قصة قصيرة: بابا لايحب الحمام
عزيز ستراوي
اْول الحب هزل وآخره جد.
اْستمع الى ابن حزم وهويشرح ماهية الحب، واْنا جالس على مقعد في حديقة وبين يدي كتابه طوق الحمام .والحق يقال اْن هذا الفقيه الاْنلسي الجريء- اْعزه الله- لم يترك لي الفرصة لاْرفع عيني عن الكتاب ولو لحظة واحدة. سرعان ما استدرجني وفتح امامي أبواب كتابه، وكلها تحكي عن قصص واْشعار واْخبار المحبين. وجدتني واْنا اْتنقل من باب الى باب مفتونا متشوقا مندهشا، تماما بنفس الفتنة والشوق والدهشة التي شعرت بها لما زرت لأول مرة قصر الحمراء فاكتشفت مباهجه واْنا اجول في حديقة الساحرة واْطوف في افنيته وبين واْروقته الباذخة.
واْنا غارق تماما في نشوة القراءة، واذا بصبية تقتحم خلوتي. وجدتها على مقربة مني ترف كفراشة وهي تقفز وتغني. لوكانت تملك جناحين لقلت انها ملاك نوراني نزل من السماء أو خرج لتوه من احدى لوحات مايكل انجلو.
صبية جميلة، غضة، ذات ثلات سنوات اْو اكثر بقليل، موردة الخدين، ترتدي تنورة بيضاء طويلة موشاة بطيات عديدة. شعرها الأسود مقصوص بعناية ينحصرعند جبهتها الوضاءة، وعند سفح رقبتها، لكنه طليق يمرح معها، ويقفز.
كل شيء في الصبية ينبض بطفولة حية متوهجة.
الاْب والاْم يجلسان في المقعد المقابل صامتين .وكاْنهما في قسم دراسي وليس في حديقة . فارق السن بينهما واضح. الاْم في ربيع شبابها والأب في خريف عمره. اْغلب الظن انه تأخر عن الزواج أو ربما قد تزوج للمرة الثانية او الثالثة. فجاة تتوقف الصبية عن اللعب. تتطلع بعينيها اللوزيتين نحو الشجرة. شجرصنوبرباسقة وقد مدت فروعها بسخاء. على اْحد اغصانها حمامتان تتبادلان القبل . قبلا حارة ساخنة. تنطفئان وتشتعلان ، كلما نهضتا من رماد قبلة التحمتا بالمناقرواحترقتا بنيران قبلة أخرى.
– ماما انظري هناك. ماذا تفعل الحمامتان؟ تسـأل الصبي مندهشة.
بدورها تتطلع الأم نحو الحمامتين وتبتسم، وماكادت تفتح فمها حتى ردعتها نظرة زوجها. في الحين أغلقت فمها وانطفاْت ابتسامتها ولاذت بالصمت .
الرجل ينظر إلي. لاتفصلني عنه الا تلك المساحة الصغيرة التي تقف فيها الصبية وهي تتفرج على الحمامتين.
لا اْريد أن اْحتمي، بالكتاب واْتظاهر بالقراءة. بدوري كنت اْنظر اليه. تلتقي نظراتنا .
رسالتي واضحة: لقد راْيت وسمعت كل شيء .
ورسالته أيضا واضحة: اقراْ، ولاتتدخل فيما لا يعنيك.
– لكن لم الحرج يا رجل! قل لها بأن الحمامتين تتبادلان القبل. لاْنهما تتحابان. الأمر ليس صعبا.
هكذا خمنت .
يشيح عني بوجهه .وهو يضع الساق على الساق متصنعا اْمامي الهدوء والوقار، لكن لم يكن يفطن الا ان اصابع يده كانت تحرك بعصبية مفاتيح السيارة .
الصبية في مكانها مازالت تتطلع بفضول نحو الشجرة.
– بابا انظر الحمامة الرمادية تصعد فوق الحمامة البيضاء؟
يتلون وجه الرجل. تزيغ عيناه وكاْنما عقدوا حبل مشنقة حول رقبته.
– اْشت! وهو يضع سبابته على فمه .
– هل تلعب معها؟
– اْشت!
ثم يتحول نحو زوجته ويرميها بنظرات الاتهام.
نظراته تصرخ فيها لتقول:
– تعلمي ياامراة كيف تربي ابنتك!
من جديد ينظر صوبي، فيصطدم عبوسه بابتسامتي .
ينهض الرجل يتجه نحوالشجرة، وبيديه المفلطحتين يصفق بيديه. ويقصف الحمامتين. مرعوبتين تصفق الحمامتان باْجنحتهما وتطيران. ولاشيء تبقى على غصن الشحرة غير بقايا ريشهما يتطاير في الهواء .
يعود الرجل لياْخذ مكانه على المقعد، وقبل اْن يجلس. ينظرالي بتحد صارخ وهو يضرب كفا بكف، وكاْنما ينفض عن يديه الغبار. الرسالة واضحة :
– ماذا تنتظر. هيا انهض لقد انتهت الفرجة!
– عيب! عيب! يارجل. ماذا ستخسر لو احتضنت ابنتك وقلت لها وبكل لطف:
– أجل ياعزيزتي الحمامتان تلعبان وترغبان في إنجاب كتكوتة جميلة مثلك.
منكسرة الخاطر تتجه الصبية نحو أمها، وترتمي في اْحضانها. تضمها الاْم بين ذراعيها وعلى خذها تطبع قبلة .
– لماذا لا يحب بابا الحمام ؟
– بابا لايعرف الحب وياليته تعلمه من الحمام!
كان بود الاْم اْن تقول لها ذلك لكنها آثرت الصمت .
يشرق وجه الصبية من جديد .تجري فرحة . تقف تحت الشجرة ثم تبسط كفيها الصغيرين لاستقبال ريشة تائهة خلفها الحمام الهارب. ريشة بيضاء تلاحقها بعينيها وهي تتهاوى من عليائها، مترنحة، مرتعشة.
وماكادت تستقربين راحتي يديها حتى وجدت نفسها محمولة بين ذراعي أبيها، لقد انتشلها قسرا من لحظة اللعب كما تنتشل مخالب طير جارح سمكة من تحت الماء. ياْخذ الصبية ويجلسها على حجر اْمها. تحتويها الأم. تقبلها وتمسح بيد حانية على شعرها الناعم.
بعيون قلقة نتنظرالصبية إلى أبيها.
– بابا! بابا! بابا!
يتجاهل البابا نداءها وهو يشعل سيجارة .
– بابا بابا! لماذا طردت الحمامتين؟
. البابا يغلق أبواب أذنيه جيدا. يأخذ نفسا عميقا من سيجارته ويسرح ببصره بعيدا.
مستاءة تتحول الصبية نحو أمها .
– لكني راْيته البارحة؟
– راأيت من؟
– راْيت بابا
– رأيت بابا! اْين؟
– رأيته في المطبخ
– وماذا يفعل في المطبخ؟
-راْيته يصعد فوقها مثلما كانت تفعل الحمامة الرمادية .
– يصعد فوقها! من؟. قولي؟
– يصعد فوق فطومة.
– فطومة الخادمة؟!
– نعم ماما.
ينتفض البابا من مكانه مصعوقا وكاْنهم صبوا فوقه سطلا كاملا من ماء مثلج.
بسرعة يرمي السيجارة . يسحقها من تحت قدمه، ثم يحمل ابنته بين ذراعيه ،ويغادرالمكان. وفي هذه المرة بدون اْن ينظر الي، ولا الى زوجته التي لم تتاْخر في اللحاق به .
اْسمع الصبية وهي تصب على البابا سطلا اخر من الماء المثلج .
– بابا. بابا قل لي هل كنت تلعب معها؟