الانجراف الاستبدادي للرئيس قيس سْعيَّد

الانجراف الاستبدادي للرئيس قيس سْعيَّد

ريم ياسين

   بالأمس، كانت النجوم قد شحبت وتلاشت بالفعل، لكنها الآن أصبحت مظلمة، وليس مستبعدا أن تغرق أكثر في العتمة. فماذا يبقى من هالة تونس؟ وماذا احتفظت به من هيبتها، إذ لا يمر أسبوع من دون حصول عدد كبير من الاعتقالات بالجملة والتوقيفات لأسباب سياسية؟ أي تألق تستطيع تونس أن تدعيه بعد أن رمى الرئيس قيس سْعيّد العار على المهاجرين القادمين من جنوب الصحراء، وجعلهم مشاركين في خطة إجرامية، ضمن مخطط تآمري يهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية لتونس؟ إن القلق الآن حقيقي بالنسبة إلى الانجراف الاستبدادي لهذا البلد الصغير الواقع بشمال أفريقيا. ولا ريب أن الفكرة عن تونس التي نعرفها تضمحل.

   صحيح أن النظام الاستبدادي السابق للحبيب بورقيبة (1956-1987)، وزين العابدين بن علي (1987-2011)، لم يميز تونس كثيرا عن الديكتاتوريات المجاورة. ولكن تحت وطأة القبضة الفولاذية، لم يحل ذلك دون نضوج براعم الحداثة السياسية ببلد غارق في تقليدانية تاريخية إصلاحية، ظهرت في عام 2011 تحت ألوان الربيع الديمقراطي. بلد بدون إيرادات من البترول، لكن تونس كانت ترى نفسها محظية بإيراد سياسي، يضعها في مركز الطليعة. في مشروع تعددي فريد من نوعه في العالم العربي الإسلامي، مما أكسب تونس الاحترام، وحتى الإعجاب على الساحة الدولية.

  ولكن هذا الرصيد تبخر اليوم، منذ أن انتزع الرئيس سْعيَّد السلطة ومنح لنفسه جميع السلطات باسم “الخطر الوشيك الداهم” كما يقول، والذي لم يحدده أبدا. فقد انجرفت البلاد صوب الانحدار السياسي، بعد تفكيك الصرح المؤسسي الذي وضعه الدستور شبه البرلماني عام 2014، يقوم الرئيس التونسي بصنع نموذج له شعبويا، حيث يعطي الصلاحيات المطلقة للرئيس على صورة ديكتاتوريات معروفة قبله.

   الذين لم يستشعروا الخطر وآمنوا بحسن نواياه، وبأنه رئيس نظيف ونزيه مصمم على محاربة الفساد، من الواجب عليهم الآن أن يروا الحقيقة أمامهم: سلطة الرئيس سعيَّد أصبحت بشكل واضح قمعية ورجعية.

   فمنذ 11 فبراير 2023، شاهدنا حملة اعتقالات غير مسبوقة في أوساط المعارضة. آخرها في ليلة 23 فبراير، باعتقال جوهر بن مبارك (55 عاما)، وهو من وجوه اليسار التونسي، اختصاصي في الحقوق الدستورية ومستشار سابق للحكومة. وهو أيضا قائد حركة “مواطنون ضد الانقلاب”. وأحد أبرز القياديين في جبهة الإنقاذ الوطني، وهي تحالف المعارضة الذي نشأ بعد أن استحوذ الرئيس سْعيَّد على جميع السلطات.

  متماهيا مع نظرية المؤامرة، يتهم الرئيس سْعيَّد عشرة معتقلين، بينهم مناضلين سياسيين ورجال أعمال وقضاة ومحاميين وصحفيين، بالتآمر ضد الأمن الداخلي والخارجي للدولة، وبالتحضير لاغتياله، وبتنظيم حالة من التدهور الاجتماعي عبر افتعال نقص في المواد الاستهلاكية. حتى يومنا هذا، لم يقدم القضاء أي دليل لهذا “السيناريو الرائع”. فالرئيس يحسم أولا، ثم على المحاكم أن تتبعه.

المنحى التآمري

   إن هذه الحالة ليست الوحيدة. فعدد الأصوات الناقدة التي استدعيت أمام القضاء لا يعد ولا يحصى. خاصة أنه وفق القانون رقم 54 الذي صدر في شهر سبتمبر 2022 والذي يجرم أكثر فأكثر حرية الرأي المعارضة، وذلك تحت غطاء مكافحة الإشاعات والأخبار الزائفة على الأنترنت، التي تستهدف الأمن العام والدفاع الوطني. هذا التصلب يترافق مع التنديد بالأعداء وبمسببي تجويع للشعب، وهي أفكار أصبحت كلاسيكية في لغة الرئيس.

   إن اللعنات التي يتلفظ بها قيس سْعيّد تنحو منحى الحرب وتحتوي على مقارنة حيوانية وطبية. فالخونة هم حيوانات متوحشة، وأفاعٍ أو ضباع، أو ميكروبات، أي فيروسات سياسية. وفي 21 فبراير، وصف المهاجرين القادمين من جنوب الصحراء إلى تونس بـ”قبائل من المهاجرين غير الشرعيين”، وبأنهم يشكلون “مصدرا للعنف والجرائم والأعمال غير المقبولة”. هذه اللغة تثير التوترات العرقية الخطرة. وأكثر من ذلك، فهو عكس الفكر المؤامراتي الذي يتقنه على مسألة المهاجرين. إذ يتهم البعض، من غير أن يسميهم، بتلقي مبالغ مالية ضخمة بعد سنة 2011 لتسهيل تدفق المهاجرين لهدف غير معلن، وهو تحويل تونس إلى دولة أفريقية لا تنتمي إلى العالم العربي والإسلامي.

كيف وصلنا إلى هذه الحالة

   وصل السيد سْعيَّد إلى قصر قرطاج بعد انتخابه رئيسا في أكتوبر 2019 بأكثرية 73 % من الناخبين، وكان ذلك نتيجة خيبة أمل من العقد الذي خلف الثورة. فهو جسَّد في ذلك الحين الأمل بإحياء قيم سنة 2011، بمواجهة وعود العدالة الاجتماعية التي لم تنفذ، خاصة بين الشباب والمناطق الفقيرة داخل تونس. و لم يكن وصوله إلى السلطة سنة 2019 يشكل سوى المرحلة الأولى لخطة على المدى الطويل. هدفه الأساسي هو التغيير الجذري للنظام السياسي، وهو مشروع ينبع من أيديولوجيات القومية العربية، يضاف إليها بعض من النصائح المحلية.

   قيس سْعيَّد أستاذ في القانون الدستوري، ومناوئ للديمقراطية التمثيلية، نظَّر لمفهوم البناء الديمقراطي من القاعدة، ووضع البناء المؤسساتي بالمقلوب، فأعطى الشرعية للمستوى المحلي. وقد ارتكبت الطبقة السياسية التونسية خطيئة بتقليلها من شأن عزيمة هذا الدخيل غير النمطي، الذي وصل إلى السلطة ويريد تطبيق نظريته. كان من المستحيل تحقيق هذا التغيير الكبير في ظل الدستور، فكان عليه أن يقلب الطاولة. هذا ما فعله في يوليو 2021 عندما أقام نظاما استثنائيا، حيث ساعدته الإدارة الكارثية للأزمة الناجمة عن فيروس كوفيد 19، والتي تحمل نتائجها النظام البرلماني المختل وظيفيا. بالرغم من الوجود الرمزي لدبابة الجيش أمام البرلمان، فإن السيد سْعيَّد استقبل بترحاب كبير في الشارع، كأنه منقذ ومرشد سيطهر البلد من الإسلاميين في حزب النهضة ومن المافيا التي تسرق الشعب.

   قسم كبير من النخبة الاجتماعية التونسية المناهضة لحزب النهضة، الذي كانت تتهمه بكل الفساد في تونس، أعطت شيكا على بياض لهذا القيصر الجديد، حتى يقضي على الإخوان المسلمين. هذه المراهنة كان سببها سوء فهم. فصحيح أن قيس سْعيَّد يكره “النهضة”، ولكن ذلك لأنه يعادي جميع الأحزاب السياسية وليس فقط الإسلاميين. فالأيدولوجية الإسلامية مألوفة جدا لديه، فقد ضمن في الدستور الجديد عبارة “يجب على الدولة أن ترعى أهداف الدين الإسلامي”. وقد فهمت هذه النخبة أبعاد النفور الذي يحمله قيس سْعيَّد اتجاه الطبقات المسيطرة التي أدارت البلاد منذ الاستقلال. فهو يستعمل التهديد بالملاحقات بتهم الفساد، وهكذا يضمن احترامهم له وعدم تدخلهم .

الشعبوية المنتقمة

  المخدوع الآخر هو الاتحاد العام التونسي للشغالين في تونس. هذه النقابة التي هي في جزء منها قومية عربية وقريبة من فكر قيس سْعيَّد، أذكت على ما قام به في يوليو 2021 وساهمت بإعطائه شرعية عبر وصفها السنوات العشر الماضية بـ”العقد الأسود”. بعد اكتشافها أن النقابات محكوم عليها في النموذج المطلق للرئيس. وهي تتمرد الآن بعكس أرباب العمل. المخرج لاختبار القوة هذا، حول الحريات النقابية وكذلك حول الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، ليس واضحا بعد. لأن الديناميكية الملتفة حول السيد سْعيَّد متينة أكثر مما يبدو. فهي ترتكز على القوى الأمنية التي تسانده حتى الآن، وعلى دعم شعبي لا يستهان به. إن نسبة الامتناع عن التصويت الكبيرة في الانتخابات الأخيرة لا يجب أن تخدع المراقبين. فهي لا تعبر عن رفض السيد سْعيَّد، بقدر ما تعبر عن عدم الرضا عن فعل الانتخابات نفسه. هناك خاصة العداء الطبقي الذي يستهدف المسيطرين السابقين، والذي أصبح شائعا جدا في تونس، حتى أن الشعبوية المنتقمة التي يروج لها باتهامه من يسميهم بأعداء الشعب قائلا: “نعم نحن نعاني اقتصاديا، ولكن مافيا الظل تمنعنا من العمل”.

   وأخيرا، فإن السيادة المشبوهة والموروثة من انتمائه للقومية العربية. فهو ينتقد التدخلات والإملاءات الخارجية، وهذا يلقى صدى عند سكان تونس الذين يعانون، مثل كثيرين بمناطق أخرى من العالم، من التوتر الوطني ويبحثون عن مذنبين خارجيين مسؤولين عن المصاعب الاجتماعية التي يعانون منها.

   لم ينقلب القدر على السيد سْعيَّد بعد. ولكن هذه اللحظة ستأتي لا محالة. وذلك عندما لا يعود يملك أي كبش فداء. للمفارقة، الرئاسة المطلقة التي ينظمها بشكل ممنهج خلف الواجهة المخادعة للبناء الديمقراطي من القاعدة، سيأتي بعد وقت بنتيجة معكوسة و يفضح مسؤوليته الشخصية.

(بتصرف عن “لومند” الفرنسية).

Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة