خمسمائة عام من العزلة

خمسمائة عام من العزلة

ترجمة: بيسان بنميمون

   سبّب نهوض العلم والصناعة الحديثين الثورة التالية في العلاقات الإنسانية ـ الحيوانية. فخلال الثورة الزراعية أخرست الإنسانيةُ الحيوانات والنباتات وحوَّلت الأوبِرا الإحيائية (animic) الكبرى إلى حوار بين الإنسان و الآلهة. وخلال الثورة العلمية أخرست الإنسانية الآلهة أيضًا. صار العالم الآن عرضًا من أداء فرد واحد. ووقفت الإنسانية منفردة فوق مسرح فارغ تحدث نفسها ولا تفاوض أحدًا وتكتسب قوى هائلة بدون أية الزامات. فهي إذ فكت شيفرة القوانين البكماء للفيزياء و الكيمياء والبيولوجيا صارت تفعل الآن بها ما يحلو لها.

   عندما كان الصياد القديم يخرج إلى البطاح المعشوشبة، كان يطلب مساعدة الثور الوحشي، وكان الثور يطلب شيئا من الصياد. وعندما كان المزارع القديم يريد من بقراته أن ينتجن الكثير من الحليب، كان يسأل إلهًا سماويًا عظيمًا المساعدةَ، وكان الإله يضع شروطه. أما عندما يريد طاقم عمل البحث والتطوير لشركة نستليه في معاطفه البيض الرفع من إنتاج الحليب، فهو يدرس علم الوراثة. ولا تسأله الجينات أي شيء في المقابل.

   لكن مثلما أن للصيادين والمزارعين أساطيرهم، فإن لرجال وحدة البحث والتطوير أساطيرهم كذلك. وتسرق أسطورتهم الأكثر شهرة بلا حياء خرافة شجرة الحكمة وجنة عدْن، لكنها تنقل الحدث إلى البستان في منزل وولسثورب مانور(1) في لينكولنشير. كان إسحاق نيوتن، حسب هذه الأسطورة، جالسًا تحت شجرة تفاح عندما سقطت ثمرة ناضجة منها على رأسه. وبدأ نيوتن في التساؤل لمَ سقطت التفاحة مستقيمةً إلى الأسفل، عوض السقوط إلى أحد الجانبين أو إلى الأعلى. وأدى به بحثه إلى اكتشاف الجاذبية وقوانين الميكانيكا النيوتنية.

   لقد قلبت قصة نيوتن خرافة شجرة الحكمة على رأسها. ففي جنة عدْن تبدأ الحية الدراما مغوية البشريين لارتكاب الخطيئة، وجالبة بذلك غضب الإله عليهما. فآدم وحواء لعبتان بيد الحية والإله على السواء. وعلى النقيض من ذلك، فالإنسان في بستان وولسثورب هو الفاعل الوحيد. بالرغم من أن نيوتن نفسه كان مسيحيّا ورِعًا يكرِّسُ وقتًا أوسع لدراسة الإنجيل مما يخصصه لقوانين الفيزياء، فإن الثورة العلمية التي ساعد على إطلاقها دفعت بالإله إلى الهامش.

   وعندما جاء تابعو نيوتن ليكتبوا أسطورة النشأة لم يجدوا جدوى في الإله أو الحيّة. فبستان وولسثورب تسيره القوانين العمياء للطبيعة، والمبادرة لفك شيفرة هذه القوانين إنسانية صرفة. قد تبدأ القصة بسقوط تفاحة على رأس نيوتن، لكن التفاحة لم تفعل ذلك عن عمدٍ.

   في أسطورة جنة عدْن، عوقب بشريان على فضولهما و أمنيتهما في الحصول على الحكمة، حيث يطردهما الإله من الجنة. ولا يعاقِبُ أحدٌ في بستان وولسثورب نيوتن، بل على العكس من ذلك. فبسبب فضوله، تمكنت الإنسانية من فهم أفضل للكون، وأضحت أكثر قوة و تقدمت خطوةً أخرى نحو الجنة التكنولوجية. يحكي عدد لا يحصى من المعلمين حول العالم أسطورة نيوتن ليحضُّوا على الفضول، قاصدين ضمنيا أنه فقط لو اكتسبنا ما يكفي من المعرفة فسيكون بإمكاننا خلقُ جنة هنا على الأرض.

  في الواقع، فالإله حاضر في أسطورة نيوتن: إن نيوتن نفسه هو الإله. فعندما تنضج ثمارالتكنولوجيا البيولوجية وتكنولوجيا النانو وثمار العلم الأخرى سيصل الإنسان العاقل إلى قوى إلهية ويكمل الدورة عائدًا إلى شجرة الحكمة الإنجيلية. لقد كان الصيادون جامعو الثمار مجرد نوع آخر من الحيوان. ونظر المزارعون إلى ذواتهم على أنها قمة الخلق. وسيرقينا العلماءُ إلى آلهة.

   في حين أسفرت الثورة الزراعية عن ظهور الأديان الإلهية، ولدت الثورةُ العلميةُ الديانات الإنسانوية التي عوّض البشر فيها الآلهة. فبينا يقدس المؤلهون (2) “ثيوس”(3) ( المقابل الإغريقي لإله) يقدس الإنسانويون البشر. وتتمثل الفكرةُ المؤسسةُ للديانات الإنسانوية كالليبيرالية و الشيوعية والنازية في أن للإنسان العاقل جوهرًا فريدًا مقدسًا هو مصدر كل معنى وسلطة في الكون. ويحكم على كل شيء يحدث في الكون من حيث الخير أو الشر حسب أثره على الإنسان العاقل.

   وفي حين عللت الأديان الإلهية الزراعة التقليدية باسم الإله، سوَّغت الإنسانوية الزراعة الصناعية الحديثة باسم الإنسان. فتقدس الزراعة الصناعية الحاجات والنزوات والأماني الإنسانية متجاهلة كل شيء آخر. ولا تولي أي اهتمام للحيوانات، والتي تشارك الطبيعة الإنسانية في قداستها. ولا تجد جدوى في الآلهة لأن العلم والتكنولوجيا الحديثين يمنحان الإنسان قوى تفوق تلك التي كانت للآلهة القديمة. ويمكِّن العلمُ الشركات الحديثة من إخضاع الأبقار والخنازير والدجاج لظروف قصوى أكثر من تلك التي سادت في المجتمعات الزراعية التقليدية.

   كان للبشر في مصر القديمة والإمبراطورية الرومانية والصين القروسطية فَهْمٌ بدائيٌّ للكيمياء البيولوجية وعلوم الوراثة والحيوان والأوبئة. وكنتيجة لذلك كانت قدرات تلاعبهم محدودة. كانت الخنازير والأبقار والدجاج في تلك الأيام تجري حرة ما بين المنازل، وتبحث عن الكنوز القابلة للأكل في أكوام القمامة والأشجار المجاورة. وفرضًا، فلو أن فلاحا طموحًا حاول حجز آلاف من الحيوانات في خمّ مكتظّ لنتج عن ذلك، على الأرجح، وباء مميت يذهب بكل الحيوانات، بما في ذلك كثير من سكان القرية. ولم يكن في مقدور قس أو كاهن أو إله أن يحول دون ذلك.

   ولكن، حالما فكّ العلم الحديث شيفرة أسرار الأوبئة و العوامل الممرضة و المضادات الحيوية، أصبحت الأخمام والحظائر و زرائب الخنازير في المتناول. ويمكن الآن بمساعدة التلقيحات والأدوية والهرمونات ومبيدات الآفات ونظم التكييف المركزية وأجهزة التغذية، حشدُ عشرات الآلاف من الخنازير والأبقار والدجاج في صفوف منظمة من الأقفاص الضيقة، وإنتاج اللحم والحليب والبيض بفعالية غير مسبوقة.

   لقد تعرضت ممارسات كهذه لانتقاد متزايدٍ، إذ بدأ الناس في إعادة التفكير في العلاقات الإنسانية ـ الحيوانية. حيث صرنا فجأة نبدي اهتمامًا غير مسبوق بمصير ما يسمّى بأشكال الحياة الدنيا؛ ربما لأننا في طريقنا إلى أن نصبح إحداها. فإذا بلغت البرامج الحاسوبية ذكاءً يفوق البشر وقوة غير مسبوقةـ ومتى تمَّ ذلكـ فهل سينبغي علينا أن نعتبر قيمة هذه البرامج أكبر من قيمة البشر؟ هل سيكون من المقبول مثلاً لذكاءٍ اصطناعيٍّ أن يستغل البشر، بل وحتى أن يقتلهم لينمّْي حاجاته ورغباته؟ وإذا كان لا ينبغي أبدا السماح له بفعل ذلك، رغم تفوق ذكائه وقوته، فلماذا يعدّ من الأخلاقيّ بالنسبة إلى البشر استغلال وقتل الخنازير؟ هل للبشر شرارة مّا سحرية، بالإضافة إلى ذكاءٍ أعلى وقوة عظمى يميزانهم عن الخنازير والدجاج وقردة الشامبانزيه و برامج الحاسوب على حد سواء؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فمن أين أتت تلك الشرارة، ولمَ نحن متيقنون من أن ذكاء اصطناعيًا (AI) لن يقدر أبدًا على اكتسابها مستقبلاً؟ وإذا لم يكن هناك أية شرارة كتلك، فهل سيكون هناك من سبب لنستمرّ في إضفاء مكانة خاصة على الحياة الإنسانية، حتى بعد أن تتفوق الحواسيب على البشر في الذكاء والقوة؟ حقًا، ما الذي بالضبط يجعل البشر أذكياء وأقوياء جدًّا في المقام الأول؟ وما مدى احتمال أن تنافسنا كينوناتٌ لا إنسانيةٌ وتتفوق علينا؟

   * مترجم عن النص الإنجليزي لكتاب: “الإنسان الإله: من الهومو ـ سابينس إلى الهومو ـ ديوس، تاريخ مختصر عن المستقبل”، ليوفال نوح هراري ـ الطبعة الرقمية (ص.ص:84 ـ87).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إشارات:

1 ـ المنزل هو مسقط رأس العالم الإنجليزي إسحاق نيوتن.

2 ـ theists.

3 ـ theos.

4 ـ النص مقتطف من الفصل الأول من الجزء الأول للكتاب المعنون بـ (الإنسان العاقل يغزو العالم)  وينظر هذا الجزء في العلاقة بين الإنسان العاقل والحيوانات الأخرى، في محاولة لفهم ما يحعل نوعنا مميّزًا .

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة