الثقافة والخبز الحافي
باريس-المعطي قبال
«يزخر» تاريخ الثقافة العربية بكتاب وشعراء وضعوا حدا لحياتهم، لأسباب تتعلق إما باليأس وإما بالبؤس، أو بسببهما معا. من لبنان هناك خليل حاوي ورالف رزق الله و أنطوان مشحور. ومن الأردن، تيسير سبول، ومن السودان، عبد الرحيم أبو ذكري، ومن العراق إبراهيم زاير وقاسم جبارة ومهدي علي الراضي. ومن فلسطين، فرنسوا أبو سالم. ومن تونس، الحبيب المسروقي. ومن الجزائر، عبدالله بوخالقة وصفية كتو وفاروق إسميرة. ويكاد المغربي كريم حوماري الذي انتحر عام 1997 عن 25 عاما المثال الوحيد الذي قفز ما وراء الخطوط وهو يانع.
على أي فالثقافة بالمغرب رديف للخبز الحافي، للمعاناة المادية والمعنوية: كتاب ومثقفون عرفوا غياهب السجون أو قسوة المنفى والتهميش. منهم من توفي في عزلته القاسية على مقعد بارد قبالة برج ايفيل مثلما حدث للفنان الجيلالي الغرباوي الذي عثر عليه ميتا في الثامن من أبريل 1971 عن سن 41 عاما. منهم من توفي على سرير المستشفى من دون رعاية كما حصل للشاعر عبد الله راجع الذي توفي بمستشفى فيلجويف بضاحية باريس عام 1990.. وزد على ذلك من أمثلة هؤلاء المثقفين.
لذا وبعد كريم حوماري فإن ما أقبل عليه أحمد جواد بإحراق نفسه يعتبر دراما بالمعنى الإغريقي للكلمة، ورمزية هذا الفعل جد قوية وقد تكون انعكاساتها وتبعاتها جد وخيمة على مستقبل ما يسمى بالثقافة المغربية.
في الغرب يتعامل المجتمع مع انتحار المثقف أو الآنسان العادي بنوع من اللامبالاة. آخر من أقبل على وضع حد لحياته هو المخرج السينمائي العالمي جان-ليك غودار، ولم يخلف هذا الغياب أي ردود فعل. من قبله انتحر فلاسفة وكتاب كبار مثل جيل دولوز، رومان غاري، مارينا تسفيتيفا ، جيرار دو نيرفال وغيرهم.
هناك الآن نقاش حول اختيار الناس لنوعية وطريقة موتهم. في المجتمعات العربية الإسلامية، تخضع ثقافة الموت لمعايير مغايرة هي من إملاء الخالق. في قضية أحمد جواد، جاءت ردود الفعل على شبكات التواصل الاجتماعي لتصب في هذا الاتجاه، متحسرة وخالية من أي تنديد. نضحت الارتسامات علنا أو في طياتها بالكثير: غياب سياسة ثقافية ناجعة توفر لكل الفاعلين الثقافيين سبل الممارسة الثقافية السليمة، تحكم البعض بدواليب الثقافة بلا معرفة ولا أحقية، سيادة مناخات اليأس والإحباط، عدم الثقة في الثقافة والمثقفين الخ…
لكن يبقى السؤال: أين هم المثقفون في زمن انسحب، بل انمحى فيه هؤلاء من المشهد؟ لو كان هناك مثقفون لما أقدم أحمد جواد على ما أقدم عليه. لكان قد أدمج ضمن ثقافة مسرحية، نشطة، قوامها الحوار، الإنتاج والتبادل مع الجمهور.
وإلى أن يظهر مثقفون مميزون وفاعلون في حقل الإنتاج، ستبقى السيادة للإحباط، للأسى والمأساة.