قصة قصيرة: قصة ميم
عزالدين الماعزي
يتمنّى (صديقي ميم) – في أحلامه طبعا – أن تكون لديه سيارة جديدة وكانيش أسود وفيلا (عبدو الرايس)، كرسيا جلديا يدور عكس عقربي الساعة، علبة المارلبورو المفتوحة دائما وولاعة فضية، لا يكترث لسرب الملائكة التي تقتفي أثره كلما لمح جمالا أو شعرا منسدلا أسود، يحب كما يقول : الشعْر الشكلاطي.
(اسماعين) هو الذي أطلق عليه الاسم ليس لأنه فكاهي بل لأنه يفعل ما تقوله قلْقولة رأسه الأحمر، فقط أود أن أقول: يحمل ملامح زعيم عصابة تحت شمس القرية على طريقة الناس الجدد، يعشق البحر كثيرا لأن منه يعبئ الهواء الذي يحتاجه كخطاه وأن ترافقه صديقة دائما إلى البحر؛ البحر بدون أنثى – كما يقول- لا يساوي شيئا. تثيره الأجساد العارية ولا يكترث للتي تبدو كبيرة السن، كم خمن أن يكون ضمن الذين تنتبه إليهم أعين السائحات المكتنزات اللواتي يمرن من وسط مركز القرية كل صيف لكي يحلم بحياة أخرى ويبني عشه ويملأه بالأولاد الشقر..
– اعلاش بالضبط تمشي السوق؟
يوافق أن يذهب مع (عين) وأصدقاء آخرين إلى السوق القرية (القديم) لأنهم يحتالون لسرقة الفول والحمص رفقة (حاء العسري). لصوص بمعنى الكلمة يمدون أيديهم ويجمعون تلك الحصص ليشربوا الشاي في خيمة (ولد العبْدي) فهو يتقن كيفية تعمار الشاي لكن الجلسة تخونه لأنه لا يعرف كيف يجلس القرفصاء فوق الحصير الأصفر المثقوب بعقب السجائر.
يتأمل الأجساد المكورة ويقارن بينها والتي يراها مثلا في قنوات vox أو xxl يقول خائبا:
العمر يمضي إلى شيخوخة ويتمنى أن يركب على فرس أدهم بين الزحام، يحب أيضا أن يتجسس على (الفقها) في خيام سوق القرية الذين يكتبون تمائم وتعويذات للنساء، يسترق السمع إلى همس النسوة اللواتي يلتففن في جلابيبهن، وهو الذي يعرفهن الواحدة تلو الآخر. وجع وصداع، تبدو أحلامه مشتتة لا يمل من الطيران والجنوح بعيدا بخياله، إنه أشبه بفراشة هنا وهناك، كله حيوية ونزق من إلى أعلى مستوى من الخفة والظرف الصبياني. الجميع يحبه لخفته وجماله وغوايته التي تفجر المسكوت بضمادات الجراح…
كلما رأى(حاء) يضحك يقول هذا هو (صحايبي) العزيز، تتشابك خيوط الأيدي بقبلات المواجع والضحك والسخرية من أي شيء، من نفسه وأعزّ أصدقائه. حين ينتهي من مداومة المقهى يذهب رفقته إلى دار الشباب ليلعبا الكرة الحديدية أو يساهما في إنجاح تظاهرة أو فعل ثقافي لا يفقهان شيئا لكن لهما هذه القابلية لاجتياح أي عمل جمعوي والكل يتعجب من هذا الحماس الذي شُحنا به.
(حاء) مثلا في المساء، يعود إلى عربته لبيع الصوصيط أو السردين المقلي أما هو فيرافقه إلى ساعة متأخرة من الليل أو يجلس في المقهى يعبئ عقله بأخبار المساء وحوادث العالم ويتابع فيلما هنديا يحرص دائما أن تكون التيلي كومند في يده يلعب بها مشتتا بين الأغاني واللقطات، في كل جلساته بدار الشباب تراه تحيط به الفتيات، يعمد أحرف الغواية والدهشة ترتسم على وجوههن لوحة صارخة بالعشق والرقص.. يحب الرقص على إيقاع صاخب وكامل..
في الرحلات تراه طفلا صغيرا، وديعا يفتت شرايين دمه على الجميع للمساعدة، تمارين التوازن يقول أحبكم جميعا، أيها الرفاق، أيها السفلة الأشقياء..
قليلا ما يكون غاضبا وغضبه لا يحتمل، وداعته تخفي خشونة طباعه البربرية لأنه سريع الغضب. يتعطل في دورة مداومته دائما، لأنه يظل نائما، يحب الشرب إلى درجة الثمالة في برتوشه الذي يضم صور هتلر وجورج بوش كما يقول لديه تلفزيون صغير 14 وكامبيوتر لا يعمل و dvd (جديد) وصورا مبعثرة لأصدقاء وأقراص مدمجة لأفلام المافيا وأغاني الشيخة الحمداوية..
يحب أن يقص شعره فقط عند (شين) الوحيد في القرية الذي يرتاح إليه في جلسة الحلاقة، تتكدس الحوانيت وبين كل مقهى ومقهى حانوت الحلاقة ، كل صباح يمشط شعره ويدعكه بقليل من شراب كوكا وخليط ماء بارد، يرفض أن يذكر نوعه، شعره مشعكك، فوضوي ناعم أسود كالليل ملولب ووجهه حليق، يرتدي دائما قميصا أبيض أو أحمر مخططا وسروال الدجين وسبرديله سبور من نوع نيك.
إنه قوي الشخصية إلى سرعة النزق، يرد شعره للوراء. هذا الصباح من يناير يريد أن يذهب الى السوق مسرعا يقول:
هل تعرفون منذ متى لم أذهب إلى السوق؟
يضحك (سي بوشعيب) ويقول ظلمت نفسك أخي، أرى التشاش من القرب، مشيرا إلى مؤخرة عقب السيجارة اضرب نثرة جوان وأتفرج في المنتخب الوطني وطالع النهار زوين…
يطارد الطبيعة والعصافير الملونة الصغيرة، ينصب لها فخاخا ومرات شباكا رفقة آخرين في (بلاد الماء) مع صبية (اولاد المخازنية )يكتوون بصهد الشمس والريح في سبيل القبض على بضعة عصافير ملونة لبيعها للطبيب البيطري الذي يحملها بدوره للبيع في أسواق الرباط. إنهم يندسون كالفئران تؤلمهم لحظة الانتظار وتحليقات طائر الحسون هي هذه أرضنا صارت معبأة بالألغام يأتي إليها صبية من البيضاء ليطاردوا وينصبوا للطيور المغردة البئيسة الشباك والسمان والحجل بالبندقية…
ومن يومها لم تعد العصافير الملونة تنام في الحقول وفوق الأشواك بل انقرضت أو هاجرت بعيدا.. بينما ظل البعض يأتي بالنكرات من مناطق أخرى لبيعها للبيطري وللحلاق الذي يستأنس بنهاية الإنشاد والهبوط إلى حافة النهر الذي يكاد يجف قبل الصيف.
وقبل أن أضع يدي التي شلت عن الكتابة يومين متتابعين، فضلت النوم في جلبابي والمكوت في بيتي بعيدا..
وكنت في حاجة ما.. وقفت بمقهى (ليسكال) كعادتي في السنوات الماضية، أجلس متوسدا كرسيا بلاستيكيا أبيض عوض الحديدي أو الخشبي أيام زمان حيث كان المرحوم (المكي) يقلقني بأسئلته حول أحداث العالم وآخر قصيدة والكتابة عن قريتي الزاوية التي تظل حفرة فقط، وصعود وهبوط المسافرين وحيث كان الشرافْ ولا يزال يعلق قلادته النحاسية في الصدر يربط ما بين عنقه وخصره سلاسل وميداليات مفتونا بالانتماء إلى ذاته وإلى حلقة الدراويش. كان الصوت الساخر ل(ميم) ناصعا وهو يدفع الكرسي.. أش تشربو أأساتيذا..!؟
يبدو طيّعا لطلبات الزبائن الذين يلجون المقهى فجأة ويتكاثرون كلما توقفت حافلة أو طاكسي أبيض تائه، كأن الأمر بدا هكذا، رافعا أنامله متأملا حركة المارين أمامه والسيارات ووجهي الأسمر. ضحك تلك الضحكة التي لا اعرف معناها بتاتا..، يضحك مثل شيخ كبير. مد يده إلى(موح) راغبا في سيجارة الماركيز الأولى هذا الصباح، أصابعه تحتاج إلى مسك سيجارة والاستجابة إلى أسئلة، يبدو أنه فهم اللعبة أخيرا فتوقف عن الابتسام، الإنسان يحتاج دائما إلى الضحك لتزجية الوقت. الضحك انتعاشة كبرى لذلك لا يعرف أحدٌ سر حركته.
ليلة العيد، كان قدام المقهى كعادته والمجموعة كما يقول (نصرو وبلال وزقزوقة وعبد الكبير..)فقط هو الذي استثنى نفسه بينما نصرو يقول إنه كان معهم يختلس الكلام ويمطره كذبا، أعرف ذلك وأطالبه بتتمة القصة، المهم يقول ضاحكا ومتقمصا حكي الرجولة والمعقول ذهبوا إلى الخلاء قرب الزيتونة وهي تبكي، المجنونة قرب الزيتونة كلهم ،والله توْوزّوها (صكيرج) وهو الأول نصرو تبعو… و… إنه مجرم مرعب،، مشيرا إلى الطويل (..)، صباحا لبس الذئب (..) الجلباب الأبيض وكان الأول مع المصلين في المسجد. أتعرف شرْبوها الروج (نوع من الخمر)، إنهم مجموعة الموت والخطر منهم وهو يشير إليهم وهم يتضاحكون يفضحون أنفسهم بأنفسهم وهو الواقف سامقا ومن عينيه تنزّ شرارة الكره والألم..
أغبطه على حضوره الجذاب وهو يقدم برعشة قهوة الصباح قبل كل شيء وقبل أي كلام.. أود أن..، أفضل الصمت الذي يقود إلى سرير الهدوء لكنه لا يتركني إلا مرغما حين يشاهد (حاء) حاملا كأس حليب ونصف خبزة مملوءة بالجبن الأصفر والكاشير، متكئا على وِجاط المقهى آنذاك يفارقني.. يبتعدان، يغرقان معا في ضحك هستيري أوله رشفة كأس ..وأنا أتأكد مرة أخرى أن لا شيء ينقص العالم غير عالم مشدود إلى مجانين حقيقيين ينغمرون في خصومات ولا تُروضهم أحاديث سوى سخرية من الآتي والحاضر. أما الماضي فلا يملكون منه شيئا بتاتا، أظل أرقبهما معا، بي عطش شديد وعلى شفتي ابتسامة الدهشة، أود مشاركتهما جُنونهما الذي يغمرني بالحلم وأظل أرقبهما طويلا وهما لا يكفان عن الضحك والحكي في ركن الزاويه الوحيد..
هامش : فصل 12 من رواية.