الفارون من العدالة يحاكمون الصحافة!
الياس خوري
في العاشرة والربع من صباح الخميس 30 آذار- مارس 2023، خرج جان قصير مدير موقع «ميغافون» من منزله في الأشرفية في بيروت، متوجهاً بسيارته إلى عمله. وكانت الغيوم الربيعية تغطي سماء المدينة، مصحوبة بالرذاذ.
تذكر الصحافي الشاب المثل اللبناني: «شتاء نيسان يُحيي الإنسان»، وابتسم وهو يتأمل معطف الشتاء الذي يغادر المدينة.
لم يتوقع مفاجأة، فلبنان دخل، مع الانهيار الاقتصادي وتفكك العصابة الحاكمة وعجزها، زمن ما بعد المفاجآت. لكن ما إن دخل في أحد المنعطفات وأصبح على مقربة من سوبرماركت الأشرفية، الذي تقف على رصيفه شجرة زيتون زُرعت إحياء لذكرى سمير قصير بعد استشهاده أمام منزله، في 2 حزيران / يونيو 2005، حتى تيقن من أنه كان على خطأ، لأن المفاجأة كانت في انتظاره.
عندما وصل الصحافي الشاب أمام شجرة الزيتون تصدى له رجلان. قرعا على زجاج سيارته، وطلبا منه أن يوقف سيارته على جانب الطريق، وعرّفا عن نفسيهما بصفتهما عنصرين من جهاز أمن الدولة. قال أحدهما بأنهما كانا ذاهبين إلى منزله لإبلاغه بضرورة الحضور إلى مديرية التحقيق المركزي في المديرية العامة لأمن الدولة في محلة الرملة البيضاء، للتحقيق معه.
كانت طريقة التبليغ مستغربة، إذ يبدو أن عنصري الأمن لحقا به، وتعمدا اعتراض سيارته من أجل تبليغه بالمذكرة على قارعة الطريق. طريقة التبليغ هذه صارت مألوفة اليوم في لبنان. وتشاء «المصادفة» (هل هي مجرد مصادفة)؟ أن يتم إيقاف السيارة في المكان نفسه الذي اغتيل فيه الشهيد سمير قصير منذ ثمانية عشر عاماً!
وما زاد من غرابة الأمر هو تحرك جهاز أمن الدولة بناء على إشارة من مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات.
أما التهمة الموجهة لجان قصير فهي قيام «موقع ميغافون»، بنشر تعليق صغير بعنوان «لبنان يحكمه فارون من العدالة» في الأول من آذار-مارس.
يقول التعليق: «يحكم لبنان اليوم رهط من الهاربين من العدالة بجرائم متنوعة ومختلفة، تبدأ بنهب المال العام والإثراء غير المشروع وإعاقة تنفيذ القانون، وصولاً إلى منع العدالة عن ضحايا أكبر انفجار شهده لبنان: عباس إبراهيم، نبيه بري، غسان عويدات، غسان خوري، رياض سلامة، نجيب ميقاتي».
وفي تفاصيل التعليق، يورد النص المعلومات التالية عن القاضيين غسان عويدات وغسان خوري: «مدعى عليهما في ملف انفجار مرفأ بيروت، وقد انقلب عويدات على المحقق العدلي طارق بيطار وأطلق سراح جميع الموقوفين في الملف متخطياً صلاحياته. ومدعى عليهما من قبل أهالي انفجار المرفأ بالامتناع عن إحقاق الحق وتعطيل التحقيق في الملف».
وفي النهاية، ينشر قولاً مأثوراً لعويدات يقول فيه: «مش أول ناس ماتوا، في كتير ناس ماتت في لبنان».
كما ترد تفاصيل تتعلق ببقية أفراد هذا الرهط من «الهاربين من العدالة».
في العاشرة والنصف من صباح الجمعة 31 آذار- مارس، لم يذهب جان قصير إلى التحقيق، بل ذهبت المحامية ديالا شحادة، وكيلة «موقع ميغافون»، وأبلغت العقيد جميل طعمة بأن موكلها لن يحضر، وطلبت «تكريس الحصانة المكفولة بموجب قانون المطبوعات، لجهة عدم مثول الصحافي المعني بالملاحقة سوى أمام قاضي تحقيق أو أمام محكمة المطبوعات».
إشارة التحقيق التي أصدرها مدعي عام التمييز، لا تشكل فقط مخالفة صريحة للقانون، بل ترسم أيضاً علامة استفهام حول مشروع المافيا الحاكمة للتعامل مع الحريات الصحافية.
جان قصير، بما يمثله موقع «ميغافون»، من مشروع تأسيسي للصحافة البديلة، في ظل الاحتضار الذي دخلته الصحافة اللبنانية منذ سنوات، هو اليوم عنوان مواجهة، بدأت باستدعاء «مسرحي» فارغ من المضمون القانوني، وتحولت إلى ما يشبه التهديد المباشر. هذه المواجهة مرشحة للتحول إلى غول يريد تحطيم النبض الشبابي الجديد الذي اتخذ شكلاً ملموساً في انتفاضة تشرين- أكتوبر 2019.
هل اعتقد رجال الأمن أنهم باختيارهم الموقع الذي شهد اغتيال المؤرخ والصحافي سمير قصير، مكاناً لتبليغ الإشارة القضائية، سيُرهبون الصحافيين والناشطين، عبر تذكيرهم بما جرى منذ ثمانية عشر عاماً لواحد من ألمع الصحافيين اللبنانيين والعرب؟
إذا كان هذا هو المقصود فهذا يعني أن السلطة مصابة بالعماء، ولن تفهم أن شهيدنا سمير قصير تحوّل إلى مثل أعلى في الشجاعة والنبل والاستقلالية والذكاء والاخلاص لقضية الحرية في لبنان وسوريا وفلسطين.
هناك روح جديدة تنتشر في أوساط شباب لبنان، من النوادي العلمانية في الجامعات والمناطق، إلى شبكات التواصل الشبابي التي تشكل «شبكة مدى» إحدى علاماتها، إلى رأي عام يبدو مهمشاً، لكنه انفلق من هذا الواقع المتعفن الذي يسعى اليوم إلى إعادة تدوير نفسه في حمى الصراع الإقليمي والطائفي من أجل الاستيلاء من جديد على وطن يتلاشى.
الصحافة البديلة لم تعد مشروعاً أو حلماً بل صارت حقيقة، يشهد على ذلك كثير من المواقع التي تشكل «ميغافون» إحدى علاماتها إلى جانب «درج» ومواقع عربية: «مدى مصر» و«الجمهورية» و«باب الواد» و»متراس»…
هذه الحقيقة تقدم رؤية مختلفة للصحافة، ومقتربات جديدة للخروج من الانحطاط العربي الذي يحكمه ثنائي الاستبداد والنفط.
بهذا المعنى تقف مواقع الصحافة الجديدة سداً في وجه محاولات وأد العمل الصحافي. وفي النهاية، نقول للقاضي عويدات ولأجهزة المخابرات، إن الحرية يصنعها الأحرار، وإن محاولات الترهيب لن تجدي نفعاً.
مع جان قصير و«ميغافون»، مع الحرية حتى تنتصر الحرية وتهزم عتمة القمع والاستبداد!
Visited 4 times, 1 visit(s) today