوريف.. بادرته بالقول: (إخسانغ أنسِّوَرْ شوايْ نتمازغثْ) (ينبغي علينا أن نتحدّث قليلاً بالرّيفية).. فأجاب على الفور: (وااااااه… شواي واها .. أنسِّيوَرْ أطّاس نتمازيغثْ).. (أجل ليس قليلاً فقط.. بل سنتحدّث كثيراً بالأمازيغية)، وتحدثنا بلغة الأجداد الأبرار الصّناديد المتوارثة، أنا بلهجتي الورياغلية المعروفة، وهو بلهجته التي كانت مزيجاً من طرائق الكلام عند إخواننا وأحبّتنا فى العشيرة، والبصيرة، والتاريخ ، والأرض، والوطن الغالي، لهجة الأفاضل الأشاوس فى نواحي بني توزين، وتمسمان، وبني أوليشّك، وقلعيّة، وكبدانة، وگزناية وسواهم.. وانتهت الرّحلة التي استغرقت ساعاتٍ طويلةً ولا ريب، إلاّ أنّها مع ذلك مرّت مرّ البّرق الخاطف لأننا لم نتوقف عن الحديث طوالها، وتوادعنا على أمل اللقاء من جديد، ولكننا لم نلتق، فقد ردّه القدر إلى مقرّ إقامته  ليواصل العيش والإبداع  فى مدينة البوغاز طنجة، ورمى بي القدر أنا الآخر خارج أرض الوطن للحصول على ”لقمة العيش”، وطالت إقامتي، ومسكني، ومقطني، وسفرياتي فى مختلف بلاد الله الواسعة المترامية الأطراف، بدءاً بالقاهرة، واسبانيا، وليبيا، والمكسيك، والبيرو، وجزر الخالدات الكنارية الأمازيغية الأثل والأصل والمحتد، ثم العودة إلى حاضرة أبي القاسم مَسلمة المجريطي مدريد العامرة فى مرّات عديدة.. وأخيراً المكسيك، والبيرو، وفى كولومبيا، وبنما، والإكوادور (منتصف العالم)، وفنيزويلا، وترينيداد وتوباغو، وغراناد، وسان كيلتس ونييفيس وهلمّ جرّاً.. وطال بي التجوال، والتّرحال، والتّنقال حتى وجدتني أردّد وأقول صادحاً مع الشاعر فى كلّ حين: (بالمغرب أهلى وبغداد الهوىَ وأنا /  بالرّافديْن وبالفسطاط إخواني… ومَا أظنّ النّوىً ترضىَ بما صَنعتْ / حتى تُلاقيَ بي أقاصىَ تمسمَانِ)… ومن ثمّ جاء هذا المقال، وانطباعات أخرى عن هذا الكاتب الفريد كدَيْن فى عنقي نحوه،ونحو عمله الرّوائي الابداعي المميّز ”الخبز الحافي“..

من أجل كِسرة خبز

الرّواية إيّاها كانت تحمل عنوان: “من أجل كِسْرة عيش” أو “من أجل لقمة خبز” أو “إج أورقّوز أوغرُوم”، وهوالعنوان الذي تحوّل فى الأخير إلى ”الخبز الحافي”، وهي الرواية الشّهيرة التي تضمّنت السّيرة الذاتية  الحميميّة للكاتب الرّاحل الرّيفي – الطنجاوي محمّد شكري.. هذا الكاتب السّليط الجريئ أماط السّتار، وأزاح الخِمار، عن مختلف التابوهات التي كانت تطبع صناعة الأدبَ فى هذا الشقّ المحافظ النائي من العالم الذي تحكمه عادات، وتسوده تقاليد وقورة متوارثة، والذي تميّزه عوائدُ وأنماطُ عيشٍ متشدّدة متواترة لا يمكن تخطّيها بأيّ حالٍ من الأحوال، وإذا كان قد صفّق له، وأطرى عليه البعضُ وعلى “جرأته الأدبية” فى البّوح والإفصاح بدون رقيب أو حسيب ، فقد عاب عليه،وكال له بالمقابل  الكثيرون أشدَّ الانتقادات على ما أسموه بهذا “المروق والمجون ! ” ..

الكاتب الإسباني الرّاحل خوان غويتيسولو (الذي ظلّ يعيش فى مراكش حتى وافاه الأجل المحتوم، وهو دفين العرائش إلى جانب الكاتب الفرنسي جان جينيه) كان قد نوّه بشكري وأعماله، وقال إنه كان حريصاً على تصفية الحسابات التي كانت بينه وبين بول باولز الذي كان قد وصفه  من قبل “بأبيه الأدبي” الثاني لدواعٍ مادية، وقال غويتيسولو “إنّ هناك نوعاً من التظلّم فى هذا الشأن، ويبدو لي أنه من الأهميّة بمكان معرفة وجهة نظر مغربي مُعوز كان يعيش بين ثلّة من الأمريكيين الذين كانوا يقيمون فى طنجة، والذين كانوا يعتبرون هذه المدينة كفردوس أرضي، ولكنهم لم يكونوا على علم كيف كان يعيش المغاربة هنا”. وقال غويتيسولو إنّ كتاب شكري “مهمّ لا محالة”. وكان قد ذكّر الناشر” لاثارو ”بمطلبه السابق، وهو ”أنه عند إعادة نشره لكتاب شكري “الخبز الحافي” فى اللغة الاسبانية عليه أن يضع له عنوان “الخبز” فقط، لأنّ عنوان الخبز الحافي يمجّه الذّوق الإسباني، وهو لا يعني شيئاً فى لغة سيرفانتيس، وكان قد قال له مازحاً فى هذا السبيل: ”إنّك لو احتفظتَ بالعنوان القديم فتأكّد أنّك سترتكب جريمةً  عظمى فى حقّ اللغة الإسبانية”!.

يقول عنه الكاتب المعروف، والمترجم الحاذق الصّديق العزيز ابرهيم الخطيب: ”عاش محمد شكري طفولته في بني شيكر، قبل أن يهاجر صحبة والديْه إلى طنجة، ثم العرائش، وتطوان قبل العودة إلى  مدينة طنجة”. ويضيف :” لم يحل منع “الخبز الحافي” دون تداول الرواية، بل حدث العكس تماما: فقد أدرك محمد شكري، بفطنته الريفية العميقة، مدى تهافت القراء على اقتناء نسخها التي بيعت في زمن قياسي، وبأثمان باهظة أحيانا، ليس في المغرب فحسب، وإنما في بلدان عربية وخاصة دول الخليج، فبادر إلى طبعها المرة تلو الأخرى إلى أن بلغت ست طبعات، أضيفت إليها طبعة “دار الساقي” في لندن، ثم الطبعة التي أصدرها اتحاد كتاب المغرب سنة 2000 متوخياً كسر قرار المنع الإداري الذي عمر سبعة عشر عاماً، والذي حاولت جهات في ذلك الوقت إعادة تفعيله، مثلما عملت جاهدة جهات أخرى على صرف أنظار المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية عن ترجمة “الخبز الحافي” إلى لغتنا الوطنية الثانية بسبب خلاف حول أحرف كتابة الأمازيغية”.

فعلاً عاش شكري سنواته الأولى بعد بني شيكر فى مدينة ملتقى البحرين (المحيط الهادر، والمتوسّط السّاكن) فى طنجة محاطاً بأجواء العنف، والبغاء، والتهميش، والمخدّرات، والسّهر الطويل فى سديم الليل الطنجاوي الحالك الضبابي البهيم، وعندما بلغ العشرين من عمره انتقل شكري للعيش فى مدينة العرائش المجاورة للدّراسة، وخلال هذه المرحلة من عمره بدأ يهتمّ بالأدب، وفى فترة السّبعينيات عاد إلى من جديد إلى طنجة، حيث كان يتردّد على الحانات، ويرتاد المواخير، ويؤمّ أوكارَ البغاء، وصناديق الليل المعتمة.

من بني شيكر المغمورة إلى طنجة المشهورة

ومعروف أنّ الكاتب محمد شكري (15 يوليو 1935 – 15 نوفمبر2003) كان قد ولد فى حظيرة أسرة فقيرة، ببني شيكر، أو آيت شيكر وهي قرية ريفية صغيرة مغمورة قريبة من مدينة الناظور، تمتدّ على يمين الطريق السّاحلية المتوجّهة إلى مدينة الحسيمة، وقد هجرمنزله وهو لم يكن يتجاوز الحادية عشرة من عمره، وسرعان ما طفق يكتب تجاربه الشخصية المُعاشة، وكانت أولى قصصه تحت عنوان ” عنف فى الشاطئ” التي نشرها فى مجلة “الآداب” اللبنانية عام 1966. وقد أفضت به اهتماماته الأدبية فيما بعد إلى مصاحبة كتّاب أجانب معروفين عالميين، كانوا يقيمون فى طنجة مثل الأمريكي ”بول باولز”، والفرنسي “جان جينيه”، والأمريكي” تنيسي وليامز” وسواهم، وقد سجّل لقاءاته بهؤلاء الكتّاب فى مذكراته (بول باولز وعزلة طنجة) أو (عزلة بول باولز فى طنجة)، ثم فى كتاب (جان جنيه وتنيسي وليامز فى طنجة)، بالإضافة إلى إبداعاته الأدبية، ترجم  شكري كذلك إلى اللغة العربية لبعض الشعراء الإسبان مثل أنطونيو ماشادو، وفيسينتي أليكسندري (جائزة نوبل فى الآداب عام 1977) وفيدريكو غارسيا لوركا وآخرين. وبعد نشره لروايته الذاتية الذائعة الصّيت ”الخبز الحافي” باللغة الإنجليزية (1973) (ترجمة بول باولز)، ولم تظهر باللغة العربية سوى عام 1983 بمطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، والتي تم حظرها من التداول بعد صدورها، بدأ  شكري يدقّ أبواب الشهرة التي سرعان ما نقلته من المحلية إلى العالمية، وظلت هذه الرواية محظورة فى البلدان العربية، ولم تنشر فى المغرب سوى عام 2000، في الطبعة التي أصدرها اتحاد كتاب المغرب كما أشار إلى ذلك الأخ ابراهيم الخطيب آنفاً، له كذلك ”زمن الأخطاء”(1992) و”وجوه”(1996)، وهاتان الروايتان الأخيرتان تشكّلان إلى جانب روايته الأولى الثلاثية التي تحكي سيرته الذاتية أو قصّة حياته.  يشير الكاتب الإسباني “كارليس خيلي”: أن محمد شكرى يأسف للسّطحية التي عالج به بعضُ الكتّاب الأجانب صورة مدينة طنجة، والأدهى والأمرّ من ذلك الاحتقار، والكراهية، والعنصرية، والنظرة الدّونية التي كان ينظر بها هؤلاء الكتّاب إلى السكّان البسطاء فى هذه المدينة”. وقد علّق شكري عن ذلك بقوله: ”أيّاً كان من هؤلاء الكتّاب بعد أن يقضي بضعة أسابيع فى طنجة يمكنه أن يؤلّف كتيّباً عن هذه المدينة”! ويرى الكاتب الإسباني من جهة أخرى: ”أنّ كابوتي، وجنسبيرك، وكيرواك، وغوري بيدال، وتنيسي وليامز أو بول باولز وزوجته جين باولز هم بعض من هؤلاء المشاهير المرموقين الذين أعجبوا وكتبوا عن المربّع الحيوي لشكري الذي يقول: ”إنّني أدافع عن الوسط الذي أنتمي إليه، أدافع عن المهمّشين، الكادحين، وأنتقم من هذا الزّمن المذلّ والبئيس..”. هكذا كان صاحب “الخبز الحافي” يبرّر موقفه ممّا يعيشه، ويعايشه، ويشهده، ويشاهده من خزيٍ فى عصره، فى هذه السيرة الذاتية المُفعمة بالمرارة،والمترعة بالمضض لصراحتها المفرطة.

كاتب من طينة المتمرّدين

ويقول عنه الكاتب والرّوائي الإسباني “خبيير بالينسويلا “ من جهته: ”كان محمد شكري كاتباً كبيراً، وشخصاً رائعاً ، هذا المغربي الذي حتى سنّ العشرين ربيعاً من عمره لم يكن يكتب ولا يقرأ ، والذي انسابت طفولته، وانصرم شبابه فى بؤسٍ مذقع، وعنفٍ فظيع، وظروفٍ قاسيةٍ صعبة، كان كاتباً ينتسب إلى طينة هؤلاء الكتّاب الذين يُنعتون بالمتمرّدين الملعونين، لقد خلّف لنا أعمالاً إبداعية قصيرة، ولكنّها أعمال مؤثّرة وجريئة تنبض بحبّ الإنسان والإنسانية، ونبذ الظلم، والظلام، والمظالم والظالمين!.

وينطبق على هذا الكاتب المعذّب المُعنّى الذي خالف كلّ الأعراف والتقاليد السّائدة، الذي حقق بروايته “الخبز الحافي” أو ” العِيشْ الحاف” ما قاله الناقد المغاربي الكبير أبو عليّ الحسن ابن رشيق القيرواني (ولد بالمسيلة بالجزائر ونشأ بها وتعلم هناك، ثم ارتحل إلى القيروان سنة 406 هـ ومنها إلى صقلية) الذي قال فى كتابه الشهير”العمدة في محاسن الشعر ونقده وآدابه ”عن الشاعر العربي الذائع الصّيت أبي الطيّب المتنبّي: (ثم جاء المتنبي فملأ الدّنيا وشغلَ الناس)… تحيّة الودّ والإخاء للأصدقاء الكرام الذين كانوا سبباً فى كتابة هذا المقال، واللذين  عادوا بي الزمانَ القهقرىَ، وجعلوني أعيشُ برهةَ سعادةٍ  وَحُبورٍ فى مرابع أرض الله الواسعة، و أجذلُ مرحاً  فى مراتع الزّمن الماضي الجميل.

* تحريراً في حيّ المزمّة  بـ” أجدير” الحصين في 24 نوفمبر 2022.

 

Visited 33 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا