الفظيع بعيون نسوية في “سيرتنا” (3-3)
لحسن أوزين
4- الاحتفاء بالألم البشري وتكريمه
“خمسة عشر عاما مضت في بلادي وأنا أحاول أن أمسك ولو بشعرة واحدة من شعاع شمس أحلامي الكبيرة، أصارع طواحين الهواء في رحلة دون كيشوتية، أحصد فيها خيباتي وأفقد العد من كثرتها. سئمت من رؤية عجزي وضآلتي في وجوه الفقراء الشاحبة وأنا أراقب كل هذا البؤس والقهر الذي يحيط بهم، خمسة عشر عاما فقدنا فيها أكثر من مليون ونصف إنسان في الحروب والحصار أكثرهم كانوا أطفالا، كنت أشهد تساقطهم كأوراق الخريف عاجزة لا أملك حتى أن أمنح أحدهم أملا في ربيع قادم”. 117
نصوص “سيرتنا” لا تخشى مواجهة الفظاعات التي واجهتها بقوة وصلابة، وبضعف وهشاشة أيضا. الكتابة تتأمل متنها، جسدها العاري، قصصها الواقعية التي نسجها الفظيع الشمولي، من إيرتريا، السودان، سوريا، العراق…
تعاود الكتابة اللقاء بالفظاعات التي عاشتها بالحديد والنار، قلقا وخوفا، رعبا وإرهابا، قتلا وتهديدا بالقتل. تعود الكاتبات الى التجربة، وهن يحدقن بوعي مفعم بالألم والفرح، ليس على أنهن ناجيات من شر الموت في البر أو في البحر، أو في محطات العبور، ومدن المنفى، بل لأنهن أردن الاحتفاء بالألم البشري وتكريمه. جعلن من أنفسهن مرايا حارقة نازفة بشر المأساة العارية من أي قانون إنساني، وفي لحظة كان فيها العالم شاهد زور، والقانون الدولي ومؤسساته، كان في قيلولة ساهيا عن قصد مصلحي أناني ضيق عن جرائم حرب واستبداد وقهر فظيع ضد الإنسانية.
كل نصوص الكتاب تحتفي بهذا الألم البشري وتكرمه، من خلال الكتابة كفعالية إبداعية. تحرر شغاف القلب من العذابات المكبوتة، والأعماق النفسية المجروحة. تساعد دواخلها على البوح الأصيل، حتى لا تتحول الجراح الى ندوب تحول دون العافية والخلاص من سطوة رعب التجارب المؤلمة التي عاشتها على فترات صعبة لا تقاس بالزمن البشري العادي في وقت الهناء والسلام، أوفي ظروف الحياة العادية مهما كانت شاقة وصعبة.
كل المحن والبشاعات كانت محرقة مؤلمة، في الرحلات المجهولة المحفوفة بالمخاطر، مشيا على الأقدام. وأثناء الانتظارات الفظيعة لقوارب الموت، في البرد والظلام، ومع الأطفال يتضاف رعب الألم حافرا أخاديد نازفة. وفي مخيمات اللجوء، وفي أجواء المذلة والمهانة والتعامل اللاإنساني حين يتم رفض حق اللجوء. ذكريات وذكريات لا تقف عند الشهادة على الذات وما عاشته من محن وآلام. كما لا تشهد فقط على الآخرين، رفاق المحنة والغوص في الرعب الفظيع للمجهول الوحشي، قرين الموت الذي يترصد خطواتهن الخائفة المذعورة، الباحثة عن ممرات للأمان والهروب برفقة أطفالهن. بل تحفر الكتابة عميقا لتستجلي الرؤى النفسية الداخلية التي استطاعت في لحظة صغيرة في الزمن رؤية صور الاخرين الذي واجهوا بألم فظيع مخالب وشراسة وحشية الموت التي لم ترحم قلوبهم الخائفة المتوسلة، الراجية للرحمة والشفقة، في لحظة لم تكن السماء معنية بما يحدث في البر والبحر من مآسي وفظاعات. “ذكريات تتخبط في نفسي وعقلي، أستطيع الآن رؤية وجوه الناس الذين ماتوا قبلنا، أراهم في هذه الأمواج، وأستطيع أن أميز ملامحهم الواضحة في البحر. أجل، يمكنني التعرف عليهم، فقد عاشوا هذا الرعب المخيف من البحر وأمواجه القاتلة”. 116
إنها سيرة مرعبة مؤلمة لا تتوخى بطولة النجاة، بقدر ما تسعى بوعي حارق الى تمثيل فظيع للفظيع. جعله حقيقيا ملموسا وفي متناول الذات، أولا، التي عانت وتألمت الى حد أن استعصى عليها التعبير والكلام، وفي متناول القراء ثانيا. وفي هذا الشكل من الكتابة تكمن فتنته وسحره العجيب. أي، امتلاك القدرة الإبداعية في جعل التجربة والخبرة كلاما مقروءا مسموعا، متحررا من السجن الداخلي للقهر النفسي الذي ولدته المحن والآلام. هكذا تكون الكتابة حقلا للمقاومة وحفظا للذاكرة حتى تستفيد البشرية مما جرى، تجنبا لعدم التكرار.
5- الكتابة وتملك الفظيع، والاقتراب منه، بدل التجنب والنسيان
يمكنني القول إن نصوص “سيرتنا” قد أفلحت في الاقتراب من مختلف المحن والآلام التي سببها الفظيع بشكل مباشر، أو قاد خطوات ومصائر الناس العزل الأبرياء مكرهين نحو الجحيم، نحو اختيارات فظيعة كان الموت حاضرا فيها بقوة رهيبة.
يشعر القارئ، رغم قسوة وفظاعة التجربة، بسحر الكلام/الكتابة، في النيل من الفظيع، في جعله موضوعا قابلا للكشف والتعري، الى حد فأق عيون فظاعته، وهي تقوده نحو المسلخ، لنزع أقنعته، وتأمل حقيقته الإجرامية. تبسط النساء الحديث حول الكم الهائل من الآلام والعذابات التي عاشوها برفقة أطفالهن، وأقرب الناس إليهن، والآخرين. تأتي الكتابة على ما تم كبته في الداخل من وجع فظيع، كله فقدان أعز الناس. و الخيبات والخسارات التي اغتصبت الروح والعمر، ودمرت كل الأواصر والعلاقات وأنماط وأشكال الوجود الاجتماعي والإنساني. وخرب خزان الذاكرة والألفة مع الأمكنة والأزمنة والبيوت والأشجار…، وكل مان له دلالة ومعنى في بيوغرافية الناس، في هويتهم وتاريخهم الفردي والجماعي. تقترب الذاكرة والجوارح والأعماق النفسية الى هذا، بتوسط من الكتابة كآلية لترميم الذات ودعمها للوقوف مجددا في وجه خبرة الفظيع، دون قلق ولا خوف.
مع سيرورة القراءة من نص لآخر، يتشكل وعي نقدي حاد، وغضب يخالطه حقد دفين تجاه رعب المآسي والفظاعات التي صارت جزءا من ذاته. حيث لا يمكن أن يقول لا أعرف، بل صار معنيا بما حدث وله ألف صلة بشكل أو بآخر بالضحايا كيف ما كانت هوياتهم. قوة الكلمة، العبارة، الكتابة في شكلها الأدبي، منح “سيرتنا” قدرة القبض فنيا على الفظيع، وتملكه، من خلال منطق الكتابة وآلية اشتغالها الجمالي الإبداعي.
وبذلك تم التحكم إبداعيا في كل المحن والفظاعات التي عاشتها النساء. واقتربن منها بجرأة أدبية، كان فيها للورشات واللقاءات الدور الحاسم في تملك التجربة والاقتراب منها، بعيدا عن فوبيا التجنب والنفور. فالبوح/الكتابة بهذا الشكل، وفي هذه السياقات الاحتفائية بالألم الإنساني، وتكريمه جماليا وفنيا، يمنح للذاكرة امتيازا نوعيا، وانتصارا كبيرا على الصمت والنسيان.
6- تحويل الفظيع من مدمر الى علاقات التقارب والمشاركة والتمثل
هكذا استطاعت الكتابة في “سيرتنا” أن تكون فعالية نفسية في تمثيلها لخبرة الفظاعات والتحديات، وهي تجعل الأبعاد التدميرية للتجربة التي عاشتها النساء أرضية للتضامن النسوي، والإنساني. تدخل النساء في حوار صريح ومؤلم مع ما ترسب في الأعماق من آلام وعذابات حفرتها بشاعة الشر السياسي للديكتاتوريات المحلية، والجماعات الإرهابية الدينية، الى جانب الفظاعات الاجتماعية والثقافية والأخلاقية التي رافقت محطات العبور برا وبحرا، في استغلال بشع وقذر لظروف الناس الهاربين من ويلات الشر. وفي هذا الحوار الداخلي ترمي النفس بكل الحمم الحارقة التي تستنزف الذوات، وتنهك طاقتهن في التستر على التجربة كما لو كانت فضيحة اجتماعية أخلاقية. يلمس القارئ تقارب الذات مع نفسها، وهي تصبح كثرة في قدرتها على البوح والاعتراف، في الوقت نفسه، بمناطق الظل الهشة، وبعظمة الإنسان في قدرته على التغلب على المحن، وهو يمنح معاني لكل الآلام والعذابات التي سببتها محرقة الفظيع المتعدد الوجوه والأشكال الشريرة.
تتحول التجربة القاسية الى شكل من العلاقة مع النفس والآخر، كقارئ تستهدفه الكتابة، وهي تضعه أمام مسؤولية صعبة، في حساب عسير مع نفسه وهو يواجه سؤالا مؤلما لا مفر منه: ها قد عرفت فما حجم مسؤوليتنا فيما حدث؟ والفظيع أليس منا اجتماعيا وثقافيا، وقابعا في موروثنا الثقافي والسياسي والديني، وفي تصوراتنا ومعتقداتنا، وفي نوع علاقاتنا الاجتماعية الأبوية بمركزيتها الذكورية…؟ وتنفتح الأسئلة على جهنم عميقة في التاريخ والثقافة والمجتمع والدولة وشكل الانتظام الاجتماعي الإنساني.
في الكتابة ومع سيرورة القراءة يتعدد التقارب مع النفس والأخر والعالم، وتنفتح علاقات التفاعل والمشاركة والتقاسم للمحنة والحب الإنساني في قلب كل حالات التشظي والتمزق والمعاناة البشعة التي سببها بركان الفظيع بحممه الحارقة والوحشية.
تصير خبرة الفظيع مجالا أرحب لعلاقات ووعي اجتماعي ثقافي إنساني نقيض للخراب والبشاعة التي عاشتها النساء. يتقوى التشبيك وتنبثق رؤى إبداعية نبيلة في تشريح أصول الفظاعات الحافرة في أعماق المجتمعات والثقافات، ومدى تمكن بعضها(الأوربية) من تخطي المحن، وتطعيم الذاكرة ضد النسيان، جبرا للضرر الممتد عبر الأجيال، وحماية المستقبل من ويلات الفظيع حتى لا يتكرر ما جرى.
ويمكن القول إن شكل الكتابة في “سيرتنا” يولد جمالية شعور رائع لدى القارئ، على أن الكتابة وسياقاتها التشبيكية، عبر ورشات ليس سوانا يكتب سيرتنا، قادرة على التأسيس للولادة من جديد ليس فقط للكاتبات، بل أيضا لكل من عاش خبرة الفظيع، ومختلف أشكال الظلم والقهر والهدر الإنساني.
فإذا كانت الكتابة في بعدها الفني الأدبي قادرة على خلق التعافي الروحي الإنساني، فإن القراءة قطبها الجمالي في تحصين الذات من معاودة أنتاج الجذور الاجتماعية والسياسية والدينية…، المولدة للفظيع.
الهامش
<
p style=”text-align: justify;”>- (سيرتنا)، إشراف وتنسيق إشراقة مصطفى حامد، دار صفصافة للنشر والتوزيع- الطبعة الأولى2023.