هَمَجِيّات الحُرُوب وَقَسَاوَتُها.. كيف ومتى تغدُو مادّةٍ أدبيّة؟
د. محمّد محمّد خطّابي
كان المستعرب الإسباني المعروف “بيدرو مارتنيث مونتافيث” قد نشر في الصحافة الإسبانية مقالاً أدبياً رصيناً بعنوان “في مزاد الموت”، وهو مستوحىً من استعاداتٍ لبعض أحداث الحرب الأهلية التي شهدتها لبنان في العقود الأخيرة، وركّز المستشرق الاسباني الحديث في مقاله على وجه الخصوص على الهجوم الذي كان قد تعرضت له إقامة سفير إسبانيا في بيروت الذي لقي مصرعه رفقة الأديب القاصّ اللبناني توفيق يوسف عوّاد، فضلا ًعن وفاة إحدى بنات عواد في هذا الحادث المُؤسف، بينماعانت زوجة السفير الاسباني (وهي ابنة عوّاد الأخرى) من جروح بالغة جراء هذا الهجوم الهمجي. كان لهذا الحادث وقع بليغ في لبنان منذ سنواتٍ خلت، ولكن لابد أنه – لفظاعته – ما يزال ماثلاً أمام العيان يجثم بثقله على عائلتيْ كل من السفير الإسباني، والأديب اللبناني المعروف، وكذا على صاحب المقال المستعرب الإسباني بيدرو مارتينيث مونتافيث نفسه إلى اليوم.
همجيّات الحرُوب وفظاعاتها
يشير بيدرو مارتينيث مونتافيث في مقاله إلى أنه لم يكن على علم بأن الأديب اللبناني توفيق يوسف عوّاد كان حمى السفير الإسباني السابق في لبنان، ولم يعرف بهذه القرابة إلا بواسطة الأخبار التي كانت قد تناقلتها آنذاك وسائل الإعلام والصّحف الإسبانية حول الحادث. يقول “المستشرق الاسباني مونتافيث” إنه تعرّف منذ زمن بعيد بواسطة القراءة على توفيق يوسف عواد الأديب اللبناني الرقيق الذي يكتب القصص منذ حوالى نصف قرن، والذي يحتل بكتاباته الرائدة مكانة مرموقة في بانوراما الأدب اللبناني والعربي المعاصر، على الرغم من طبعه الذي يميل الى الصّمت، وانقطاعه عن الكتابة منذ مدة قبل وفاته في ذلك الحادث الإرهابي المؤسف الآنف الذكر .
يقول المستشرق الإسباني عن توفيق عواد: إنه كان يمثل جمالية أسلوب الأدب العربي الحديث وفتنته، هذا الأسلوب الذي يجري على يراعه منساباً جميلاً تطبعه مسحة من الحزن والمعاناة والغموض، وتغلفه غلالة من الكآبة والقلق، وبعد أن يثني الباحث الاسباني على نوعية الكتابة عند الأديب اللبناني، يقول: هذه هي السّمات التي كانت تميز أكثر من كاتب لبناني ينتمي إلى جيله على وجه العموم . يقول مونتافيث إنه عندما قام بمراجعة جذاذاته وأوراقه ومراجعه ومظانه التي جمعها منذ سنوات خلت حول حياة هذا الأديب وجد في تصريحاته التي كان قد أدلى بها إلى صحيفة لبنانية مرموقة، حيث يثير فيها موضوعاً مأساوياً ذا مغزىً عميق ما فتئنا نعيشه إلى اليوم، بل إنه ازداد تفاقماً وهلعاً وتوتراً في اتجاه غير معقول على مرّ السنين وتعاقبها إلى درجة التناوش والاحتدام اللذين عاشتهما، وما فتئت تعيشهما لبنان على وجه الخصوص، وكذا العديد من البلدان العربية والإسلامية في وقتنا الحاضر، وعن هذه الأحداث الدامية يتفتق، أو ينبثق ويُطرح سؤال لا يخلو من صعوبة وتوتر ونغوص وهو: كيف تتحول همجيات الحروب والاعتداءات الإرهابية ورعونتها وقساوتها وفظاعتها إلى مواد من مختلف الأصناف والأجناس والاغراض الأدبية؟ ويشير الكاتب الاسباني إن الحروب الأهلية التي عرفتها لبنان في العقود الأخيرة، والتي تعاقبت على هذا البلد ترجع جذورُها ودواعيها لأسباب داخلية وخارجية في آنٍ نظراً لعوامل متعددة منها طبيعة تنوّع فسيفساء المجتمع اللبناني الذي يتألف من أجناس وأعراق وإثنيات وديانات وطوائف ومعتقدات ومذاهب متباينة، ولهذا يعتبر هذا المجتمع من أكثر المجتمعات العربية تركيباً وتعقيداً، ومع ذلك فهو من أكثرها إشعاعاً وتميزاً، وإمتاعاً في مختلف الميادين الإبداعية فنّاً وأدباً وثقافة وشعراً وبحوثاً، وهذه التركيبة المجتمعية الغريبة في هذا البلد تعود لسنين بعيدة، نظراً للحضارات المتعددة والثقافات المتباينة التي تعاقبت وتواترت عليه، والتي انصهرت وتعانقت في بوتقة هذا المجتمع اللبناني المتعدد الألوان والأطياف كما نعرفه اليوم.
طواحين بيروت
كان الاديب اللبناني توفيق يوسف عوّاد قد نشر قصة له بعنوان «طواحين بيروت» نقلت إلى الإنكليزية تحت عنوان «موت في بيروت»، وهذه القصة كانت وكأنها تتنبّأ وتترصّد التطاحن الأهلي الفظيع الذي كان وشيك الحدوث، في ذلك الوقت، كانت هذه قصة “طواحين بيروت” تبدو في الحقيقة نوعاً من رجع الصّدىَ، أو إرهاصاً لما سيحدث، كما أنها كانت نتيجة صراع مسلح آخر حدث قبل ذلك بكثير مباشرة بشكل متواتر ومتشابك مرتجّ وصادم وهو حرب الستة أيام في شهر يونيو 1967. كان الاديب عواد مثل الآخرين يدين بشدة تلك «الحروب البليدة» التي كان الجميع مجرميها وضحاياها في آنٍ واحد. كما أنهم كانوا موضع لهوٍ فيها كما لو كانوا بمثابة أطفال صغار يعبثون. كان توفيق عواد ممّن يفكرون أن الوضع المتردّي كان نتيجة تدهور النظام، وبسبب الخلافات العقائدية والتخلف كان يقول: «تلك الحروب الهمجية العبثية تخلو من أي معنى، وليس لها أي نتيجة يمكن أن تنتهي إليها، إلاّ أن الثورة لم تكن قد بدأت بعد». كلمات مثل هذه صادرة عن لبناني مثله كان لها وقعها الخاص، ومدلولها العميق في المجتمع الذي يعيش في كنفه وخارج لبنان أيضاً .
عّجَاج الأيام ونقعُها
يرى المستشرق الإسباني بيدرُو مارتينيث مونتافيث من جهة أخرى أن العمل الأدبي المتألق عند عواد قوامه القصة على وجه التحديد . ويورد عناوين لبعض أعماله منها ديوان شعر بعنوان «قوافل الزمان»، و«غبار الأيام»، و«فرسان الكلام»، و«الصبيّ الأعرج»، و«مطارالصقيع» و«قميص الصوف»، و«العذارى»، وروايته «الرغيف» وسيرة ذاتية بأسلوب روائي جذاب بعنوان: «حصاد العُمر»، هذه الأعمال جعلت منه خير من يمثل القصة اللبنانية في ذلك الإبّان، ويعترف له بهذه المكانة المرموقة ناقد جيد معروف معاصر له وهو مواطنه وبلديّه سهيل إدريس.
ويضيف الباحث الاسباني مونتافيث قائلاً : إن القصة في لبنان، بل تقريبا في سائر البلدان العربية بشكل عام كانت توجد في ذلك الوقت تحبو في مرحلة النهوض، أوعلى الأقل كانت في بداية الظهور بمظهرها المتماسك الناضج والمتين. ويصف مونتافيث أعمال توفيق عواد الابداعية بأنها ذات «ألوان محلية»، إلا أنها أعمال إبداعية رفيعة المستوى، جليلة الشأن نستجلي فيها ومن خلالها بوضوح الحسّ الاجتماعي والانسانيّ البليغ الذي كان يطبع أعمال عوّاد، وجوانب مضيئة من التحليل النفسي. ويعتبر الباحث الإسباني قصة «الرّغيف» لعوّاد من الإسهامات الأساسية للرواية العربية المبكّرة وقتئذ، على الرغم من افتقارها الجزئي إلى تقنية وبنية القصة، بيد أن ذلك لا ينتقص من قيمتها إذا ما قورنت بقصص أخرى محلية في كل من سوريا والعراق وفلسطين ومصر وسواها من البلدان العربية الأخرى. ويشير الكاتب الاسباني إلى أن موضوع هذه القصة في العمق هو الحرب العالمية الأولى حيث عاشت بلاده مأساة، وفظائع، وأهوال هذه الحرب الضروس (كان الناس يموتون جوعاً في الطرقات)، كما أن هذه القصة تطفح بعاطفة متأججة وطيبة جياشة وهي ليست ذات بُعد لبناني صِرف، بل إنها تتخطى الحدود اللبنانية.
الصّداقة والصّديق وشجرة الأَرز
ويحكي لنا المستشرق بيدرو مارتينيس مونتافيث: إن صديقاً له من أصل لبناني عاش ردحاً من الزمن في اسبانيا كان قد أهداه مرّة تذكاراً جميلاً علقه على أحد جدران مكتبته بمنزله، وهو عبارة عن قطعة خشبية جميلة مستديرة مكتوب عليها بخطٍّ بهيج ما يلي: “الصديق تنمو صداقته كنخلة، كشجرة الأرز في لبنان”! ونقول نحن معلقين على هذا القول الجميل : هذه الشجرة، بل هذه الدوحة الأسطورية السحرية، الأوروكية، والجلجاميشية لابدّ أنها ضاربة جذورها كذلك في عمق الثرىَ، ناشرة أغصانها المائسة اليانعة، وأوراقها الباسقة الخضراء، في عنان غابات أرز المغرب الشامخ سواء في جبال الأطلس الشاهقة، أو في مرتفعات وآكام كتامة الشمّاء في بلاد الريف الوريف أو في أيّ بلد عربيّ أو أجنبيّ آخر، وكلها تجسّد أو ترمز إلى معنى الصداقة الحقة، التي نحن أحوج ما نكون إليها اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، ولكن : ما أكثر الخلاّن حين تعدّهم /ولكنهم في النائبات قليل.!
حياة وأعمال توفيق عوّاد
درس الاديب اللبناني الراحل توفيق يوسف عواد رحمه الله (1911 – 1989) مبادئ القراءة والكتابة في قريته (بحرصا في – المتن – جبل لبنان) ثم انتقل الى كلية القديس يوسف في بيروت لمتابعة دروسه الثانوية التي أنهاها عام 1928 – ثم التحق بمعهد الحقوق في دمشق ونال إجازته منه عام 1934.عمل في الصحافة التي شكلت له منبراً خصباً للدفاع عن الحقوق التي درسها وتمرّس بها، وفتحت له المجال للتعبيرعن موهبته الأدبية التي تفتقت منذ نعومة أظفاره، أسهم بقسط وافر كتابةً ونشراً وإبداعاً في العديد من الجرائد اللبنانية منها «العرائس»، «البيرق»، «النداء» و«القبس» ـ وأصبح رئيسا لتحرير صحيفة «النهار» البيروتية الشهيرة منذ تأسيسها عام 1933 حتى عام 1941، وفي هذه السنة أسّس عوّاد مجلة أسبوعية تحمل عنوان «الجديد» التي استقطب فيها المواهب الشابة، التي ما لبثت أن تحوّلت إلى صحيفة يومية. يتميز أدب توفيق يوسف عوّاد باغتراف إبداعاته ونهلها من واقع الإنسان اللبناني، ومن بيئته المحلية ليبلغ بعد ذلك عمق التجربة الإنسانية في شموليتها وأبعادها، وكان لثقافته الواسعة وتكوينه المتين أثرهما البالغان في صقل موهبته الأدبية وتفرد إبداعاته، وكانت منظمة الأونيسكو العالمية قد أوصت بترجمة نماذج من أعماله الأدبية التي اعتبرتها عن جدارة من آثار الكتّاب الأكثر تمثيلاً لعصرهم، مثل روايته الشهيرة «طواحين بيروت»، كتب القصة القصيرة الناجحة التي تعتمد على منهج التحليل النفسي والاجتماعي، وقال له الأديب اللبناني الكبير مخائيل نعيمه اعترافاً منه بذلك في رسالةٍ بليغة على أثر صدور قصته «الصبيّ الأعرج» قال : «كأنكَ ما خُلقتَ إلاَّ لتكتبَ القصّة» .