عن “روزا الحمراء” نسر الثورة
فاطمة حوحو
في 15 كانون الثاني ــــ يناير 1919 اغتيلت المناضلة روزا لوكسمبورغ ورميت جثتها في النهر وتم إكتشافها بعد ثلاثة اشهر من قتلها أثناء نقلها إلى السجن إثر إعتقالها، لتبقى نظريتها بأن “الدواء الذي ابتكره لينين وليون تروتسكي، الذي يتمثّل في القضاء على الديمقراطية عموماً، هو اسوأ من الداء الذي ينبغي الشفاء منه.” فالقضاء على الديموقراطية والحريات في بلدان الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية كان ثمنه الإنهيار المريع لهذه الانظمة والمصير الأسود الذي آلت اليه وتنبأت به روزا عبر أفكارها ومناقشاتها.
فمن هي روزا لوكسمبورغ الاسم الذي ما يزال أسمها يشع ويحظى بالاحترام بعد مئة واربع سنوات على غيابها، نتيجة عنادها في مواجهة الديكتاتوريات ونقدها لديكتاتورية البروليتاريا ونظامها الذي آفل في تسعينيات القرن الماضي؟.
يمكن ملاحظة إنه على الرغم من إنهيار النظام الاشتراكي وتراجع أحلام الثوريين ما تزال أفكار مفكرين أوقدوها في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تتردد بين الحين والاخر، أكثرها حضورا حتى يومنا أفكار روزا لوكسمبورغ، قد يعود هذا الامر الى عاملين أساسيين، الاول ان تلك المرأة كانت فريدة عصرها. وحدها بين النساء الاشتراكيات تمردت على حصر دورها في المنظمات النسائية والحركات التي كانت تنشئها الأحزاب والمنظمات الاشتراكية، ليس لأنها لم تكن نسوية أو مؤيدة لحقوق المرأة، وإنما لكونها إمرأة متمردة ومميزة. فهي نالت شهادة الدكتوراة في العلوم الاقتصادية والسياسية، ومن وحي دراساتها العليا ظهرت للعالم كمنظرة فذة تناقش بجرأة استنادا الى معرفة نظرية عميقة، وتخوض معاركها الفكرية والسياسية بثقة مع المفكرين والسياسيين الرجال.
أما العامل الثاني، فيعود إلى طريقة موتها، فقد تمت تصفيتها من قبل السلطات الألمانية في طريقها إلى المعتقل وبعد ان كاد الحزب الذي أسسته مع كارل ليبكنخت أن ينجح في إقامة دولة إشتراكية في ألمانيا عام 1919، اي بعد عامين من نجاح الثورية البولشيفية في روسيا.
كانت مسيرة روزا النضالية طويلة، أثبتت من خلالها عزمها وصلابتها، عاشت حياتها ملاحقة من أعدائها، أما طاقاتها وقدراتها، فكانت مكرسة كليا للقضية التي أمنت بها ودفعت حياتها ثمنا لها وهي ما درج التعبير عنها بثورة البروليتاريا.
ولدت روزا لوكسمبورغ في 5 آذار من العام 1871، من عائلة يهودية في زاموسك ببولندا، التي كانت تتبع الامبراطورية القيصرية لوقوعها قرب الحدود الروسية. وكانت الفتاة الأصغر بين خمسة اطفال.
على الرغم من المعلومات القليلة المتوافرة عن أمها، ألا أنه قيل إنها كانت معروفة بثقافتها الواسعة، هذا ما أسرت به روزا لصوفي ليبكنخت، في رسالة لها من السجن، قالت فيها أن اهتمامها وهي صغيرة بالعلوم الطبيعية، يعود الى والدتها التي دربتها على فهم لغة الطيور، أما والدها فكان تقدميا يهوديا، رافضا للتعصب ومتأثرا بالفكر الغربي، ومتحررا من الأفكار الدينية الضيقة، واهتماماته بالشؤون العالمية وسعت آفاق معرفته.
إنتقلت العائلة إلى العاصمة وارسو وكانت روزا في حينه بسن الخامسة عندما داهمها المرض. بقيت طريحة الفراش سنة كاملة، في أثناء تلك المحنة علمت نفسها القراءة، وأورثها المرض تشوها دائما في رجلها وظلت تعرج بشكل واضح، كانت متفوقة في دراستها إلا ان مدرسة البنات الثانية الثانوية كانت تحفظ المواقع الأولى لأطفال المديرين الروس، لذلك لم تمنح لوكسمبورغ الميدالية الذهبية التي استحقتها بفضل تفوقها، وأيضا بسبب موقفها المتمرد.
بدأت نشاطاتها السياسية الأولى بتمردها ضد القمع وإقترحت الحل بالاشتراكية الثورية وانضمت الى مجموعة سرية. بعد سنتين تمت ملاحقتها وأضطرت للهروب من بولندا إلى سويسرا بمساعدة قسيس كاثوليكي أقنعته بأنها تريد المغادرة من أجل أن تعتنق المسيحية وتتزوج صديقها.
في زوريخ دخلت الجامعة وإهتمت بالعلوم الانسانية والاجتماعية والتاريخ، اضافة إلى إهتمامها بالعلوم الطبيعية. هناك التقت بقيادات الاشتراكية الدولية وانضمت اليهم، وعرفت شهرة واسعة في هذا الوسط.
كانت امرأة متألقة فكريا وموهوبة ومخيفة في الوقت نفسه. نالت شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية، واعتبر آنذاك تطور امرأة بمستواها الأكاديمي الى هذا الحد أمر غريب.
في العام 1893 مثلت لوكسمبورغ الفرع البولوني في المؤتمر الثالث للأممية الإشتراكية كان عمرها 22 سنة فقط. هاجمت مجموعة مؤيدة لأنغلز فأثارت دهشة الحاضرين. هذه الشابة الصغيرة تصدت لمؤسس الحركة الاشتراكية في المانيا في العام1898، انتقلت لوكسمبورغ من سويسرا الى المانيا، حيث تعرفت على الاشتراكي جان جوريز، فهاجمته في البداية قبل ان تتحول علاقتهما الى صداقة سياسية وفكرية وشخصية حميمة فتزوجته ثم إنفصلت عنه. وتقول كلارا زتكين صديقة روزا: ” كان جان أحد الرجال النادرين الذين يمكن أن يسمحوا لامرأة عظيمة كروزا بالبقاء إلى جانبهم، عملت معه وربطتهما صداقة مخلصة، فلم يحاول ان يحد من شخصية شريكته ولم يكن لديه شعور بالنقص إزاء شخصيتها المتطورة وقوة حضورها”.
كانت روزا إمراة صغيرة القامة لكنها مليئة بالأنوثة وحب الحياة، رفضت القيام بالأدوار التقليدية المسندة الى النساء الحزبيات، عملت تحت الأرض، كتبت في السجون ونشرت مقالاتها واراءها كانت خطيبة مفوهة وبرزت في الحملة الانتخابية للحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني ولقبت بــ “روزا الحمراء”، كانت تتقن لغات عدة وتخطب بها بسهولة.
إلتقت زعماء الأممية الثانية كاوتسكي وبيبل، وأقامت معهما علاقات وثيقة قبل أن تنقلب عليهما وتهاجم أفكارهما هي وكلارا زتكين التي ظلت صديقتها طوال حياتها، دافعت عن الماركسية لان ماركس كان أفضل مترجم للواقع منهم جميعا، بحسب قولها. وقفت ضد الأفكار الإصلاحية وضد الحرب، شاركت في 18 أيار 1907 في التظاهرة النسائية التي نظمت في عدة عواصم استعدادا للمؤتمر العالمي للسلام الذي إنعقد في شتوتغارت.
بالنسبة إليها كان العنف الثوري داءا ضروريا كي ينبعث العالم الجديد، ومع ذلك كانت ترى ان الحرية لا تتحقق من دون التسامح وتقبل الراي الآخر. ولم تكن لتتخلى عن حق المرأة في الانتخاب، عقدت زواجا أبيض مع غوستاف ليبك من أجل الحصول على الجنسية الألمانية. عملت كصحفية وكتبت مقالات كثيرة في الاقتصاد السياسي والنظريات الثورية وعبرت في مراسلاتها من السجن عن عواطف الحب والصداقة وعن تفاؤلها بالحياة ورفضها للظلم، خاضت نقاشات حادة في السياسة، وكانت آراؤها صارخة ونقدها لاذع لكن موضوعي.
جرت محاولات عديدة لابعادها عن المناقشات الفكرية من قبل رجال الفكر الاشتراكي، لكنها لم تهتم لهذه الأمور الشخصية، بل واصلت جدالها وفرضت على المحيطين بها إحترام قدراتها، على الرغم من أن رفاقها حاولوا صرف إهتماماتها نحو منظمة “اس بي دي” للنساء اي منظمة الحزب الاشتراكي الديموقراطي الالماني النسائي، في محاولة للتخلص منها. كانت واعية لذلك المخطط الذكوري فرفضت الدور التقليدي وأبت الا ان تكون في قلب الحياة السياسية.
شجعت النساء من حولها وزوجات وصديقات المناضلين لتحرير أنفسهن من هيمنة الأزواج والرجال، فحثت صوفي لبيكنخت على القراءة والتدرب على إستخدام عقلها في كل الأمور، معتبرة أن الأمر سيكون سهلا وسيجعل منها امرأة ذات رأي وموقف مستقل.
في العام 1912 وفي اجتماع النساء الديموقراطيات أكدت على مطلب حق الانتخاب للنساء واعتبرت ان الانتقاص من حقوق المرأة هو تقييد لأرواحهن وتحويلهن الى أدوات لسيطرة الرأسمالية، نادرا ما كتبت عن تحرير المرأة وصراعها من أجل نيل حقوقها لكنها كانت ترد على الإهانات الموجهة ضد المرأة من خلال تثبيت دورها في المعركة السياسية، أي معركة تحرير الطبقة العاملة، وقفت لوكسمبورغ ضد الحرب وضد الانتهازيين الاشتراكيين الاصلاحيين، مؤكدة على الثورة العالمية للطبقة العاملة ولم تكن معجبة بتوجهات الحزب الاشتراكي الالماني الذي إنتمت إليه، خصوصا وإنها غلبت أفكار الأممية على الأفكار القومية والوطنية. قادتها مواقفها المناهضة للديكتاتورية الى السجن طوال فترة الحرب، التقت وكارل ليبكنخت في1916، الذي كان شريكها في إصدار جريدة “العلم الاحمر” وصديقتها كلارا زتكين على تأسيس فريق ثوري عرف باسم “سبارتاكوس”، ثم تحول في كانون الثاني 1919 الى الحزب الشيوعي الألماني، كانت في العام 1918 قد كتبت مقالا نقديا مهما حول الثورة الروسية وناقشت لينين في مسألة قيام الثورة في بلد واحد وفي ديكتاتورية البروليتاريا ونظام المركزية في الحزب، وكان لينين يسمي روزا “النسر” لحضورها الفكري المتقد، ورأت روزا ان الثورة يجب ان تفتح المجال أمام الحريات السياسة الأوسع لأنها وحدها الشمس التي تطهر وتخلص، لكن الآخرين رأوا ان التهديدات المحيطة بالثورة تمنع منح الحريات السياسية الأوسع.
كان كارل لبيكنخت يوقع مقالاته باسم “سبارتاكوس”، تيمنا بمحرر العبيد الشهير في التاريخ الروماني. وضع في السجن وفي الوقت نفسه قبض على روزا، ولم يطلق سراحهما الا في 8 تشرين الثاني ـــ نوفمبر من العام 1918، يوم إنطلاقة عمال ألمانيا بإضرابهم وتظاهراتهم، مما اضطر القيصر إلى ترك البلاد، بعد يومين وصلت روزا الى برلين واليسار تائه وهي مريضة ومتعبة من السجن. اتخذ القرار بتحويل الحزب الى حزب شيوعي ألماني يهدف الى تنظيم جماهير الشعب، من اجل اقامة حكم اشتراكي في البلاد. كان ذلك في الاول من كانون الثاني ــ يناير 1919، كانت المانيا المهزومة في الحرب العالمية الأولى مفككة وضائعة. ودعا الشيوعيون إلى إستقالة موظفي الحكومة والاقاليم ذوي الميول الاشتراكية من مناصبهم، أملا في زعزعة أركان الحكم. وحده رئيس الشرطة اريك ابخهورن لم يستجب للنداء. معتبرا ان بقاءه في منصبه سيكون مفيدا للحزب، بيد ان الحكومة تنبهت للأمر فأقالته.
اعتبر الشيوعيون ذلك اشارة تهديد، فقرروا التحرك ودعا ليبكنخت قائد سبارتاكوس وغيورغ ليدبيدر الناطق الرسمي باسم الحزب الشيوعي الاشتراكي الديمقراطي المستقل عمال برلين للمقاومة. وما أن أطل مساء الخامس من كانون الثاني ــ يناير، حتى سيطرت قوات اليسار المسلحة على حي الصحافة ووسائل الاعلام. ودعت الشعب الى الكفاح المسلح.
كانت الاستجابة محدودة، وبنتيجة ذلك أعلنت حالة الطوارىء في البلاد وتمت ملاحقة اليساريين، وفي 15 كانون الثاني ـــ يناير القي القبض على ليبكنخت وروزا في المخبأ الذي تم اللجوء إليه بعد فشل الانتفاضة وسلما الى ضابط أركان يدعى فلاديمير بايست، فأوقفا بعد تحقيق أولي على ان ينقلا الى المعتقل، في حي موابيت لكن أحد الحراس اطلق عليهما النار فتم الإجهاز على ليبكنخت اما روزا فقد قتلت في سيارة أخرى ورميت جثتها في نهر شبير قناة لاندفهر ولم يعثر عليها الا لاحقا.
كانت لوكسبورغ ضحية حقيقية هذه المواجهة التي وضعت حدا لحياة مفكرة سعت دوما إلى أن تسبغ على الفكر الاشتراكي نزعة إنسانية وعقلية إفتقدتهما التجربة الروسية.
<
p style=”text-align: justify;”>لها العديد من المؤلفات الفكرية من بينها: مقدمة في الاقتصاد السياسي الذي يعتبر من أفضل أدبيات الفكر الاشتراكي، الماركسية ضد الديكتاتورية، الاصلاح أم الثورة، جماهير الحزب والنقابات، كتابات سياسية، تكديس الرأسمال والاسهام في تفسير اقتصادي للامبريالية، أزمة الاشتراكية الديموقراطية، الثورة الروسية.