الساخر حمُّودة.. الزميل والصديق والأخ والفنان والإنسان

 الساخر حمُّودة.. الزميل والصديق والأخ والفنان والإنسان
بوشعيب الضبار
 
   هو زميلي وصديقي وأخي..
   زميلي، لأن دروب الصحافة جمعتنا معا في مكان واحد، وتحت سقف مكتب واحد في الرباط، سنة 1978.
   صديقي، لأننا تقاسمنا معا اللحظات الحلوة والمرة، بما فيها من تقلبات ومتغيرات.
اللحظات الحلوة كانت في انتشار الصحف الثلاث التي اشتغلنا فيها جنبا إلى جنب، وهي “أخبار السوق”، و”أخبار الفن”، و”أخبار الكرة”.
   واللحظات المرة يوم الإعلان عن توقيف كل هذه الجرائد فجأة، بدون سابق إنذار لنواجه المجهول مع كل أعضاء طاقم التحرير، وقد استقبل حمودة هذا القرار بطيف ابتسامة صغيرة على وجهه، تنم عن شعور بالحسرة والأسف، وكأنه كان يدرك بحسه المرهف هذا المصير.
   وهو أخي، لأن علاقتنا ظلت مستمرة ومتجددة على الدوام، رغم افتراق السبل وتباعد المسافات بيننا، هو في مدينة، وأنا في مدينة أخرى، لكننا نستغل كل فرصة ممكنة للتلاقي كلما سنحت الظروف.
   بحكم معاشرتي له أنا ورائد الكاريكاتير الصديق العربي الصبان، طيلة تلك الفترة التي أمضاها حمودة في الرباط، قادما إليها من سيدي قاسم، قبل انتقاله إلى الدر البيضاء، أستطيع أن أقول إنه فنان شاب من طراز خاص، صادق مع نفسه، عفيف اللسان،صبور إلى أقصى حدود الصبر، صموت،        هاديء الطباع، يتصرف بكل تلقائية، عالمه الوحيد هو الرسم.
   كان أول من يأتي إلى مقر الصحيفة، واضعا سماعات الموسيقى في أذنيه.
   أحيانا تتراكم عليه الأشغال فوق المكتب، فلا يتأفف ولا يشكو، وهو يملأ الفراغات وبياض الصفحات، ويخوض سباقا مع الزمن للحاق بموعد الطبع.
   ولطالما تعانقت ريشته مع قلمي في مقالات وتحقيقات أضفى عليها لمسات سحرية جميلة من خلال عطائه الإبداعي.
   عرف حمودة برسوماته التخطيطية والإيضاحية المصاحبة لبعض المقالات، كما اشتهر بشخوصه ومخلوقاته الغرائبيبة التي تبدو أحيانا، بشكل هلامي، بدون ملامح، كأنها قادمة من كوكب آخر، وعالم آخر، في انزياح سوريالي نحو الرسم التعبيري المتكيء على الجانب الذهني والرمزي والإيحائي القابل لمختلف الاستنتاجات والتأويلات.
   هكذا كان يراه نقاد ومتتبعو تجربته الفنية، وهو يومئذ شاب يافع مفعم بالحماس، لا يتوقف أبدا عن التفكير والبحث عن مصادر جديدة عبر القراءة والتثقيف الذاتي، إلى أن غدا مدرسة فنية متكاملة الأركان في الكاريكاتير، قوامها الالتصاق بهموم الشعب بأسلوب انفرد به حتى أصبح بصمة من بصماته.
   ولو امتد به العمر حتى الآن لكانت له صولات وجولات جديدة في مجال السخرية في مواجهة تقلبات طقس هذا الزمن الصعب.
وبمناسبة موجة الغلاء السائدة حاليا، أذكر أن رسما نشره حمودة في جريدة ” التقشاب” حول ارتفاع الأسعار، أثار ضجة كبيرة وسط الحكومة، في الثمانينات، وأدى إلى منع هذه الصحيفة الشعبية لاحقا بعد استنطاق مديرها حميد البوهالي لمدة 20 يوما بأمر من الراحل إدريس البصري، وزير الداخلية القوي آنذاك.
   كان الجو السياسي في المغرب مطبوعا بالتوتر في تلك الفترة التي شكلت امتدادا لما يعرف بـ”سنوات الجمر والرصاص”، عقب انتفاضة 20 يونيو سنة 1981، وما أسفرت عنه من سقوط بعض الضحايا، وخاصة في مدينة الدار البيضاء.
   ولا شك أن ما أثار غضب من بيدهم القرار، هو أن رسم حمودة يجسد بعض الوزراء راكبين على ظهر المواطن، وحاملين لقصبة في شكل صنارة تتدلى أمامه بـ”كوميرا”، وهم يدعونه إلى مزيد من الصبر، بعد ارتفاع أسعار مواد المعيشة.
   “الوزير القوي” اعتبر هذا الرسم بما تحمله خطوطه من خطاب لاذع موجها ضده بالأساس، قبل الوزراء الآخرين، وهو الذي أطلق لقب “شهداء الكوميرا” على الضحايا، وكان يعتبر نفسه فوق النقد، فكان رد فعله هو السعي لإخراس هذا المنبر المزعج.
   ولأن حمودة، مبتكر شخصية “حروش” وأيقونته الرمزية، كان نابغا في الأشرطة المرسومة، فقد أطلق جريدة خاصة بهذا الفن الجميل، تحمل اسمه “روض حمودة” سنة 1993، لكنها لم تعمر طويلا، بفعل إكراهات النشر وتداعيات المرض المزمن في جهازه التنفسي.
   في كل المنابر التي تنقل على أعمدتها، مثل “البلاغ ” و”الأسبوع الضاحك” وغيرهما، ترك رصيدا زاخرا يشهد له بالكفاءة والالتزام، إلى أن استقر به المقام في صحيفة “الاتحاد الاشتراكي”، حيث وافاه الأجل المحتوم يوم رابع مارس سنة 1998 وهو في عز النضوج الفني.
   وبين تاريخ ميلاده يوم رابع فبراير سنة 1956 بمدينة سيدي قاسم، ويوم وفاته يوم رابع مارس سنة 1998 في الدار البيضاء، محطات من المعاناة، ورصيد من العطاء.
   أمضى كل حياته منكبا على الرسم، ولعله كان يدرك في قرارة نفسه أن العمر مهما طال فهو قصير.
لقد كان حمودة ولا يزال، رغم رحيله إلى العالم الآخر، حاضرا بيننا، برسوماته الساخرة، التي لو أعيد نشرها اليوم لبدت كأنها وليدة اللحظة، ولم يجف حبرها بعد.
   إن الحفاظ على تراثه ليس مسؤولية أسرته فقط، بل هي مسؤوليتنا جميعا، ومما يبهج الخاطر أن هناك من يفكر في هذا المشروع جديا، وأخص هنا بالذكر الصديق يوسف بخوثة، صاحب موقع “القلم الأسود” الذي يسعى جاهدا للحفاظ على ذاكرته، عبر طبع أعمال حمودة في كتاب يضم سردياته ورسوماته الساخرة، معززة ببعض الشهادات.
   والحقيقة أن حمودة كان ولا يزال أيضا ملهما لجيل كامل من الشباب، حاول السير على منواله. فلا غرو إذن أن يحظى بالتكريم في ملتقى شفشاون لفن الكاريكاتير والإعلام، ومهرجان الكاريكاتير الدولي لإفريقيا بأكادير، واليوم حان دور جمعية النجم الأحمر للتربية والثقافة والرياضة والتنمية الاجتماعية بمشرع بلقصيري لتحتفي به تكريسا لثقافة الاعتراف، على بعد أيام قليلة من ذكرى وفاته.
الشكر موصول للجمعية على هذه المبادرة الطيبة، والشكر لكم على حسن الإصغاء.
________________
* النص الكامل لشهادتي المتواضعة في حق المرحوم حمودة، المحتفى به في ملتقى ناجي العلي الوطني الأول للكاريكاتير المنظم في مشرع بلقصيري من طرف جمعية النجم الأحمر للتربية والثقافة والرياضة والتنمية الاجتماعية.
Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

بوشعيب الضبار

صحافي وناقد فني مغربي