حكايات عن الحَمِير وعن المُستحمِرِين والمُستحمَرين!
د. محمّد محمّد خطابي
للأديب المغربي الصّديق نور الدين برحيلة مقال بعنوان “لماذا انتحر الحمار” مُثقل بالرّموز والرسائل التي لا يقوى على استعمالها، وتوظيبها ،وتوظيفها، وتطويعها، واستكناهها، واستغوارها، واستبطابها سوى صفوة من الأدباء النابهين، جاء المقال فى عرضٍ رائع، وانسياب في السّرد لا يستطيع القارئ منه فكاكاً إلاّ عندما يُدرك انّه قد أشرف على نهايته، تعقيباً وتعليقاً وتبعاً لهذا المقال أسوق فيما يلي للقراء الكرام أربع حكايات طريفة عن (الحِمار) مقتبَسَة من كتابي: (رجالٌ ونساء.. طرئف وقصص..).
-1 تقول الحكاية الأولى وهي بعنوان: (الفلاّح والقيلولة): ذات مساء قائظ خرج أحدُ الخلفاء مع حاشيته ليقومَ بجولة إستجمام فى البادية بعيداً عن المدينة، وفجأةً رأى بدوياً مستلقياً ينام فى هدوء تحت ظلّ دوحة عظيمة وبجانبه ناعورة مربوط إليها حمار وقد وُضع على عنقه جلجول أو ناقوس صغير، وهو يدور حول الناعورة لضخّ المياه من جوف الأرض.. وقف الخليفة مشدوهاً ينظر ويتأمل ليتحرّىَ ويعرف ماذا كان يجرى فيما كان يتراءى له، دَنَا من البدوي، فانتفضَ هذا الأخير واقفاً مذعوراً وقال للخليفة: يا أميرَ المؤمنين لقد حلّ وقتُ قيلولتي فخلدتُ للنّوم قليلاً، إلاّ أنني لم أشأ أن أتخلّى عن العمل، ولهذا السّبب علّقتُ هذا الجلجولَ على عنق الحِمار لأتأكّدَ أنّه يدور ويعمل، ويحرّك الناعورة ويضخّ المياه.. عندئذٍ سأله الخليفة: وإذا خدعك الحمار؟ فبدلاً من أن يستمرّ فى الدّوران حول الناعورة توقّف وحرّك رأسَه فقط..!! عندئذٍ أجابه البدويّ على الفور: يا أميرَ المؤمنين لا فُضّ فوك.. ولكن أين لي بحمارٍ له عقلُ الأمير..!!
-2 وتقول الحكاية الثانية وهي تحت عنوان: (سلطة العادة على الكائن الحيّ): ذهب فلّاح لجاره يطلب منه حبلاً لكي يربط حماره أمام البيت. فأجابه الجار بأنه لا يملك حبلاً ولكن أعطاه نصيحة وقال له: “يمكنك أن تقوم بنفس الحركات حول عنق الحمار وتظاهر بأنك تربطه ولن يبرح مكانه”..عمل الفلّاح بنصيحة الجار.. وفي صباح الغد وجد الفلاح حماره في مكانه تماماً.ربَّت الفلاح على حماره.. وأراد الذهاب به للحقل.. ولكن الحمار رفض التزحزح والتحرّك من مكانه!! حاول الرجل بكل قوته أن يحرّك الحمار ولكن دون جدوىَ.. حتى أصاب الفلّاح اليأس من تحرّك الحمار. فعاد الفلاح للجار يطلب النصيحة.. فسأله: “هل تظاهرت للحمار بأنك تحلّ رباطه ؟ “فردّ عليه الفلاح بـاستغراب: “ليس هناك أيّ رباط”. أجابه جاره: “هذا بالنسبة إليك أمّا بالنسبة إلى الحمار فالحبل موجود”.عاد الرجل وتظاهر بأنه يفكّ الحبل.. فتحرّك الحمار مع الفلاح دون أدنى مقاومة!!. لا تسخر من هذا الحمار. فبعض الناس أيضاً قد يكونون أسرى لعاداتٍ أو لقناعاتٍ وهميةٍ تقيّدهم وتوثقهم.. وما عليهم إلا أن يكتشفوا الحبل الخفي الذي يلتف حول عقولهم وأعناقهم ويمنعهم من التقدّم للأمام! …
– 3 وجاء في الحكاية الثالثة بعنوان (حكمة الصّمت): وهي للأديب الفارسي السّعدي الشيرازي الذي يحكي لنا في كتابه الشهير “الگلستان” الذي يعني – الروضة أو الحديقة – وهي مجموعة من الحكايات، والطرائف، والمواعظ، ويمزج فيها الشيرازي ما بين الشعر والنثر وما بين الفارسية والعربية، أنّ جاراً للأديب كان ثرثاراُ بشكلٍ مبالغ فيه،وكان يعاقِب حمارَه ويضربه ضرباً مُبرحاً بدون انقطاع لأتفه الأسباب أمام أنظار جميع جيرانه، سأله ذات مرّة الأديب السّعدي فقال له: لماذا تضرب حمارَك بقوّة وبلا توقّف كلّ يوم..؟ فقال له جارُه صاحب الحمار: منذ عدّة شهور وأنا أحاول أن أعلّم حماري الكلامَ ولكن بلا جدوىَ..! إنه لا ينطق ولو بكلمة واحدة، لأنه حيوان أبله يثير الإشمئزاز..عندئذٍ قال السّعدي لجارِه: ينبغي لك أن تتعلّم من حِكمة حمارك.. إنّك تحاول عبثاً طوالَ هذه المدّة تلقينه الكلام.. وهو يحاول عبثاً تعليمك الصّمت..!!.
– 4 وتحكي لنا الحكاية الرابعة التي جاءت تحت عنوان (وسام الحمار) أنه أثناء استقبال إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني عام 1898م في دمشق، لاحظت الإمبراطورة حماراً أبيض، فاستلفت نظرها وطلبت إلى الوالي أن يأتيها به، لكي تأخذه معها ذكرى، فراح الوالي يبحث عن صاحبه. فعلم أنه يخصّ مواطناً سورياً يدعى عبدالحميد تللّو وكان تللو من وجوه بلدته. استدعى الوالي تللو، وطلب إليه إهداء الحمار إلى الإمبراطورة، فاعتذر . فعرض عليه شراءه منه، فأصرّ على الرّفض، ولما اشتدّ الوالي في الإلحاح، أجابه تللو: يا أفندينا، إنّ لديّ ستة رؤوس من الخيل الجياد، إنْ شئتَ قدّمتها كلها للإمبراطورة هديةً منّي، أمّا الحمار فلا..!. استغرب الوالي هذا الجواب، وسأله: لماذا؟ قال: سيّدي إذا أخذوا الحمار إلى بلادهم ستكتب جرايد الدنيا عنه، ويصبح الحمار الشّامي موضع نكتة وربّما السخرية، فيقول الناس، إنّ إمبراطورة ألمانيا لم تجد في دمشق ما يعجبها غير الحمار، ولذلك لن أقدّمه إليها، ولن أبيعه!. ونقل الوالي الخبر إلى الإمبراطور وزوجته، فضحكا كثيراً، وأعجبا بالجواب، وأصدر الإمبراطور أمره بمنح تللّو صاحب الحمار وساماً، فسمَاه (وسام الحمار)… في بلادنا كثيرون يحملون آوسمة وقلادات ونياشين، لكن هناك فرق شاسع بين أن يحصل الحمار على وسام وبين آن يُمنح الحمار وسام.! (عن دار النخبة بيروت) .
كتب ذات مرّة صديقي الكبير الأديب العراقي الراحل المعروف عبد الحقّ فاضل في مسرحيته الناجحة والفريدة في أسلوبها ومضمونها ورموزها (4 نساء و3 ضفادع) يقول في إحدى الحوارات بين شخصيات المسرحية بعد مرور ألاف السّنين عن تاريخنا الحديث: وما الكرافتّة (رباط العنق) الذي يستعمله بفخر الانسانُ المُعاصر إلاّ بقايا تأثير الألجمة التي كانت وما تزال تُستعمل في أعناق الحمير والخيول منذ أقدم العُهود والعُصور والدُهور!
<
p style=”text-align: justify;”> الحمار.. هذا الحيوان الأليف المظلوم الذي صاحب وعاشر ورافق الإنسان سامعاً مُطيعاً مُذعناً منذ أقدم العهود كرّمه الكاتب والشاعر الاسباني الكبير “خوان رامون خيمينيث” الحاصل على جائزة نوبل العالمية فى الآداب عام 1956 عندما وضع كتاباً عنه بعنوان: (بلاطيرو وأنا) أيّ (حماري الفضّي وأنا)، وعنوانه فى اللغة الاسبانية (Platero y yo) .