الكُتَّاب الأكثر سعادةً في العصر الحديث.. القراءة غذاءٌ للرُّوح والجَسَد

الكُتَّاب الأكثر سعادةً في العصر الحديث.. القراءة غذاءٌ للرُّوح والجَسَد

 د. محمّد محمّد الخطّابي

   المداومون على القراءة.. هل هم أكثر الناس سروراً وحبوراً من هؤلاء الذين لا تستهويهم القراءة؟ وهؤلاء الذين تشغفهم القراءة، هل هم أكثر الناس تفاؤلاً من أولئك الذين لا  يقرأون؟
   ترى الكاتبة الاسبانية “إمّا رودريجيس”، أنه حسب تحليل معمّق أجراه الخبراء، بتكليفٍ من جامعة روما بايطاليا بعد إجراء استجوابات  لحوالي 1100 شخص لقياس درجات السعادة ومعدّلات التفاؤل في حياة هؤلاء الذين يقرأون، وأولئك الذين لا يقرأون، توصّل هؤلاء الخبراء إلى نتائج مفاجئة ومذهلة في هذا الشأن، مفادها أن القراءة تجعل المُقبلين عليها والشّغوفين بها بالفعل أكثرَ الناس سعادة وتفاؤلاً من سواهم،كما أنّها تعينهم على مواجهة الحياة  بشكلٍ أكثر جرأة وشجاعةً.

تغذية الرّوح في مستوى تغذية الجسم

   ويتساءل الخبراء: كيف نشعر، وبماذا نشعر، وما هي التغييرات التي تطرأ علينا عندما ننهمك في قراءة تاريخٍ مّا؟ أو ننغمس في قراءة رواية مّا؟  فتأكد لديهم أنّ للقراءة  تأثيراً بليغاً على أنفسنا وعلى توجّهاتنا واختياراتنا، حيث نرى الأبطال ونعايشهم، ويعكس هذا التأثير تناقضاتنا ومشاعرنا وتطلعاتنا، وتذكّرنا القراءة بأشياء وأفعال ومواقف وأحداث ربّما يكون الزمن قد أسدل عليها ستائره. الباحث الإيطالي “نوسّيو أوردينيّ”، يرى أنّ تغذية الرّوح هو في مستوى أهمية تغذية الجسم، ونحن في مسيس الحاجة إلى ملء هذا الجانب الذي أصبح يعرف فراغاً مهولاً في حياتنا المعاصرة، ويفتح أويفسح لنا الطريق إلى تلك التجارب والمكاسب، والمعارف، التي قد تفضي إلى منافع روحية واقتصادية. ويشير الباحثون أنّ العِلم الحديث يوفّر لنا أكثر من أيّ وقتٍ مضى عناصر الجواب بالنسبة للعديد من التساؤلات وعلامات الاستفهام التي تملأ حياتنا، ويخبرنا عمّا يحدث في عقولنا، وبشكل خاص في الجانب الأيسر في المخّ، وهو الجانب المخصّص للّغة، وذلك في الوقت الذي نكون منهمكين في قراءة كتاب، أو بعد الانتهاء من قراءته.  ويؤكد “كيث أوتلي” الرّوائي الكندي وأستاذ علم النفس المعرفي في جامعة تورونتو، على أنّ الأدب في مقدوره تغيير وتبديل وتعديل تصرّفات الناس بواسطة التأقلم، ويدفعهم إلى التعاطف مع أبطال الأدب  الجيّد والإبداع الجميل.

معضلات خلقية وعاطفية

   وترى الاسبانية أنتونيلا فاير بيريث العالمة النفسانية المتخّصصة في تدريب وتنمية المهارات القيادية: «أنه يصعب علينا يوماً بعد يوم أن نرتدي أحذية غيرنا، إلاّ أننا نجد سهولةً ويسراً في تقمّص شخصّيات أبطال إحدى الرّوايات التي سيطرت على عقولنا وحواسّنا وأخذت بمجامعنا». كما تشير: «أنّ بعض الدروس- التي نجدها في الأدب حول المعضلات الخلقية والعاطفية التي تواجهنا ـ ضرورية ولا مندوحة لنا عنها ، خاصّة لهؤلاء المشتغلين بالسياسة الذين يتحجّجون دائماً بأنْ لا وقت لهم، هؤلاء هم في حاجة ماسّة للابتلاء بهواية القراءة، حتى يتسنّى لهم الفهم بشكل جيّد وأكثر نجاعة تصرّفات الآخرين».

   ويؤكّد “ألاَنْ برَاوْ” المدير السابق لـ” فايننشال تايمز”: «أنّ قراءة أعمال الكتّاب العظماء تساعد الإنسان بشكل أفضل على اتخاذ  القرارات الإبداعية، والمثيرة للاهتمام». واقتناعاً واعترافاً من مؤسّسة لندنية تُعرف بـ”مدرسة الحياة” بمدى جدوى وفوائد ومنفعة القراءة كمحرّك أساسي للحياة فإنها تخصّص كتباً بعينها لروّادها للقراءة التي تساعدهم على التغلّب على الصّراعات. والنزاعات والمشاكسات والمصاعب في الحياة ، ويقول الكاتب الاسباني” سانتياغُو أَلبَا رِيكُو” صاحب كتاب “القراءة مع الأطفال”: «على الآباء أن يخصّصوا أوقاتاً لمقاسمة أو مشاركة أولادهم متعة القراءة كهواية محبّبة، ذلك أننا عندما نقف على الفوائد والمنافع التي نجنيها من جرائها فإننا لن نتركها أبداً بعد ذلك»، ويستدلّ الكاتب في هذا القبيل بقولة الرّوائي الأرجنتيني الشهير “خوليو كورتاثار” التي مفادها : «إننا عندما نذهب لنقرأ نكون كمن يذهب إلى الحبّ، والتعلّق بالحياة أو كمن يذهب إلى اللقاءات الأكثر أهمية في وجوده وحياته، وأحياناّ نكون كمن يذهب إلى الموت، مع العلم أن ذلك يشكّل جزءاً لا يتجزّأ من كل،ّ وأنّ أيَّ كتابٍ يبدأ وينتهي قبل أولى صفحاته وآخرها بكثير».

المبدعون الأكثر سعادةً وتفاؤلاً

   المعهد الاسباني للبحوث  وللدراسات «سونديّا» SONDEA أجرى من جهته دراسة استطلاعية مثيرة عن المشاعر التي تعتري بعض الكتّاب في مختلف أنحاء العالم، ومدى نصيبهم من  نعمة «السعادة والتفاؤل » التي يتوق إليهما الجميع، أو محنة «الكآبة والتعاسة» اللتين ينفر منهما الجميع، من الأسماء التي تصدّرت قائمة الأدباء الذين يعتبرون أكثر سعادة وتفاؤلاً من غيرهم  نجد في هذا الاستطلاع الطريف   اسم الكاتب البرازيلي باولو كويلو (الذي يحتلّ المرتبة الأولى)، ثمّ يليه مرتبةً الكاتب الاسباني أرتورو بيريث ريفيرتي، والمفكر والعالم الاسباني إدواردو بونسيت،.
والكاتب البيروفي ماريو برغاس يوسا وسواهم ، وتشير هذه الدراسة أنّ حوالي 90  في المئة من المشاركين في هذا الاستطلاع يؤكّدون على أنّ هناك علامات وأمارات تدلّ على سعادة الإنسان، في مقدّمتها الاستمتاع بعمق بالأشياء الصغيرة  والبسيطة التي تصادفنا يوما بعد يوم في حياتنا، ويعزو 82  في المئة من المستجوبين سعادة الإنسان إلى استمتاعه بصحّة جيّدة في حياته، و33 في المئة فقط من هؤلاء يرون أنّ صحّة الإنسان لها صلة مباشرة بالجينات الوراثية التي انتقلت إليه عن طريق أبويه وأجداده. ويرى 79 في المئة من الذين شملهم الاستجواب أنّ الشعور بالسّعادة هو أن يكون المرء راضياً عن جميع مظاهر حياته المعاشة، ويذهب نصف المستجوبين (50 في المئة) منهم إلى أنّ السّعادة تكمن في أن يكون في مقدور الإنسان تحقيق نزوة من نزواته، أو بلوغ طموح من طموحاته بين الفينة والأخرى. وقد طبّقت هذه المعاييرالمدرجة ضمن التصنيف الآنف الذكر، على مجموعة من الأدباء والكتّاب المشاهير في العالم، وكانت النتيجة كما يلي:

1- الكاتب البرازيلي المعروف باولو كويلو (بلغت مبيعات كتبه  ما ينيف عن  150 مليون نسخة) يتصدّرالقائمة  وبالتالي يحتلّ المرتبة الأولى في هذا التصنيف بفضل الأصوات التي منحها إيّاه  القراء الشباب على وجه الخصوص من المشاركين في هذا الاستطلاع الذين صوّتوا لصالحه.
2- الرّوائي الاسباني الشهير أرتورو بيريث ريفيرتي، صاحب رواية «مغامرات النقيب ألاتريستي»، يحتلّ المرتبة الثانية بفضل الأصوات النسائية التي صوّتت له على وجه الخصوص
بنسبة تفوق بكثير نسبة تصويت الرجال له.

3- المرتبة الثالثة  يحتلّها المفكر والعالم الاسباني الكطلاني المعروف “إدواردو بونسيت” (أسهم بقسط وافر في التعريف وتقريب المعارف العلمية الحديثة، وفي مجالات العلوم الاجتماعية، والبيولوجية والفلكية ومبتكراتها إلى المجتمع الاسباني بفضل كتبه وتآليفه العديدة في هذا الميدان،
من أشهر كتبه «رحلة نحو السّعادة».

4-الروائي البيرواني الشهير ماريو برجاس يوسا (الحاصل  على جائزة نوبل في  الآداب عام
(2010) جاء في المرتبة الرابعة، من كتبه «حضارة الاستعراض».

5- الروائي الكولومبي الذائع الصّيت الرّاحل جابرييل جارسيا ماركيز، صاحب رواية «مئة سنة من العزلة» الشهيرة (والحاصل على جائزة نوبل في الآداب العالمية كذلك عام 1982)، حظي بالمرتبة الخامسة ضمن هذا الترتيب بفضل تصويت كبار السنّ له بشكل خاص ضمن هذا التصنيف!
6- وحظي بالمرتبة السادسة ضمن هذا الاستطلاع الكاتب والشّاعرالاسباني المعروف أنطونيو غالا المعروف بتعاطفه مع الحضارة الإسلامية في الأندلس، وإعجابه الكبير بها (صاحب رواية «المخطوط القرمزي» وهي رواية عن آخر ملوك بني الأحمر في غرناطة أبي عبد الله الصغير.
7-  وكانت المرتبة السابعة في هذا التصنيف من نصيب الكاتب الرّوائي الاسباني الكبير كارلوس رويث ثافون، الذي يُعتبر من أهمّ الروائيين وأكثر الكتّاب الإسبان المقروئين في العالم في الوقت الراهن، وقد ترجمت رواياته إلى العديد من اللغات العالمية الحيّة، بما فيها اللغة العربية، من أعماله الروائية الكبرى: «ظلّ الرّيح» و«أسير السّماء». اللتان حققتا نجاحاً منقطع النظير.
8- وعادت المرتبة الثامنة في هذا الإحصاء للكاتبة البريطانية “جوان. ك رولينغ” (صاحبة الرواية الشهيرة «هارّي بوتر» التي نقلت إلى السينما بنجاح واسع)، وقد ظفرت بهذه المرتبة بفضل
تصويت الشباب لها على وجه الخصوص.

9- وجاءت المرتبة التاسعة ضمن هذا التصنيف  للكاتب البريطاني المعروف «كين فوليت» «(آخر روايتيْه «سقوط العمالقة»، و«شتاء العالم»)، ولقد حققت روايته الأخيرة هذه نجاحات باهرة من حيث المَبيعات.

 10- وشكّلت المرتبة العاشرة مفاجأة، سواء لمنظمي هذا الاستطلاع أو لمتتبّعيه، إذ كانت من نصيب الكاتب الاسباني العالمي مجيل دى سيرفانطيس ،صاحب رواية «دون كيخوته  دي لا مانشا» التي طبّقت شهرتها الآفاق، وترجمت إلى جميع لغات الأرض، ولقد باغت سيرفاطيس الجميع وهو يطلّ على زمننا الحديث بهامته من سديم القرون الوسطى (1547- 1616) ممّا يؤكّد أنه معاصرنا بلا ريب، وأنّه ما فتئ يتربّع بجدارة على عرش الرواية العالمية إلى اليوم.

11- وعادت المرتبة الحادية عشرة للكاتبة التشيلية المعروفة إيزابيل أليندي (صاحبة روايات: «بيت الأرواح»، و«باولا»، و«دفتر المايا») وسواها من الرّوايات الناجحة الأخرى، التي تبدو فيها وكأنّها خرجت  بالفعل من معطف غابرييل غارسيا مركيز كما يُقال!

12- وكانت المرتبة الثانية عشرة والأخيرة ضمن هذا الاستطلاع للكاتب الاسباني “إدواردو ميندوثا” الذي حققت كتاباته في المدّة الأخيرة نجاحات باهرة من حيث المَبيعات، كما ترجمت بعض أعماله الروائية إلى أزيد من عشرين لغة حيّة منها اللغة العربية، من أنجحها  وأوسعها إنتشاراً روايته التي تحت عنوان «مدينة الأعاجيب» (ترجمة الراحل المرحوم  صالح علماني)، من رواياته الأخرى كذلك: «عام الطوفان» و«الحقيقة حول قضيّة سافولتا» و«متاهة الزيتون» وسواها من الأعمال الروائية الاخرى الناجحة .

   ويلاحظ ممّا سبق أنه لم يحظ بالفوز، أو التصنيف، أو التنويه في هذا الاستطلاع أيُّ كاتبٍ أو روائيٍّ عربيّ معاصر، وكان حظّ الكُتّاب والرّوائيين الاسبان فيه  وافراً بشكلٍ ملحوظ  حيث كان لـ 6 منهم من  مجموع 12 كاتباً عالمياً  نصيب الأسد فى هذا الاستطلاع.

   يقول الباحث محمد عبده العباسي: “القراءة بالنسبة للمرء هي تلك العوالم السحريّة التي تأخذ بألبابنا وتلابيبنا وتجعلنا نهيم بحروفها ووقائع لم تدر بخاطرنا فتجعلنا ندور في فلكها دون سأمٍ ولا ملل، عاشق القراءة إنسان سويّ يخلق لنفسه اللحظات الأكثرسعادة  لكي يستمتع بها في ظلّ اتّساق نفسيّ يسعده، والفارق بين القارئ وغير القارئ كبير، وليس هناك أيّ مجالٍ للمقارنة بثقافته ووعيه وحضوره وفهمه لمجريات الأمور من حوله، فكم عرفتُ من أناس حصلوا علي أعلي الشهادات ولكنّهم لم يحصلوا علي ثقافة رجلٍ عادي لم يتبوّأ مقعداً ولا منصباً لكنّه بالقراءة المتوالية  ثقّف نفسَه بنفسِه وعاش سعيداً”.

Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا