الصعوبات العملية التي تعترض كتابة التاريخ المحلي
أحمد لعيوني
هناك أسئلة تطرح نفسها عند تناولنا لموضوع تدوين التاريخ المحلي بصفة عامة.
لذلك يمكن للمرء أن يتساءل:
- لماذا الكتابة عن التاريخ المحلي، وما الفائدة من ذلك؟
- ولماذا الكتابة عن تاريخ منطقة قروية خلال فترة تكاد تكون القراءة والكتابة لدى سكانها شيئا نادرا، إلا ما تعلق منها بالتعليم التقليدي؟
حاولت من خلال تجربتي المتواضعة في كتابة جزء من تاريخ منطقة امزاب بالشاوية، (كتاب عن القرن التاسع عشر، وآخر عن فترة الاحتلال) للإجابة على العديد من الأسئلة التي كانت تخطر ببالي لدى سكان المنطقة، باعتباري واحد منهم، أو ممن لهم اهتمام واحتكاك بها، وكل من يتحدث بما وصله عنها من روايات شفوية، والتي حيكت حسب مزاج من يعيد نقلها وتداولها. حينها بدأت أفكر في انجاز بحث يهدف إلى الكشف عن الحقائق بأسلوب منظم يساهم في اغناء معلومات من أراد الاطلاع عن تاريخ المنطقة، باعتماد مصادر مضبوطة. هذه المنطقة التي سبق لها أن عرفت حضارة وتمدنا خلال العصر الوسيط، ابتداءً من القرن الثامن إلى أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، حيث حكمت إمارة بورغواطة الأمازيغية جزءا هاما في وسط المغرب. إلا أن هذه الحضارة مع مرور الزمن واندلاع الفتن والحروب الأهلية بين القبائل والسلطة المركزية على عهد المرابطين والموحدين، تم دحرها وهدم جميع معالمها الحضارية، وتمت إبادة أغلب سكانها الأصليين. وفي وقت لاحق أعيد تعميرها بفرق من قبائل بني ميزاب بالمغرب الأوسط الذي كان تابعا لحكم الموحدين، ثم أعقبتها قبائل بني هلال، وبني سليم من بلاد إفريقية (تونس الحالية) ومن قبائل أخرى وفدت من شبه الجزيرة العربية.
لتجميع وانجاز هذا العمل، تطلب مني الأمر، الانتقال بين العديد من المكتبات العمومية للبحث عن المراجع، وأخص بالذكر منها، والتي حصلت من خلالها على وثائق ومطبوعات ذات أهمية للإفادة في بحثي: مكتبة مؤسسة الملك عبد العزيز بالدار البيضاء – المركز الثقافي الفرنسي بالدار البيضاء – خزانة غرفة الصناعة والتجارة بالدار البيضاء، والخزانة الوطنية بالرباط، ومؤسسة أرشيف المغرب، بالإضافة إلى ما يمكن تحميله من الشبكة العنكبوتية من كتب. أما الخزانات التي زرتها ولم أعثر بها على ما يفيد فلا مجال لذكرها.
كما انصب اهتمامي، وخاصة في الكتاب الثاني (منطقة ابن أحمد امزاب في الأرشيف الفرنسي) على التوجه نحو البحث عن وثائق الأرشيف الفرنسي الذي خلفته سلطة المراقبة المدنية بابن أحمد، من خلال التقارير التي كانت تبعث بها إلى السلطات العليا وتحمل طابع السرية. هذا الأرشيف الذي يعتبر اليوم كنزا ثمينا لمعرفة الماضي القريب وللمساهمة في الحفاظ على الذاكرة الوطنية من الضياع والنسيان والتشويه. كما أن نفض الغبار عن هذا الأرشيف وجمعه وإعداده على شكل كتاب، سيحميه، بلا شك، من التلف أو الإتلاف المتعمد أو من الإهمال، الذي يمكن أن يتعرض له في أي حين سواء بالعوامل الطبيعية أو المفتعلة.
وقد اطلعت على جزء منها في مؤسسة أرشيف المغرب بالرباط، بمساعدة من مديرها الدكتور جامع بيضا الذي يحرص على تفقد قاعة المطالعة والتعرف على زوارها، وأيضا موظفيها الذين لمست لديهم حسن الاستقبال والتوجيه، مشكورين جميعا. هذه الوثائق اطلعت عليها من خلال عدة زيارات قمت بها لهذه المؤسسة في غضون سنة 2018. بينما الجزء الأكبر منها لا يزال قابعا بمركز الأرشيف الدبلوماسي بمدينة نانت الفرنسية. هذه الأخيرة هي وثائق لا تزال محفوظة بمستودع المركز، توصلت بمجموعة منها مرقمنة زودتني بها، بطلب مني، إدارته مباشرة. بينما الجزء الأكبر الذي اعتمدته في عملي فقد توصلت به، عبر البريد الإلكتروني، بواسطة سيدة فرنسية وهي متطوعة يستهويها البحث في الأرشيف، التي ساعدتني، مشكورة، للحصول على هذه الوثائق. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الوثائق مكتوبة في الأصل باللغة الفرنسية وقد عمدت إلى ترجمتها وتبويبها وتقديمها بشكل يساعد على فهمها. هذا مع إعادة صياغتها وإدخال الملاحظات التي تتطلبها قراءة الحدث التاريخي في بعده الوطني.
وقد استعنت كذلك للتأكّد من مصداقيتها بالمقابلة الشخصية مع مسنين لا يزالون ملمين بالحفاظ على الذاكرة، وأيضا بالتقصي الميداني للوقوف على الأماكن التي جاءت في سياق الحديث. وهذه الوثائق في حاجة إلى معالجة من طرف مختصين وصيانتها لتكَوّن رصيدا وثائقيا عن المنطقة يعود إليه الباحثون، وإني أحتفظ بها، وهي مجرد صور، إلى حين ظهور الجهة الرسمية التي ترغب في تسلمها.
وتجدر الإشارة إلى أن مثل هذه المعلومات أصبح لها دور مهم باستثمارها، وتقريبها من القارئ لاعتبارها رأسمالا لاماديا يفيد في التدبير والتخطيط، وظهور ما أصبح يسمى في الأدبيات الاقتصادية ب”اقتصاد المعرفة”، وضرورة إشراك العموم في المعلومة التي نتوفر عليها.
هناك جانب آخر من مصادر البحث يكمن في الوثائق والرسوم الخاصة، والمراسلات المخزنية التي توجد في ملكية بعض العائلات المشهورة في المنطقة، وهي بدورها إما أصابها التلف أو اعتبرت لدى البعض كملك خاص وسر من أسرار العائلة، ولا يحق للغير الاطلاع عليه وكشف محتواه. ثم فيما يتعلق بالمراسلات المخزنية في إطار رسمي، التي كانت تربط فيما بين سلطات المخزن المركزي وأعوانه المحليين من قواد وأشياخ وأعيان وأشراف، والتي لاشك أن نظائرها توجد بخزانة الأرشيفات الملكية، لكن ولوج هذه الخزانة يتطلب جواز مرور، ولا يرخص به إلا لذوي البحوث الأكاديمية. وبعد إحداث مؤسسة أرشيف المغرب، أصبح هذا المرفق يعمل على جمع الوثائق الإدارية التي لم تبق سارية الاستعمال، مما سيفتح المجال مستقبلا للباحثين، سواء كانوا رسميين أو متطوعين.
وفي انتظار فتح الباب في مجال البحث والاطلاع، يبقى أمام الباحث المتطوع، التوجه إلى المصادر العادية، المتمثلة في الكتب التاريخية العامة وكتب الرحلات والروايات الشفوية، لجمع شذرات متفرقة ومحاولة الربط بينها وتمحيصها والتحقق من صحتها. وفي حالة تواجد عدة نصوص تصف نفس الحادثة، لابد من مقارنتها ببعضها، أو التطرق إليها جميعا وترك المجال للقارئ ليميز بينها.
أما الروايات الشفوية، ونحن نكتب تاريخ المنطقة خلال العصر الحديث، والذي تفصلنا عنه عدة أجيال، حيث الرواية فقدت العديد من خصائصها، وأضيفت لها صيغ تعبيرية أخرى تتسم بالذاتية، مما يجعلها تنحرف عن الموضوعية المطلوبة في التدوين للوقائع التاريخية. لقد أصبح الأمر يقتضي اختبار مدى صحتها ومطابقتها للواقع، وهذا أمر صعب، إذ كثيرا ما نجد الراوي يكثر من التمجيد والمنافحة حينما يسترسل في ذكر مناقب وخصال قبيلته، والتوجه بالذم والانتقاص من خصوم دواره وعشيرته، فيفرط في تفوق ذويه، والتشهير بعيوب الآخرين، وخاصة وأن القبائل في تلك الفترة، كانت تعيش في مشاحنات وصراعات مستمرة. ومع ذلك فمثل هذا العمل في جمع شهادات مسنين يعتبر ذا قيمة تاريخية لتدوين أحداث ووقائع تفيد في الربط بين الماضي والحاضر حتى لا يطالها النسيان.