احتفاء عربي بمجموعة “سيرك الحيوانات المتوهمة” الفائزة بجائزة الملتقى للقصة العربية (2- 2)

احتفاء عربي بمجموعة “سيرك الحيوانات المتوهمة” الفائزة بجائزة الملتقى للقصة العربية (2- 2)

ملف بمساهمة:

محمد الفخراني (مصر)،

د.محمد عبيد الله (الأردن)،

معن الباري (فلسطين)،

د.شريف صالح (مصر)،

د. فدوى العبود (سوريا)

 

د. محمد عبيد الله (ناقد وأكاديمي من الأردن)

سيرك الحيوانات المتوهمة: قصص تجريبية على خطا ابن المقفع وبورخيس 

أقرأ في كتاب صديقنا القاص العربي المغربي أنيس الرافعي (سيرك الحيوانات المتوهمة) ،الذي نشرته دار خطوط وظلال، في عمان، ونال مؤخرا جائزة الملتقى للقصة القصيرة في دورتها الخامسة، وهي أرفع جائزة لهذا النوع الأدبي في المنطقة العربية ، من ناحية قوتها المعنوية وسمعتها الأدبية.

أحب أن تكون هذه الإضاءة تهنئة متجددة لهذا المبدع الذي أقدر تجربته وإسهامه النوعي في تجديد القصة القصيرة قبل نيل الجائزة وبعدها.الملاحظة الأخرى أن (سيرك الحيوانات المتوهمة) هو كتاب قصصي، موحد، رغم تقسيمه إلى قصص أو فصول قصصية، وهو بذلك يسهم في التمرد على الشكل التقليدي لما كنا ندعوه بالمجموعة القصصية، دلالة على قصص مجموعة في كتاب. أما الكتاب القصصي فإن الروابط الجامعة بين فصوله أو مكوناته أقوى بكثير من المجموعة، وهو غالبا ذو بنية كلية تشترك المكونات الفرعية في تقويتها وإبرازها. ولذلك فلهذا النوع من الكتب تصميمها الخاص وأسلوبها المختلف، وخطتها الفنية المحكمة، ذلك أن بناء كتاب موحد يختلف عن جمعه من مكونات متفرقة لم تكتب ضمن خطة فنية موحدة أو مصممة سلفا.

الملاحظة الثانية أن هذا الكتاب يجدد تقاليد غير هينة في الموروث القصصي القديم والحديث، فيمكن للقارئ أن يرى فيه مطاردة ضمنية لبعض ملامح صنيع ابن المقفع في كليلة ودمنة بوصفه أصلا من أصول تقديم الحيوانات والطيور بصورة كنائية ورمزية، فمثل تلك الكائنات تصول وتجول وتتكلم وتصيح وتتعارف وتتعارك، ولكنها تنتهي دلاليا في عالم البشر. كما يذكر كتاب الرافعي بــ (حياة الحيوان الكبرى) للقزويني، ولتراث واسع من المصنفات العربية التي قدّمت صورا سردية وأسطورية للحيوانات الواقعية والمتخيلة. كما يدين هذا العمل من بعض الجهات إلى أثر حديث من آثار بورخيس الذي لا يخفى على القارئ تفاعله مع الآثار والسرديات العربية ومنها سرديات ابن المقفع وقصص الجن والكائنات الخرافية العربية وغير العربية، وأقصد عمل بورخيس المعنون بــ (كتاب المخلوقات الوهمية) الذي تعاون في إنجازه مع مرغريتا غيريرو، بهدف إنجاز سجل أو معجم للكائنات المتخيلة أو غير الواقعية، وترجمه إلى العربية بسام حجار. كما يمكن أن نرى فيه خيطا يربطه بديوان (تنبيه الحيوان إلى أنسابه) لسليم بركات، بل كتب أخرى لبركات المولع بعالم البراري وبلاغة حيوانها وطيرها في استعادته لجبال الكرد وأريافهم القصية.

وما نشير إليه من روابط مجرد أمثلة على ما تقتضيه الكتب القصصية الجديدة من ثقافة ومن ذائقة، ومن تصورات مختلفة عن العالم والوجود، وكيفية معاينته من زوايا جديدة، ومن فهم مختلف للقصة القصيرة.

الملاحظة الثالثة أن كتاب الرافعي بدأ بعنوان استئنافي مبني على العنوان العام للكتاب (تذاكر مجانية للدخول إلى السيرك) فكأن أمر السيرك وهو أمر متخيل في الكتاب، قد غدا نقطة ارتكاز أو نقطة واقعية من الناحية الفنية، وما يفعله الكاتب والكتاب هو الإغراق فيها والاستغراق في تفاصيلها. المهم أن هذه التذاكر ما هي إلا (شذرات، تأملات، خواطر، أحلام، هوامش، قصيصات، وخطابات موازية) كما شرحها في جملته الشارحة تحت عنوان الفصل التمهيدي. ويمكن أن نعد هذا الفصل مقدمة تؤطر الكتاب وكأننا أمام بنية إطارية، تنفتح هنا على  كتابة شذرية وتتكون من (120 شذرة أو فقرة تتكون بعضها من فقرة أو أكثر وبعضها من سطر واحد)، لا ينكر  المؤلف حضوره الصريح باسمه الشخصي في الجزء الافتتاحي، وكأنه يكسر الحاجز بين القصة والسيرة الذاتية والمتخيل الذاتي، ويذكر في شذراته إيضاحات وتعليقات مهمة، ويسمي  شخصيات وأسماء حقيقية، منهم الرسام والفنان محمد العامري الذي شاركه في تجسيد هذه التجربة وتمثيلها بالرسوم المتقنة المتداخلة مع النصوص القصصية. وإذا كان السيرك قد انفتح بهذه التذاكر فلا بد من إغلاقه في نهاية الكتاب، فهذا تقليد القصة الإطارية، ومصداقا لهذا انتهى الكتاب بعنوان استفهامي: (كيف يمكن إغلاق السيرك؟). ويقدم فيه صياغة جديدة لنهاية الكاتب الإيطالي (دينو بوتزاتي) إذ انتهى الرجل عندما قامت المخلوقات الشنيعة التي اخترعها في كتابه الأخير بالتهامه!! هكذا يختلط الواقع بالخيال، والممكن بالمستحيل في نسيج غرائبي واحد.

وما بين الإطار الافتتاحي والإطار الختامي يكتب أنيس الرافعي (مونولوغات) على ألسنة الحيوانات المتوهمة والمتخيلة، كأنما هي في مسرح السيرك، يتوالى دخولها وتعريفها بنفسها بطريقة ممسرحة مرمزة. وجميع هذه الفصول تقع ضمن هذه الطريقة المونولوجية، ولكنها أيضا لا تخلو من تنويعات باختلاف نوع الحيوان واختلاف دعواه ومحمولاته الدلالية.

الكتاب حقا كتاب قصصي مثير للاهتمام، وللمتعة السردية، ولقد أضفت رسومات العامري جمالا على جمال فكسبنا كتابا جديرا بالتقدير والقراءة والاهتمام.

وما سبق دعوة للقراء والنقاد للاهتمام بهذا الكتاب، وللالتفات إلى جماليات القصة العربية التي غطى انتشار الرواية وانشغال النقاد بها كثيرا من فتوحاتها التجريبية والجمالية. مبارك لأخي أنيس الرافعي هذا التميز والإبداع.

***

معن البياري (كاتب و إعلامي من فلسطين)

سيرك حيوانات أنيس الرافعي

يعرّف المغربي أنيس الرافعي (1976) كتابه الحادي والعشرين “سيرك الحيوانات المتوهّمة…” (خطوط وظلال للنشر والتوزيع، عمّان، 2021) على الغلاف بأنه “حقيبة رسومات ومنولوجات”، وبأنه “سرد”. ولا إشارة، حتى في التعريف الداخلي به، إلى أنه قصصٌ قصيرة. وهو يضمّ، بعد 120 من الشذرات والتأمّلات والخواطر والقصيْصات و…، سرْد 30 حيوانا 30 منولوجا يمكن حسبان كلٍّ منها أيضا حكايةً أو كلاما طلْقا أو استرسالا، غير أن ثمّة حذرا في الكتاب المتفرّد من أن تُسمّى هذه السرود قصصا قصيرة. ومفارقة المفارقات، الباهظة الإيحاءات والمغازي هنا، أن هذه النصوص الثلاثين، وكذا التذاكر المجّانية للدخول إلى السيرك، على ما سمّى أنيس الرافعي تلك التقدّمات (الشذرات و…)، تُحرِز جائزة الملتقى للقصة القصيرة، الإثنين الماضي، متفوّقةً في هذا على 240 مجموعة قصصية تنافست على الجائزة المقدّرة التي ترعاها جامعة الشرق الأوسط الأميركية في الكويت، ويشرف عليها القاص والروائي الكويتي، طالب الرفاعي.

وبذلك، يكون حقيقا بإعجابٍ خاصٍّ ما يصنعه أنيس الرافعي في سُروده هذه، أنه يرجّ، أو يُخلخل في اعتبارٍ جائز، المفهوم المعهود للقصّة القصيرة، أن “قصصَه تتحدّى القارئ في وعيه، وتُزعزع لديه أعراف التلقّي التي رسّخها فنّ القصّ التقليدي”، على ما قال، محقّا تماما، رئيس لجنة تحكيم الدورة الخامسة لجائزة الملتقى للقصة القصيرة، عبدالله إبراهيم، في كلمة حفل إعلان “سيرك الحيوانات المتوهّمة …” عملا فائزا بالجائزة، وتكريم الرافعي وزملائه في القائمة القصيرة. وفي قولٍ آخر، يرى كاتب هذه السطور أن صاحب “الشركة المغربية لنقل الأموات” (2011) يتحدّى نفسَه في هذا العمل، الذي يواصل به “مشروعا قصصيا” يعكف عليه بدأبٍ ومثابرة، ويمضي فيه مُحقّقا، من مجموعةٍ إلى أخرى، نقلاتٍ مفاجئةً أحيانا ونابهةً غالبا، منذ أول مجموعاته “فضائح فوق كل الشبهات” (1999)، وصولا إلى “السيرك” الأخّاذ الذي شاركه فيه بحقيبة رسوماتٍ التشكيلي الأردني محمّد العامري، فصِرنا أمام عملٍ لا يكتفي بمناوشة الأجناس السردية وأنواع الحكي، وبعمائر من القصّ، صُغرى وغير صُغرى، تنهضُ على مزاوجة الواقعي بالعجائبي، وتداخل الغريب بالمعهود، وتشابك الحقيقي بالتخييلي، وتوازي الحُلُمي بالمعيوش، وإنما أيضا تُؤاخي مع الرسم وضربات الريشة، لنصيرَ قدّام “ساردٍ يختلق الحيوان وفنّانٍ يروّضه بالألوان”، على ما قرأنا في واحدةٍ من التذاكر المجّانية للدخول إلى سيرك الحيوانات “الرمزي الكرنفالي”، على ما يخلع أنيس من صفاتٍ على الذي كتَبه وأفضى به. ولمّا اجتمع المكتوب مع المرسوم، يفيدنا بكأنّه “بمحمّد العامري لا يرسم أجساد الحيوانات، وإنما أرواحَها المتخيّلة”.

شذرةٌ، أو واحدةٌ من التذاكر المجّانية للدخول إلى السيرك، “القصّة القصيرة أن تُخفي بقرةً داخل قبّعة ساحر”. وهذا قولٌ مستفزّ للمخيّلة وللذائقة، ولكل خبرةٍ في مطالعة القصص القصيرة، بل ولفعل القراءة نفسه أيضا. والسحر في واحدةٍ من إحالاتِه لعبٌ واحتيالٌ وإدهاش. وأنيس الرافعي في الذي يأخذُنا إليه، مجّانا بالتذاكر تلك، يصنع سيركا “لا تنتهي أبدا عروضُه، مثل آلة كمانٍ لا تجفّ منها الألحان، تعزف لوحدها إلى ما لا نهاية، حتى من دون وجود أيّ عازف”. وفي هذا احتيالٌ ظاهر، أداتُه اللغة، وما يأتيه اللعب في مساحاتها التعبيرية التي يجول فيها أنيس الرافعي، من دون أن تُغويه شِعريّاتٌ أو استعارياتٌ أو مجازاتٌ مُفرطة، فاللغة في منولوجات الكركدن والكنغر والتمساح والقندس والسحلية والبلشون (طائر) وآكل النمل والنمر والدبّ والحمار الوحشي … محضُ وسيلةٍ ليفيض الواحد من هؤلاء مما فيه عن حيرتِه وتحوّلاته وخوفه، وعن وقائعَ غَشيتْه وأحاسيسَ استشعرَها، يسرُد عن هذا كله وغيره، يسترسل ويوجِِز، يُخفي ويشطَح، يوضِح ويُلغز. وفي كل الحالات، ثمّة قصّةٌ، حكايةٌ منسرحة، لا أغالي لو كتبتُ هنا إن البديع فيها هو الإدهاشُ في تمثّل النصّ الحيوانَ الذي يحكي. يقول القندس: “كأني طبّالٌ يقرع جلد الماء، لم أنقطع عن الرجّ حتى استنفرت الجميع”. يقول الضفدع: “…، وبعد أن انقلبتُ مجدّدا على بطني بصعوبةٍ عسيرة، رغبتُ أن أوجّه أمرا لأرجلي، فوجدتُ أن رقبتي هي المستجيبة، …”. يقول القرد: “…، وقبل أن أغلق التابوت على نفسي بقبضتيّ الذابلتين، وتحلّ دهمة العتمة، تكرّمت فتاةٌ حسناءُ بوضع باقة زهور، ثم التقطت لي صورة باسمة بأسناني الفولاذية الكبيرة”.

في “سيرك الحيوانات المتوهّمة …” قصةٌ قصيرةٌ عربيةٌ مُغامِرة، جديدة، تفرض على كتّاب النقد تحدّيا ثقيلا، والمغامرة الحكائية هنا تجري في “حلبةٍ دائريةٍ لعروض الأجناس والأنواع الأدبية النطّاطة” على ما صدق أنيس في ما كتب.

***

فدوى العبود (أدبية وناقدة من سوريا)

سيرك الحيوانات المتوهّمة

الرحلة الماراثونية للكائنات الخرافيّة

بورخيس: كم هو مؤسف أنك لم تولد نمرًا

استيقظ جريجور سامسا ذات صباح فوجد نفسه قد تحول إلى حشرة.

ليست هناك دلالة أبلغ على عصرنا من هذه الاستعارة التي تجسدها عبارة كافكا، والتي تدل على عالم حديث جداً، لا يمكن مناقشة اللامعقوليّة التي تسود عالمنا الحديث، فالأسئلة هرِم بعكاز. عاجز حتى عن رد الحجارة التي يرميه بها صبيان زمن عابث. فهل تستطيع النية الحسنة منع سيل العالم الهادر ووحل التشيؤ عن روح الإنسان؟

 ربما نستطيع عبر تعويذة، قلب مسار العالم!

نفهم الآن لماذا نصبح نموراً عند (بورخيس)، مهرجين فوق مسرح (شكسبير) أو زوار غابة بحسب (أمبرتو ايكو). استعارة في قصائد (بابلو نيرودا)، أو حيوانات مفترسة في “كليلة ودمنة” بحيث يتحدث الحيوان بصوت الإنساني ويعبر عن نزعاته وشره ومكره وقلة حيلته.

ينتسب كتاب “سيرك الحيوانات المتوهّمة” إلى الكتابة التي تحارب اللامعقولية فالأخيرة تتقدم في العالم دون وجل، ولا تعويذة تحمي من سخريتها ولا مبالاتها سوى الكتابة، ولا مجاز يستطيع التعبير عنها إلا باختراقها في أدق جوانبها خفاء، وكما يصنع الصياد شراكاً للحيوانات سوف يتحول السرد إلى مصيدة لكل مباين ومفارق للوجود الإنساني في معناه الأعمق.

لذلك يصبح العالم سيركاً، يلطى فيه الإنساني داخل هيئات حيوانية. ولعل التواري هي ما يسم هذه التجريبية، لأن العالم أحجية وحلها يتم لا عبر نزع القناع لكشف الهيئات المتوارية للرثاثة، بل عبر الالتفاف عليها ثم تهشيمها. (فالأحجية ليست لغزاً لؤلؤه الحكمة؛ إنها سخرية الوجود)

“كل ما يجري داخل هذا السيرك من وقائع خيالية مستوحى بالأساس من أحداث حقيقية”

بهذه الشذرة يفتتح القاص المغربي أنيس الرافعي كتابه القصصي “سيرك الحيوانات المتوهّمة” وبعنوان فرعي

حقيبة رسومات ومنولوجات/

سرد

إن القارئ معفيٌّ من البحث عن تجنيس لهذا النص، بإمكانه أن يقرأ رسومات الفنان محمد العامري بصريًا، ويمكنه التجول في أروقة السيرك والتقاط شذراته وتأملاته وخواطره وخطاباته الموازية لكنه ليس معفياً من إعمال الخيال وطاقات الروحي والفكري معاً في هذا السير؛ الذي يقوم على المزج بين المونولوج وبين اللوحة البصرية والتي يمكن قراءتها مستقلة عن النص. وثمة خيار ماثل في اشتباك اللوحة والنص كما أن إمكانية العراك والمباينة بين -حيوانات المنولوجات السردية، وحيوانات محمد العامري الملونة-متاحة.

هذا التشابك بين السردي والبصريّ، يذهب إلى منطقة جديدة، تجعل القارئ يشعر بأنه جوّابٌ في العالم روحاً وجسداً وتخيّلاً عبر إسقاطات ودلالات يمكن أن تتداعى إلى ذهنه أثناء القراءة.

إنــــــّه سيرك الوجود اللاّهي دون أقفاص سوى تلك التي من صنع الروح. وفوق مسرحه حيوانات مألوفة وغير مألوفة إنها مزيج بين الحيوان والإنسان كما يخلق العالم الحديث من الأخير والآلة كائناً جديداً (السيبورغ)

لقد افتتحت هذا المقال بالإشارة إلى رواية “المسخ” للكاتب فرانز كافكا، فالاستعارة عنده تعبر عن حال إنسان اليوم الذي يعيش في فقاعة صلبة، فالسيولة التي بدأ بها العالم الجديد الغير شجاع تحولت إلى جليد، إن جولة صغيرة على حافلات النقل توضح هذه الفكرة فالناس يسيرون نحو ما يراد لهم من مكننة، إنهم كالآلات، أرواح معلّقة بأجهزة حديثة. فقدت مغزى وجودها فبحثت عن بدائل هشة ومؤقتة.

ولكن، لو أعطي الحيوان فرصة ليسرد فما اللغة التي سيكلمنا بها! إن مجرد تسرب الإنساني إلى الحيواني في سيرك الحيوانات لهو ذو دلالة بالغة!

وعلى العكس من كليلة ودمنة حيث يتم الاستعانة بالحيوان للتعبير عن واقع الإنسان يتم هنا قلب الأدوار، بحيث نعثر على النزعة الانسانية في قلب كل حيوان نقرأ في إحدى الشذرات “في بحيرة كل إنسان يختبئ وحش “لوخ، نيس” أسطوري”

تمتثل اللغة عند القاص أنيس الرافعي لفكرته حول هذا السيرك الكوني، لذا يشحنها بعاطفية تجعلها أقرب للسخرية والعبث، فما اللغة إن لم تسخر من العالم وتبتكره!

 إنها تراوغ قارئها وتشاغبه عبر افتراضاتها ومن خلال التواري خلف شجرة الفكاهة بقلب معاني الكلمات مرة، وفي استدعاء شخصيات أدبية (اليخاندرو خودروفسكي نبّاش الأرواح-فرناندو آرابال الغرائبي المجنون كي يتولى حراسة كواليس السيرك)؛ وعبر تشبه الحيوان بالسلوك الإنساني ما يجعل الاخير مشكوكًا فيه؟

نقرأ في الشذرة 91 “الحيوان الذي يصعب القبض عليه هو الإنسان، قناصه الوحيد هو الردى”

إن السقف الأعلى في اللامعقولية هو التواري والفكاهة وتفكيك معنى هذا العالم المخيّب للظن، فالاستعارة بالمعنى الذي أرادها لها: نيرودا تأملٌ حالمٌ في اللغة

لكنها هنا، سخرية تقوم على بناء جماليّات مضادة للمألوف، جمال يقوّض وينقض ويختَرِمُ روح الوجود. نقرأ في إحدى الشذرات “خلف كل سيرك للحيوانات المتوهمة توجد مقبرة لا مرئية، وخلف كل مقبرة لا مرئية يوجد برلمان للأوغاد”

تعرض أمامنا المرايا والصور المتكاثرة للإنسان الذي يصبح الكل ولا أحد؛ لقد استلت روحه بمسلة عالم صناعي ومدن متناسخة، وهو الذي تقمص آلاف الصور حتى فقد الأصل.

ننتهي من جولتنا الشذرية بتذكرة دخول: “رجاء ادخل إلى السيرك بثقة فلن التهمك”

فنعثر على (الجرذ، الفيل، الأفعى، القندس، الكناري، الخنفساء وغيرها) وتُحيل كل دلالة منها على رمز ويمثل كل مونولوج حالة وجودية من حالات الكائن.

يمكننا قراءة النصوص دلالياً، كمونولوج الحوت كنايةً عن التوجه الحتمي للإنسان نحو خاتمته، إن رحلة الإنسان هي رحلة ضياع الحوت في عباب البحر، وعبر الموازاة بين تجريد الحوت من العنبر (بلورات العنبر غالية الثمن المستقرة كالكنز في تجويفنا الدماغي، وتجريدنا من ملكاتنا الإنسانية.

هذه الرحلة الماراثونية لنصل إلى “غروميس” وهنا يجري قلب للكلمات، فما غروميس سوى الكائن الخرافي في منطق الطير إنه “السيمورغ”

تنشغل “سيرك الحيوانات” بالبحث عن الحيوانيّ في الإنسان عبر مونولوج إنساني بفم الحيوان الذي يتقمص خصائص إنسانية (القباحة، المكر، الخديعة، التحلل، الخبث)

تساهم اللوحات والرسومات التي تتقمص فيها الحيوانات نظرات إنسانية في قراءة بصرية موازية للقراءة السردية أو مناقضة.

سيرك الحيوانات المتوهمة نص تجريبي، يتوارى في أعماقه موقف وجودي من السلطة والميتافيزيقا ومن الكائن المشوه العولمي. فالوجود (هذا السعير) جحيمٌ حقيقيٌ لا يمكن مواجهته إلا بتسعير ناره حتى يصير رماداً.

في “مونولوج الضفدع” نعثر على الإنسان الذي خربت منعكساته فعجز عن السير والتفكير؛ وفي مونولوج الديناصور: يمكننا وعبر تقنية الواقع المعزز تشكيل واقع اندثر. بهذا يتراجع الواقع من أجل شبه الواقع والإنسان من أجل شبه الإنسان.

<

p style=”text-align: justify;”>أخيراً يغلق القاص المغربي أنيس الرافعي السيرك، بتلويحة محبة للكاتب دينو بوتزاتي الذي كان آخر ما كتبه يتعلق بحيوانات عجائبية، وقد ذكّرنا بمخلوقات بورخيس العجيبة، لتضاف للتخييل متعة رابعة؛ تمثل في رؤية مخلوقات كل كاتب ضمن سياق وجوديّ ونفسيّ، مختلف ومفارق للآخر. أما نحن سندفع تذكرة السيرك المتخيل لكننا موعودون بالمتعة والاكتشاف والغرابة التي تجعل من “الحيوانات المتوهّمة” صورة مكبّرة للوجود بين ضفتي كتاب.

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة