السينيفيليا والثقافة السينمائية

السينيفيليا والثقافة السينمائية

محمد كلاوي                                                  

         ثمة عدة ملاحظات يلزم استذكارها عند التطرق لموضوع السينيفيليا وعلاقتها بالثقافة السينمائية:

  • الأولى، أنها نشأت وترعرعت في أحضان الفكر الفلسفي والسياسي الفرنسي بالخصوص لأن السينيفيليين الفرنسيين، هم من ابتدعوا الأسس النظرية الأولى حول السينما التي عملوا على اعتبارها وسيلة تعبير فنية وليست مجرد أذاة للتسلية والترفيه.
  • الثانية، أنها لم تكن متجانسة في منهجها ولو أنها متوافقة في غاياتها وأهدافها، إذ سرعان ما انخرطت لأسباب إيديولوجية في شروخات لا تزال إفرازاتها قائمة إلى اليوم، كما يتجسد ذلك في نموذج المجلتين “دفاتر السينما” Les Cahiers du cinéma وبوزيتيف Positif».
  • الثالثة، كون ميلاد السينما يدخل في فورة الاختراعات الناجمة عن التورة التقنية والعلمية في شتى مجالات الصناعة والطب والهندسة والفيزياء… لم يكن غريبا أن يعتبرها مخترعوها كجزء لا يتجزأ من الإنجازات العلمية والصناعية في أواخر القرن العشرين.

    لهذه الأسباب قد يبدو عنوان هذه المقالة، الذي يربط السينيفيليا بالثقافة السينمائية كتحصيل حاصل. لأن مصطلح سينيفيليا يفيد عموما المعرفة المكتسبة من مشاهدة الأفلام وعملية لاستثمار المتعة البصرية فكريا. أما إيتيمولوجيا فهو يحيل على حب أو عشق السينما، وهو المعني المنبثق عن الاصطلاح اليوناني “سينما وفيليا”، والذي أكسب المفهوم معنى واسعا يتعلق بكل ما له صلة بالسينما كصناعة، كالجانب التقني والتنظيمي والحرفي. هكذا كان يصنف ضمن السينمائيين، إلى حدود نهاية الحرب العالمية الثانية كل من المنتج والسيناريست والموضب والموسيقي… في هذا الإطار أضحى المنتج، خصوصا في أمريكا، هو الآمر والناهي في إنجاز الفيلم. وقد استغل هذا الأخير هامش الحرية الكبير الذي كان يحظى به المجتمع الأمريكي عند بداية القرن لإطلاق العنان لكل ما يتيح له جلب الكسب المالي عن طريق إثارة الغرائز العدوانية أو الجنسية للمشاهد. وما شهدته استوديوهات السينما من فضائح في غفلة عن الطبيعة المحافظة للمجتمع وعن سلطة الرقابة التي تتزعمها طوائف من القساوسة ورجالات الدين، إلا تعلة جعلت هؤلاء لا يترددون في منع العديد من الأفلام من دور العرض، مما شكل ضربة موجعة أدت إلى إفلاس كتير من المنتجين ودفعت إلى وضع أسس النمط الهوليودي على قواعد محددة لا تجيز الخروج عنها: الاشتغال داخل الأستوديو، أناقة ووسامة البطلة والبطل، التسلسل الدرامي والسلاسة السردية الذين وجب تتويجهما بنهاية سعيدة، الالتزام بتجسيد مبادئ الخير التي يقوم على حراستها الرجل الأبيض رمز الشجاعة والقوة، التماسك العائلي عبر إلغاء جميع القصص المعبرة عن وجود ساكنة أصليين والتمسك بأخلاقيات المجتمع الرأسمالي الحر…

    وفي هذا الصدد تصادفنا مفارقة غريبة تتجلى في مجموع القواعد التي دونها المستشار “وليام هاينز” في مارس 1930 بغية تقنين الإنتاج لتقليص ضغط الرقابة الغير منظمة للحكومة الفيدرالية، فاستبدلها برقابة ذاتية لعلها أكثر وطأ، حيث لم تعدو أن تكرس نفس القوانين السابقة. فهي تحرم الإخلال بمبادئ الأخلاق العامة والمشاعر الدينية للمتفرج، وتحظر المشاهد التي تتعارض مع القيم السائدة آنذاك، حتى لا يتماهى المتفرج مع ابطال الجريمة أو يطبع مع الجنس والخيانة الزوجية والاغتصاب …

    وقد كانت هذه القواعد هي الرافد المركزي في تأسيس النمط الهوليودي الذي ساد ولا يزال طوال عقود والذي قامت في مواجهته “الموجة الجديدة” في فرنسا و”الواقعية الجديدة” في إيطاليا و”نوفو سينما” في البرازيل و”السينما المستقلة” في إنجلترا، وحتى في الولايات المتحدة التي حاول فيها بعض المخرجين بدرجات متفاوتة الانسلاخ عن معطف الاستوديوهات العملاقة أمثال “كوبولا” و”سكورسيزي” و “شيمينو” و”وودي ألن” و”تارانتينو”…

    ويرجع الفضل الأول في محاولة إضفاء الشرعية على السينما كوسيلة تعبير فنية لـ “لويس دوليك” Louis Delluc الذي ابتدع مصطلح السينمائي سنة 1920 لتمييزه عن باقي العاملين في الميدان، قبل أن يلتحق به “أندري بازان” André Bazin بعد الحرب العالمية الثانية، إثر بزوغ موجة فكرية جديدة غايتها التدليل على أن السينما ليست ولا يجب حصرها في نطاق الترفيه والتسلية، بل اعتبارها وسيلة تعبير فنية مستقلة بذاتها، حتى وهي تجمع بين أصناف عدة من أدوات التعبير الفني كالتأليف والتصوير والموسيقى والإنارة والديكور والملابس…

     في خضم هذه المواجهة الإيديولوجية في الأصل، بدأت تتشكل بوادر ثقافة سينمائية نقدية ذات خصوصية تعنى بمناقشة أدوات الكتابة السينمائية وخصوصية المفاهيم المستعملة في تحليل الأفلام. وكان رائد هذا التوجه الجديد هو “فرانسوا تريفو” François Truffaut في مقالته الشهيرة “منحى السينما الفرنسية” التي ستكون لبنة الموجة الجديدة التي تهدف إلى القطع مع سيطرة النمط الهوليودي بوضعها لأسس “سينما المؤلف”، والتي سرعان ما انخرط فيها مجموعة من المخرجين الشباب أنداك أمثال “جان لوك كودار” وإيريك رومر” و”كلود شابرول”، قبل أن يتشتتوا بدورهم لاحقا لاعتبارات ذاتية وايديولوجية، بلغت ذروتها في ظل الثورة الثقافية لسنة 1968 بعد اندلاع ما أصبح يسمى “قضية لانكلوا”.

    وفي هذا السياق لا يفوتنا أن نذكر بالدور الطلائعي للأندية السينمائية في النهوض بالثقافة السينمائية والنقد السينمائي. فعلاوة على كونها أضفت على السينما طقوسا خاصة تتمثل في ثلاثية التقديم والعرض والمناقشة، فقد سمحت بتغيير نظرة المشاهد للفيلم وتصنيف مؤلفيه من حيث التوجه الفكري والانتماء المدرسي، ناهيك عن تعلم آليات الكتابة السينمائية. وبفضلها أصبح المشاهد “العادي” ينخرط في عملية النقد والتحليل، خصوصا وأن المنشطين يتألفون عموما من سينمائيين وكتاب ومفكرين ونقاد متخصصين في المجال. أكثر من هذا فقد ساهم هؤلاء في عديد من المجلات السينمائية مثل “أندري بازان” و”فرانسوا تريفو” و”جان لوك كودار” و “جان دوشي”… بل منهم من أسس نوادي خاصة. وقد كانت هذه النوادي أيضا وراء بروز مفهوم “سينما المؤلف” التي كانت غايتها توسيع نطاق مفهوم الأفلام ذات الأسلوب الإبداعي دونما اهتمام بموقع أصحابها الجغرافي، والتي جعلتها “دفاتر السينما” خطا تحريريا كان السبب الرئيسي في خلافها مع “بوزيتيف”. ولهذا عملت على إعادة الاعتبار لمخرجين أمثال “ألفريد هيتشكوك” و”هوارد هاوكس” و”سيرجيو ليوني” و”كلاينت إيستوود” وغيرهم. بالمقابل استمرت “بوزيتيف على نهجها اليساري في تقييم الأفلام ومخرجيها. وفي المغرب لا زلت اّتذكر مساهمات عدد من السينمائيين خلال منتصف السبعينيات في تنشيط بعض النوادي السينمائية كالمرحوم “محمد الركاب” ومصطفى الدرقاوي وسعد الشرايبي، الذي سيعين لاحقا رئيسا لنادي العزائم وغيرهم.

    لكن مع اندلاع الثورة الرقمية، خصوصا في عقد التسعينيات، ستشهد القاعات السينمائية انتكاسة كان لها بليغ الأثر في الانتقال من الفرجة الجماعية إلى المشاهدة الفردية، معلنة موت “الناقد الأكاديمي” وميلاد “المستهلك الناقد”، بنفس المعنى الذي أعلن فيه رولان بارت عن موت المؤلف وميلاد القارئ. وإذا كان الأنترنيت عبر دمقرطة التواصل، قد سهل الولوج إلى السينما مع أمهات الأفلام منذ بدايتها، فإنه كسر قوتها “كوسيط ساخن” حسب تصنيف عالم الاجتماع الكندي مارشال ماكلوهان. ووعيا منهم باستحالة مجابهة هذا التغيير عمد السينمائيون في الولايات المتحدة الأمريكية إلى التكيف مع المولود الجديد من خلال توظيفه في إنتاجاتهم كما فعل سكورسيزي في فيلمه الطويل «the Irishman”.  والحقيقة أن هذا التأثير أصاب مجال النقد أكثر مما أصاب نسبة التردد على القاعات السينمائية بحكم التربية على المشاهدة لدى المواطن الغربي والأسيوي، بينما تسبب في اندحار دور العرض في العالم العربي والإسلامي مع بعض الاستثناءات. ففي مناخ مجتمع تغلب فيه الأمية بكل أصنافها وتفتقد التربية على الصورة، ليس هناك مجال للنقد الأكاديمي. لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تعج بالآراء “النقدية” لعموم الناس حتى ولو كانوا لا يعرفون أبجديات النقد. فتحول النقد إلى انطباعات ليس بمقدورها ملاحقة التطور في العالم، فلم يعد الجمهور ولا المبدعين يكترثون بما يقال أو يكتب. وقد نبه الناقد سيد سعيد إلى هذه المعضلة  مند بداية نكوص الإشعاع النقدي في مصر حين يقول عن مهنة النقد: “لقد سادت الروح  العملية مكان الروح  العلمية وتم  التضحية بالمستوى النقدي على مذبح المصالح الشخصية… فانزوى العديد من النقاد… واحتلت الاحتفالية مكان الندوة والاهتمام بالمنصة والكاميرا مكان الاهتمام بالموهبة والجهد وأصبح هناك قائمة من النقاد يتنازعون حمل المباخر في المهرجانات…” فالناقد والمحلل التقليدي قد يجد مكانته في الدوائر المغلقة التي تجمع السينيفيليين بعضهم مع بعض والجمعيات والمجلات المتخصصة، لكن لم يعد أمامه خيار سوى الانخراط في العمل الترويجي للأفلام على غرار ما يقوم به الإعلام السمعي البصري في الغرب من خلال برامج يستدعى إليها السينمائيون والنقاد من أجل حوارات تبسيطية للحفاظ على نسب المشاهدة.

    فهل يمكننا اليوم الجزم بأن السينيفيلي الناقد هو من يمتلك وحده المعرفة والمؤهل لتنوير عموم المشاهدين وفقا لتراكم معارفه وتجاربه العلمية في المجال؟

    لا شك في هذا شرط أن يعاود طريقة العمل والتوجه حتى يضمن استمراريته كفاعل يساهم في تطوير الفعل الإبداعي في حقل السينما والثقافة بشكل عام.

Visited 10 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد كلاوي

باحث أكاديمي وناقد سينمائي