31 عاما على رحيل عبد الرحيم بوعبيد.. ذكرى رحيل الربان وضياع البوصلة
عبد الرحمان الغندور
كل شيء استفحل اليوم في الدولة والمجتمع ومؤسسات التأطير والفعل، من أحزاب و نقابات وجمعيات… وقد كان كل شيء يوم وفاة الفقيد عبد الرحيم بوعبيد يؤشر على شروط التحول التدريجي نحو الممكن الذي كان يتصوره الراحل لفائدة المغرب والمغاربة.
واستحضارنا لروح الفقيد في هذا الظرف بالذات، بعد أزيد من ثلاثة عقود على غيابه، يحيلنا بالضرورة على طرح سؤال عميق،وهو السؤال الذي يخامر كل المناضلات والمناضلين الأوفياء، بل يخامر حتى الذين أصبحوا ضحايا ضعف قدرتهم على المقاومة والممانعة لإغراءات المنظومة التي قاومها السي عبد الرحيم ورفاقه طويلا، أو أولائك الذين انعدمت لديهم المناعة الضرورية التي كانت تحميهم من فيروسات المؤسسات التي ظلت وظيفتها الأساسية هي تصفية الطاقات والأخلاق النضالية للناس. إن السؤال العميق الذي يفرض نفسه على الجميع هنا والآن هو: ماذا تبقى من السي عبد الرحيم؟
نطرح السؤال خاصة وأن الحزب الذي بناه الفقيد تحت سياط الجلاد، ومن زنازن المعتقلات، ومخافر التعذيب، وقسوة المنافي، عقد في العقدين الأخيرين مؤتمرات “مفبركة” على المقاس بأساليب تؤلم دون شك روح الفقيد، كما تؤلم المناضلات والمناضلين الذين حرصوا على الوفاء للقسم الذي أدوه في مقبرة الشهداء أمام جثمانه يوم وفاته.
لا نتبنى الفكر التقديسي للأشخاص والأفكار والمواقف. ولكننا نسعى إلى الفهم من أجل التجاوز الايجابي، لاسيما إذا كان الشخص أو الفكرة أو الموقف، لا زالوا يحافظون على راهنتيهم، و قابلين للتحيين، و لم يستهلكهم التقادم مثل السي عبد الرحيم فكرا وسلوكا وقيما.
لا زال عبد الرحيم إلى جانب المهدي وعمر وغيرهما، يلهموننا عندما نعاين واقع الوطن وحال الحزب والمتاهات الرديئة التي يسبح فيها الوضع السياسي العام بانزلاقاته وانحرافاته وفساده و التباساته.
تتعدد المقاربات والتحليلات لدى المناضلين المهووسين بنبل الأفكار والمواقف، بل لدى حتى الذين يرون في الماضي عقدة يجب القطع معها، ويحكمون على غيرهم بالسذاجة والرومانسية البلهاء والماضوية المنغلقة. الجميع هنا والآن وكل المقاربات تكاد تجمع على أن هناك انهيارات عميقة وقاتلة تطال المجتمع والدولة والنظام المجتمعي/السياسي كما طالت وتطال حزب القوات الشعبية وجميع مكونات اليسار. وقد تختلف التشخيصات والانطلاق. وتختلف تبعا لذلك الاستنتاجات والمواقف. ولكن ما لا يمكن الاختلاف فيه، هو أن وضع الاتحاد الاشتراكي اليوم هو الأسوأ والأردأ عبر كل تاريخه، وأن وضعية الوطن مقلقة ومزعجة ومنذرة، إلى حد كبير، ولا تدعو أبدا إلى الاطمئنان، وأن الفعل السياسي تجرد من كل مصداقية، وأن بنية القيم طغى عليها الاستهجان والابتذال والرداءة الى حدود السفاهة، وأن الانحطاط العام اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا وأخلاقيا أصبح هو عنوان مغرب اليوم.
هنا يستلزم التحليل والقراءة استحضار الدرس البوعبيدي. فهذا الرجل مند أن كان، وهو يفكر و يعمل من خلال مستويات مترابطة ومتداخلة ويصعب تفكيكها.
1 – رجل اعتمد المعرفة نبراسا أساسيا للعمل. لم يكن يركن للنظريات الجاهزة. بل كان يسعى لمعرفة المعطيات التي تؤطر الواقع، سواء تعلق الأمر بالفهم الجيد لطبيعة الحاكمين، أو تعلق بفهم حاجيات الناس وقدراتهم وطاقاتهم على الانخراط في تحسين أوضاعهم. كان عارفا بطبيعة الدولة واكراهاتها وبالمجتمع ومتطلباته. هذه المعرفة التي كانت تمكنه دوما من الالتقاط الحدسي الرائع لطبيعة اللحظة التاريخية والفعل الإرادي الخلاق القادر على التفاعل معها وتكييفها وملاءمتها لفائدة ما يخدم الوطن ويقوي شروط التغيير، ويجعل حزب القوات الشعبية قادرا على التأثير في المسارات.
2 – عبد الرحيم الكائن الممارس للفعل المعرفي، جعل الوجدان خادما لهذه المعرفة وموجها لها. فليس في قاموسه معرفة محايدة. إنها المعرفة النابعة من حب هذا الوطن والساعية لخدمته . ولقد ودعنا وهو يقول في آخر اجتماع حضره للجنة المركزية قبل وفاته بأسابيع قليلة: ” إن ما أسديناه من أجل الوطن، ليس هو الكمال، ولكنه خرج من صميم الفؤاد طاهرا نقيا”.
3 – إن الفقيد أيضا سلح معرفته ووجدانه ببنية قيمية عصية على الاختراق وصلبة أمام الإغراءات والمساومات والتواطؤات والمؤامرات.
وهنا نستحضر الرجل في هذا الزمن المبتذل حيث التسطيح المعرفي بتبريراته التي تراهن أحيانا، وتقامر في أغلب الأحيان. والفراغ الوجداني الذي ارتبط بمحبة الزائل والمتحول والمتغير. والتفكك القيمي الذي لا يرى قيمة الأفكار والمواقف إلا في ما تجلبه من منافع ذاتية ،شخصية، ومغرقة في الفر دانية. والانتهازية والوصولية.
عاش السي عبد الرحيم مغرب الأزمات الكبرى التي هددت كيانه ووحدته وتاريخه أكثر مما هددته “السكتة القلبية”، أو انتكاسة فشل النماذج التنموية، أو المؤامرات الخارجية. كما عاش أوضاع حزب القوات الشعبية مند نشأته بكوارثها الاستئصالية من طرف النظام مند بداية الستينات بمختلف محطاتها (دون استعراضها لأننا لا نؤرخ) حيث دخل المغرب أقصى درجات الفساد والتسلط والنهب والحكم الفردي والاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي والقهر الاجتماعي… مما جعل حزب القوات الشعبية يعرف بسبب معارضته، أقصى درجات القمع والتنكيل والإقصاء الاستئصالي. وعاش سي عبد الرحيم إلى جانب كل ذلك، محنة انقسام مكونات حزبه بين نزعة انتظارية متواطئة، (قيادة الاتحاد المغربي للشغل) ونزعة انتحارية مغامرة (التوجه البلانكي الثوري وحرب التحرير الشعبية). وكان الوضع عموما يحمل عنوان وطن في حالة نهب وتفقير مستمرين وحزب في حالة انقسام كارثي يؤدي عليه المناضلون في الداخل ضرائب قاسية من أرواحهم و حرياتهم وأرزاقهم.
وإلى حدود بداية السبعينات و أمام الأزمة الشاملة في الوطن و الحزب، وإجابة على سؤال المرحلة. تجلى الدرس البوعبيدي الذي صاغه عبد الرحيم مع عدد من المناضلين الأوفياء الذين لم يفقدوا الأمل. و كان الجواب هو القطع مع الانتظارية المميتة (قرارات 30 يوليوز 1972) والتحضير لمؤتمر استثنائي يحدد معالم الطريق، ويبني الاختيارات الفكرية الواضحة، ويرسم آليات العمل، ويصنع أداة الفعل.
لقد بلغت الأوضاع مع محاكمة مراكش (1970) والانقلابان العسكريان (1971—1972) وأحداث مولاي بوعزة وكلميمة… (1973) قمة جدلية الفشل. فالبنيتان المتصارعتان، بنية المخزنة من جهة وبنية الدمقرطة من جهة ثانية، كلاهما أعلنتا، كل بطريقته، عن فشلهما. فالمخزن يحاكم جيشه وعددا من وزراءه. والحزب يسعى لتوديع انتظاريته وانتحاريته. وهنا الدرس الاتحادي الذي قاده السي عبد الرحيم إلى جانب رفاقه، فكانت التركيبة الرائعة لجدلية الفشل والتي تجيب عن سؤال اللحظة التاريخية من خلال المؤتمر الاستثنائي (يناير 1975)
إن إستراتيجية النضال الديمقراطي التي سيعرضها السي عبد الرحيم في عرضه السياسي وسيأدلجها عمر في تقديمه للتقرير الإيديولوجي ، ويحررها الجابري في البيان السياسي. كانت الدرس السياسي القوي والفعل الثوري الذي تستدعيه المرحلة والذي راهن من خلاله السي عبد الرحيم على ضرورة تحقيق التراكم الايجابي عن طريق التجذر وسط الجماهير المعنية بالدمقرطة وتغيير موازين القوة لفائدة حركة التغيير. وهو الشيء الذي بدأ يتحقق بمجرد الدخول في أول تجربة انتخابية في نوفمبر 1976.
راهن الدرس البوعبيدي مند انطلاق مسلسل إستراتيجية النضال الديمقراطي على البعد النظري الذي يقوم على أساس الملاءمة بين المواقف المبدئية والتطورات الحتمية. كان السي عبد الرحيم عارفا بأن النظام المخزني لن يتحول إلى نظام ديمقراطي بين عشية و ضحاها. فالتزوير آلية المخزنة، والدفاع المستميت عن الديمقراطية آلية الدمقرطة. ولذلك أجاب في المؤتمر الثالث (1978) عددا من المناضلين الداعين إلى العودة لمقاطعة الانتخابات بقوله: “علموا الناس كيف تدافع عن أصواتها فهده وظيفة ومهمة المرحلة”.
مع انطلاق هذا المسلسل راهن الفقيد على تقوية الأداة الحزبية و تغلغلها وسط الفئات الجماهيرية المعنية بالتغيير، وهكذا كان موقفه حاسما من قرار اللجنة العمالية الوطنية في 1978 القاضي بتأسيس منظمة نقابية بديلة. فكانت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والتي شكلت أداة ضرورية في إغناء وتطوير حركة الدمقرطة و التغيير.
لقد كانت رهانات الفقيد ثلاثية الأبعاد، الوضوح الفكري، والأداة المتجذرة، والممارسة الفاعلة، وبذلك استطاع الاتحاد الاشتراكي بقيادة السي عبد الرحيم أن يغير فعلا من ميزان القوى، و أصبح خطابه فاعلا في الدولة والمجتمع، وأداته أكثر جاذبية للكادحين والمثقفين والشباب والنساء، وممارساته وسط الجماهير أو في الواجهات ذات قيمة إضافية وسط الناس وفي أعين الحاكمين.
علمنا الدرس البوعبيدي أن القائد السياسي، يمكن أن يكون رجل دولة بامتياز. والسي عبد الرحيم شارك كوزير دولة من موقع المناضل المعارض الذي يعرف كيف يضع المسافات والحدود بين موقف الدولة وموقف الحزب. دون أن تبتلع الدولة الحزب، ودون أن يتمسك الحزب بمعارضة دوغمائية عمياء. كان بوعبيد متشبثا بالبحث عن المعادلات الصعبة التي يتكيف فيها الموقف المبدئي مع التطورات الحتمية. وعندما يستعصى الأمر يصبح الموقف المبدئي هو الأساس المعتمد في اتخاذ القرار. وهذا ما أدى بالقائد الكبير إلى أن يعلن الموقف المبدئي من قرارات نيروبي فيما يتعلق بالقضية الوطنية ليؤدي بذلك ضريبة هذا الموقف بقوله داخل المحكمة: “رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه”.
اليوم وبعد ثلاث عقود على غياب القائد، ونسيان درسه التاريحي من طرف ورثته قي “قيادة” الحزب. نستشعر كمناضلين الخسارة الكبرى في فقدان البوصلة والربان. وليس بين يدينا إلا الدرس البوعبيدي. فما الذي سيقوله السي عبد الرحيم لو نهض الآن؟ وهو لن ينهض إلا في قلوب وضمائر المناضلين الدين يعاينون ما وصله حزبهم ووطنهم ليسألوا ذواتهم: ماذا تبقى فيهم من السي عبد الرحيم؟
– الوطن اليوم أصبح محلبة كبرى للطامعين والفاسدين، القدماء منهم والجدد.
– التراكمات الكمية المفترى عليها لم تحقق الانتقال النوعي المعلن عنه.
– الحقل السياسي المغربي اليوم يعرف أقصى درجات الميوعة والرداءة التي بلت حدود السفاهة.
– الفعل السياسي فقد نبله وتحول إلى انفعال تابع يثمن ويبارك ويصفق ويرتمي وراء كل موقف يخدم مصالح أصحابه.
لائحة رصد الترديات والتدنيات طويلة يصعب حصرها.
وفي هده اللحظة بالذات وحزب عبد الرحيم قد نسي شرعية مشروعه ومشروعية نضاله، وتحجر أهله وتجففت هياكله وأجهزته وتغولت قوانينه وتسطحت قراراته، بعد أن فقد استقلاليته التي انعدمت بشكل نهائي مع القيادة الحالية، ألا يبدو أن الحزب يعيش انتظارية جديدة تحكمها التعليمات الصادرة عن الدولة العميقة التي كنا أول من سماها بالحزب السري؟
ألسنا نعيش انتحارية جديدة من واقع الابتعاد عن عمقنا الجماهيري والارتماء الانبطاحي في مربع المصالح والبراغماتية المؤدي إلى الموت الجماعي؟
ألا نعيش انتظارية المواسم الانتخابية التي فقدت كل بعد ديمقراطي استراتيجي وأصبحت مناسبة لكل شيء إلا الديمقراطية؟
ألا نعيش انتحارية العزوف السياسي الذي حول المواطنين إلى بضاعة انتخابية في سوق رديء، يسهل اقتناؤها لمن يدفع أكثر، كما كشفته استحقاقات 8 شتنبر 2021؟
وأخيرا وليس آخرا ألا نعيش انتظارية الريع السياسي والحصة الغنائمية التي تمنح للفاعلين كمقاعد أو مناصب او مواقع أو أموال للدعم؟ ونعيش انتحارية القضاء على ما تبقى من حزب هز الدنيا وشغل الناس وقتل آمال الوطن والمواطنين؟
لا إمكانية للإجابة على مرارة هده الأسئلة إلا باستحضار الدرس البوعبيدي الذي يفتحنا على الأمل، وأن نقف أمام روحه و أمام ضمائرنا لنستخلص العبر. فلقد كان حزب القوات الشعبية فضاء للعطاء بنكران كبير للذات وتحول اليوم إلى فضاء للأخذ وإرضاء مطامع الأشخاص فقط.
ما أحوجنا إلى عبد الرحيم من جديد. وحتى نكون مخلصين لروحه وأوفياء لما رددناه في جنازته “بوعبيد ارتاح ارتاح، سنواصل الكفاح”علينا جميعا أن ننبذ الانتظارية الجديدة والانتحارية الانزوائية التقاعسية القاتلة. والانبطاحية المرتمية في مستنقع الريع بدون حدود. فخدمة هذا الوطن تفرض على جميع من لا زال ينبض فيهم الحس النضالي النظيف أن يجددوا سؤال ما العمل على ضوء ما يفرضه واقع الحال من براديغمات جديدة.
لا نريد للإرث التاريخي والنضالي لليسار بشكل عام أن يضيع، وسط هجمة التمييع التي تقودها دولة العمق والسطح، وتباركها فلول الانتهازيين الطامعين في الربح السريع، وتنبطح لها القيادات ذات النفس البراغماتي الهجين. ولا نريد استنساخ التاريخ واستعادة أمجاده التي لن تعود. بل علينا استحضار المعرفة النقدية العالمة كما امتلكها سي عبد الرحيم، واستحضار مبدء الملاءمة العالمة بين المواقف المبدئية والتطورات الحتمية، وإحياء الوجدان الصادق الذي يحب الوطن بدون حسابات، وإعادة بناء منظومة القيم في التفكير والقول والفعل.