في غزوة الدب القطبي..

في غزوة الدب القطبي..

 جورج الراسي

   كان يفترض أن يحتفل الرئيس بوتن هذا العام بالذكرى العاشرة لارتباطه بالبطلة الأولمبية إلينا كاباييفا، الحائزة على ميداليتين ذهبيتين في الجمباز الإيقاعي، قبل أن تصبح نائبة في مجلس الدوما عن حزب “روسيا الموحدة ” المؤيد لبوتن طبعا.

   لا بل كانت دخلت عالم الأضواء من أوسع أبوابه بعدما اختارتها مجلة “فوغ” لتكون على غلافها في  مطلع العام 2011. وكانت إلينا تبلغ آنذاك من العمر 30 عاما، أي نصف عمر الرئيس الروسي بالتمام والكمال، آنذاك أيضا… وهو الذي يحكم روسيا منذ نحو 23 عاما… فالحب أعمى كما تعلمون

    وكان بوتن قد أعلن طلاقه من زوجته السابقة ليودميلا الكسندروفنا بوتينا في السادس من شهر حزيران / يونيو  2013  بطريقة  very cool  – تمثل بتلميح تلفزيوني من  دقيقة واحدة – بعد زواج دام نحو ثلاثين عاما و يعود إلى  28 تموز / يوليو  من العام  1983

   وهي من مواليد 6 كانون الثاني / يناير 1958  في ليننغراد، وعملت في صباها كمضيفة طيران.. وأنجب منها فتاتين: ماريا (1985) وكاترينا (1986)…

  ولم يميز عام الطلاق سوى استضافة الممثل الفرنسي  Gérard Depardieu في 6 كانون الثاني / يناير  في حفل عشاء في مقر إقامته في مدينة سوشي على البحر الأسود… وهو اليوم الذي صادف عيد ميلاد زوجته الخامس والخمسينومُنِح جيرار بعد ذلك الجنسية الروسية، وظل حتى وقت قصير من أبرز المدافعين  عن الرئيس بوتن في فرنسا

   لكن بدلا من الاحتفال بالذكرى العاشرة لحيازة البطلة الأولمبية على ميداليتها  الذهبية الثالثة، برمي شباكها حول “الثعلب  الروسي”، نرانا  نتوقف عند الذكرى الأولى لاندلاع أبشع حروب هذا القرن… حتى الآن…!

     إشكالية استقلال أوكرانيا

   شكلت أوكرانيا على الدوام “البطن الرخو” للاتحاد السوفياتي السابق. وكانت مدار صراع محتدم بين القادة السوفيات أنفسهم (بين يلتسن وغورباتشيف  على وجه الخصوص) وبين الدول الغربية حول المصير الذي تؤول إليه بعد تشظي الاتحاد السوفياتي إلى دول مستقلة… هل تبقى داخل الاتحاد الروسي الجديد أم تنال استقلالها أسوة ببقية الجمهوريات؟

   لقد كان الأمر موضع متابعة حثيثة من طرف إدارة الرئيس جيمي كارتر ومستشاره للأمن القومي آنذاك Zbigniew Brrinski ، ونذكر تصريح  مدير الـ  CIA  الجديد  حينها Robert Gates : “إذا غادرت أوكرانيا  الاتحاد ستسرع بسقوط غورباتشيف قبل نهاية العام  1991..”.

   وكان قادة أوروبيون كثيرون يفضلون بقاء أوكرانيا داخل الاتحاد لمراقبة ترسانتها النووية ولعدم تفجر مسألة الأقليات (مطالبة رومانيا بالأراضي التي ضمت إلى أوكرانيا عام 1940)، ومطالبة روسيا  بجزيرة القرم التي لم تصبح أوكرانية إلا في عام 1954)..إضافة إلى ما تمثله أوكرانيا من أهمية استراتيجية  نظرا لعدد السكان والمساحة والثروات الطبيعية التي تكتنزها، إضافة إلى وجود إحدى أهم المحطات النووية الرئيسية في أراضيها… وكونها لعبت دور الستار الفاصل بين أوروبا والغرب عموما وبين الداخل الروسي…

   صدام وبوتن: مأساة واحدة…؟

    تزداد قناعتي يوما بعد يوم أن الرئيس الروسي وقع في المصيدة ذاتها التي سبقه إليها صدام حسين ..

   في الحالتين كانت هناك مطالبة باِستعادة “أراضٍ تاريخية مسلوبة”… وبغض الطرف عن صحة أو عدم صحة مثل هذه المطالب، إلا أنها تتعارض ومبادئ القانون الدولي التي تم إرساؤها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتي تخدم بلا شك مصالح الدول المنتصرة

   وفي الحالتين أيضا كان “الوسواس النخاس” أمريكيا

  صدام حسين فسر إيماءات السفيرة الأميركية إبريل غلاسبي على أنها دعوة لوضع اليد على حقول النفط في الكويت، تعويضا له عن خسائر الحرب مع إيران وتراجع أسعار الذهب الأسود… في حين أن الهدف كان فتح أبواب الجحيم أمام العراق للتخلص من قوة عربية نامية تهدد أمن إسرائيل (العراق هو البلد العربي الوحيد الذي أطلق صاروخا على تل أبيب!)

   كما كان في طليعة دول العالم الثالث من حيث أنظمة الصحة والتعليم والبيئة والتطور العلمي….

   وفي حالة بوتن فإن الهدف المشابه هو مواجهة التمدد الروسي في مختلف القارات وفي إفريقيا على وجه الخصوص، بواسطة قوة فاغنر، مما أصبح يشكل تهديدا خطيرا للمصالح الغربية

   لكن الأمر المستغرب أن الفخ الذي نصب لبوتن يجري الإعداد له منذ سنوات طويلة وعلى وجه التحديد منذ العام  2014، حين وصلت إلى السلطة في كييف مجموعة مرتبطة بالولايات المتحدة… و بدأت باستفزاز السكان الموالين لروسيا في مقاطعة الدونباس لجر روسيا إلى الحرب… و هذا ما حصل بالفعل

 أوروبا  الضحية

   وتزداد قناعتي يوما بعد يوم أن الخاسر الأكبر في هذه الحرب هي أوروبا. وقد لفت نظري منذ بضعة أيام تصريح أدلى به Pierre Degaulle حفيد الجنرال شارل دوغول  لإحدى الصحف الفرنسية، ألقى فيه باللوم على الولايات المتحدة في نشوب الحرب الأوكرانية، متهما إياها بمحاولة زعزعة استقرار أوروبا  وأضاف “إن الفرنسيين يدفعون ثمنا باهظا للحرب التي أثارتها الولايات المتحدة لتحويل أوروبا إلى تابع لها. لقد بدأ الرأي العام في فرنسا يدرك ماهية لعبة الأميركيين الشريرة اليوم. فباستخدام أكاذيب داخل حلف الناتو تمكنت الولايات المتحدة من استخدام الأزمة الأوكرانية لزعزعة استقرار أوروبا”  

   وكان جده الجنرال ديغول قد  سحب فرنسا من هيكلية القيادة العسكرية المتكاملة لحلف الناتو عام  1966. وسبق للحفيد أن دعا فرنسا في ديسمبر / كانون الأول  من عام 2021 إلى الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع روسيا

   لقد عرقلت الحرب الأوكرانية مسار أوروبا  نحو التكامل.. و تكبدت القارة العجوز في السنة الأولى من الحرب خسائر اقتصادية فادحة قدرها وزير المالية الألماني بأكثر من 170 مليار دولار بالنسبة لألمانيا وحدها

   لقد عملت الولايات المتحدة  كل ما في مقدورها خلال السنة الأولى من الحرب على قطع كل سبل التعاون  بين أوروبا و روسيا بخاصة في ميدان التزود بالنفط والغاز. وقد وصل الأمر آلى حد تفجير خط North Stream  الذي كان سيزيد من الصادرات الروسية إلى أوروبا (طبعا لن يكتشفوا أبدا من قام بتفجير ذلك الخط).

روسيا.. إلى الصف الثاني

    وتزداد قناعتي يوما بعد يوم أن الحرب حققت اول أهدافها الأميركية وهي إذلال الجيش الروسي الذي يقف عاجزا عن تحقيق أي نصر حاسم على جيش من جيوش بلدان الصف الثاني أو الثالث… في حين كان يعتبر ثاني جيوش العالم

   وللمرة الأولى تظهر بوادر تفكك بين الجيش وقوة فاغنر التي قفز عدد عناصرها من خمسة آلاف إلى خمسين ألفا.. وأصبحت القوة الضاربة لتنفيذ خطط السياسة الخارجية للقيادة الروسية

    أضف إلى ذلك الأعداد الهائلة للقتلى التي تقدر بعشرات الآلاف… إضافة إلى الجرحى والمصابين والمهاجرين

   لقد تم إضعاف المجتمع الروسي بشكل لم يسبق له مثيل، وانخفض عدد سكان روسيا خلال عام واحد أكثر من 500.000  نسمة، وفق الإحصائيات الرسمية الروسية في ظاهرة قل نظيرها

   في المنطقة التي أقضي فيها معظم أشهر العام  جنوب فرنسا على  شاطئ المتوسط لم تعد تسمع سوى اللغة الروسية في بعض البلدات. كانت المنطقة مقصدا للبورجوازية الروسية منذ أيام القياصرة، لكنها اليوم أصبحت ممرا.. ومقرا

 أميركا.. الرابح الأكبر…!

   وتزداد قناعتي يوما بعد يوم أن الرابح الأكبر والوحيد من هذه الحرب البشعة في أوروبا هي الولايات المتحدة… ففي الوقت الذي تتراجع فيه اقتصاديات روسيا وأوروبا على حد سواء يوما بعد يوم، فإن الاقتصاد الأميركي لم يكن أفضل حالا من أي وقت مضى، لا من حيث سوق العمل، ولا من حيث التضخم، ولا من حيث القدرة على المنافسة

   ومن ناحية أخرى أعادت الحرب الأوكرانية بث الروح في حلف الناتو، وتتقدم الولايات المتحدة مرة أخرى للعب دور “زعيمة العالم الحر “…

   وليس من المستغرب أن تتوالى يوما بعد يوم تصريحات المسؤولين الأميركيين على كل المستويات يحذرون من وقف الحرب، ويدينون كل محاولات التهدئة والتفاوض وذلك – كما يقولون – حتى لا يلتقط الجيش الروسي أنفاسه… أي يريدونها حربا حتى آخر أوكراني وآخر روسي

الصين هي الهدف

    وتزداد قناعتي يوما بعد يوم أن الولايات المتحدة تتصرف من الآن وصاعدا كما لو أنها “انتهت” من روسيا كمنافس لها أو كدولة عظمى، فقد أوجدت لها الرمال المتحركة التي ستغرقها

   إن اهتمامها منصب كلية هذه الأيام على الصين، لأنها تعتبرها المنافس والغريم الرئيسي فيما تبقى من هذا القرن وفي القرن المقبل… ولا تحتاج إلى ناضور لكي ترى التحركات الناشطة في جنوب شرق آسيا. من تهيئة  قواعد وافتتاح أخرى… ودس يومي على الصين (مصدر كوفيد-  مناطيد التجسس – غزو تايوان المتوقع عام 2027..)… الخ..

   إن الولايات المتحدة تتصرف كما تصرفت عقب انتصارها في الحرب العالمية الثانية… ولكن هذه المرة لم تخسر رجلا واحدا… ولا اضطرت إلى إطلاق رصاصة واحدة..!

إنها طبخة أمريكية من ألفها إلى يائها…!

Visited 9 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

جورج الراسي

صحفي وكاتب لبناني