مئوية نازك الملائكة: محررة القصيدة العربية من قوافيها

مئوية نازك الملائكة: محررة القصيدة العربية من قوافيها

 فاطمة حوحو

   كانت في الخمسينيات ملكة غير متوجة للشعر العربي. امرأة لم تسلم راية الريادة في القصيدة الحديثة لرجل، أعلنت أنها كتبت قصيدة النثر قبل الشاعر بدر شاكر السياب، المعترف له رسميا بأنه وعبد الوهاب البياتي كانا أول من حرر القصيدة الشعرية العربية من القوافي. كانت شاعرة وناقدة متألقة في ذلك الزمن. تجرأت نازك الملائكة على الكتابة المغايرة، فأتت قصائدها مبهرة. لكن الرجال الذين رفضت التسليم لهم فتكوا بتلك المرأة الشاعرة. وحاولوا النيل منها بتوجيه الانتقادات إليها. ذلك أن الرجل العربي، مهما كان مستواه الثقافي، لا يحتمل أن تلمع امرأة في مجاله.

    نازك الملائكة العراقية تشبه درية شفيق المصرية، التي كتبت الشعر بالفرنسية، وعندما أكدت وجودها بجرأتها، ودعوتها إلى تحرر المرأة، هوجمت بشدة ونفيت من الوجود فانتحرت. كانت نازك الملائكة أيضا قد هوجمت بشدة عندما وضعت كتابها “قضايا الشعر المعاصر”، عام 1962. فانقض عليها النقاد، بعدما كانت محاضراتها عن المرأة العربية قد فتحت باب النقاش الواسع في الأوساط الثقافية. تركزت آراؤها في الخمسينيات على تبيان مدى تفاهة الرجل والمجتمع عندما يتم تناول قضية المرأة على الرغم من كونها غيرت أفكارها عندما عادت فتناولت هذه المسألة في أواخر الستينيات، بعد الهزائم المتتالية التي لحقت بالفكر القومي العربي.

   ولدت نازك الملائكة في بغداد في العام 1923. ونشأت في بيئة مهتمة بالثقافة. والدتها هي الشاعرة سلمى عبد الرزاق، لها ديوان عنوانه “أنشودة المجد”. والدها صادق الملائكة شاعر أيضا. وكذلك خالها. تخرجت من دار المعلمين في العام 1944، وفي معهد الفنون الجميلة في العام 1949، تابعت دراسة اللغة اللاتينية والفرنسية في جامعة بريستون بالولايات المتحدة الأمريكية، وكانت أول طالبة أنثى في هذه الجامعة. درست النقد الأدبي، وكان وجودها يثير دهشة المسؤولين كلما التقى بها أحدهم. وكانت قد درست الشعر الانجليزي، والدراما الحديثة في معهد بريطاني، ونجحت بتفوق. بينما رسب جميع زملائها في الدورة ما عدا طالب واحد شو هيدي طالب واحد.

  عادت إلى بغداد في العام 1951. وتفرغت للكتابة الشعرية بعد أن كانت قد أصدرت في العام 1947 ديوانها الأول “عاشقة الليل”. سبقت ذلك هذا الديوان قصيدتها الشهيرة “الكوليرا”، وتروي الملائكة قصة تلك القصيدة التي أطلقتها في عالم الشعر قائلة: “أذكر أنني يوم الثلاثاء في 27 أكتوبر 1947 ، وكان الوقت ضحى، دخلت غرفة الاستقبال في بيت والدي لألقي على أفراد أسرتي مجتمعين يومذاك قصيدتي الجديدة الحرة التي أسميتها “الكوليرا”، كان هذا المرض قد نشر أجنحة الموت على مصر، فاستوحيت صور حوافر الخيل وهي تجر عربات الموتى من ضحايا الوباء”. أطلقت النار على المتدارك ودخلت عالم الإبداع بعد أن حافظت على القصيدة على عامودها قرونا.

    اعترفت أسرة نازك الملائكو بنبوغها وهي طفلة، وأطلق والدها صفة الشاعرة عليها، قبل أن تفهم معنى هذه الكلمة. قرأت الكثير من روائع الأدب وكتب الصرف والنحو، وأعفيت من المهام المنزلية التقليدية التي تلصق بالفتاة منذ صغرها، للتفرغ للقراءة الكتابة والعزف على العود والغناء لأم كلثوم وعبد الوهاب، قصائد عادية كثيرة كتبتها قبل بلوغها العاشرة ثم أقبلت على نظم الشعر المقفى.

   عاشت مراهقتها متنية أن تجد السعادة في الحب، لكنها مع بلوغها سن الشباب أصيبت بخيبة أمل. الألم والكآبة والعذاب غلفا حياتها، وظهر ذلك في ديوانها الأول “عاشقة الليل”.

   قالت إن قصائدها الحزينة نابعة من ضيقها بفكرة الموت الذي ينتهي إليه كل البشر، وفكرة الاستعمار البريطاني للعراق، وكرهها للحكومة العراقية التي يمثلها السعيد وعبد الإله. بالإضافة إلى وضع المرأة في المجتمع العربي وافتقادها للثقافة والحرية، واحتقارها للجنس والزواج، لأنهما يدنسان الحب. لكن هذه الحالة اختلفت في مجموعتها الثانية “شظايا” التي صدرت عام 1948، واتسمت في مرحلة من حياتها استمرت حت العام 1955 بالنضج الفكري، في تلك المرحلة اعترفت بالحب كمصدر للسعادة وتراجعت عن آرائها بالزواج. في 1953 توفيت والدتها بين ذراعيها نتيجة كمية عالية من البنج حقنت بها لإجراء عملية في الدماغ. تسبب موتها بكدر للوالد الذي قضى بقية حياته معلولا وحزينا لا يحلو له شيء في الدنيا إلى أن غادرها إلى عالم الأبدية.

   ترجمت نازك الملائكة خلال هذه الفترة أعمالا أدبية عن الانجليزية. ولدى عودتها إلى بغداد في العام 1959 بعد قضاء عدة سنوات في أمريكا، اتجهت إلى كتابة النقد، وقرأت الآداب الألمانية، والإيطالية، والروسية، والصينية، والهندية، مما يشير إلى سعة أفق هذه الشاعرة العربية التي لم تضاهيها أحد من بنات جيلها، من هنا كان تعاملها مع الرجال العرب معاملة الند للند، ولم تتحمل أن تواجه أفكارها وآرائها بازدراء ذكوري. في العام 1957 علمت نازك في كلية التربية في بغداد. وخلال عامي 1959 و1960، انتقلت إلى بيروت حيس نشرت نتاجاتها الشعرية والنقدية والنثرية، إضافة إلى البحوث الاجتماعية.

   وعندما عادت نازك من بيروت إلى بغداد، تعرفت إلى زوج المستقبل، كان عبد الهادي محبوبة زميلا لها في قسم اللغة العربية، ثم ترأس جامعة البصرة فيما بعد، وأنجبت منه ابنها البراق، الذي عمل أستاذا في الجامعة الأمريكية في القاهرة.

    تعترف نازك الملائكة بالتأثير العنيف لثورة 14 يوليوز 1958، على حياتها. كانت قد مرت قبل سنوات قليلة بمرحلة من التشكيك والإلحاد، لتتوجه نحو الفكر البعثي. لكن الصراعات داخل الثورة بين الشيوعيين والقوميين أصابتها بالخيبة. وقفت ضد “انحراف” عبد الكريم قاسم واتهمته بأنه طمس جمال السورة وقضى على مبادئها القومية.

    هربت إلى بيروت لتعبر عن آرائها السياسية التي انتقدها كثيرون، بينهم رجاء نقاش، الذي وصف مقالتها عن القومية العربية والحياة بأنها خيالية ورومنطيقية، واعتبر أن ثقافتها في هذا المجال ليست بمستوى ثقافتها كمبدعة في الأدب. لكن الكاتبة لم ترتدع، وواصلت كتابتها في السياسة وأبدت آرائها في الاقتصاد والاجتماع. وكثيرون اعتبروا هذه الكتابات غير موضوعية ومبنية على منهج عاطفي على عكس كتاباتها الأدبية النقدية. هذه الحرب المعلنة عليها دفعتها إلى إعلان الحرب على هوية الآخر الغربي، انطلاقا من تقديس الفكر القومي. على الرغم من فشله في النهوض بالقضايا الوطنية العربية. ومنها قضية فلسطين على سبيل المثال لا الحصر. شنت نازك حملة ضد الثقافة والفكر الغربيين. فكتبت “أخطاء شائعة في تعريف الأدب القومي”، و”محاذير في ترجمة الفكر الغربي” عام 1962، وكتاب “الأدب والغزو الفكري” 1965، وكتاب “الأديب والمجتمع” 1969.

   تغيرت آراء نازك الملائكة بمرور السنين فانقلبت من متمردة في كتاباتها إلى امرأة زوجة وأم متأقلمة مع دور رسم للمرأة العربية في إطار في اطار النظريات القومية، أي دور لا يتجاوز الحدود، وإنما يخدم الأفكار التي يوزعها هذا النظام السياسي أو ذاك تحت ستار الفكر القومي.

   في العام 1953 كتبت نازك الملائكة مقالا بعنوان “المرأة بين الطرفين: السلبية والأخلاق”، وهو عبارة عن محاضرة ألقتها في نادي الاتحاد النسائي في بغداد، بعد عودتها من أول رحلة دراسية في امريكا. وكانت متأثرة بالحركة النسوية الأمريكية. فدعت إلى تبني قضايا المرأة. لكنها في 1968 ألقت محاضرة بعنوان “مآخذ اجتماعية على حياة المرأة العربية”. القتها في جامعة البصرة. بدت من خلالها نازك ملائكة أخرى. كانت تبث أفكارا اجتماعية بالية، وحلولا ساذجة عن قضية المرأة وإشكاليات وجودها في المجتمع. ويبدو أن نازك الملائكة كانت امرأة على قدر كبير من الشفافية والحساسية، إلى حد تأثرها الفوري بما بما تراه. فهي عندما كتبت الشعر الحر، كانت تريد الحرية. وعندما عادت إلى الحظيرة التقليدية للمرأة  العربية تبنت كل الأفكار التقليدية للقوى السائدة عن المرأة.

   في مذكراتها عبرت نازك عن التناقضات التي عاشتها. فوصفت كيفية انتقالها من الذات الخجولة والمنطوية إلى التغيير وتعديل الأعماق النفسية، والعثور على السعادة في الحب، والتي عبرت عنه في قصيدة عنوانها “البعث”.

  عاشت نازك الملائكة في السبعينيات والثمانينيات في العراق. وفي التسعينيات أطلق المقفون العرب صرخة من أجل السماح لها بمغادرة العراق المحاصر، من أجل الحصول على العلاج المناسب بعد أن ضاقت سبل العناية الصحية، فغادرت غلى القاهرة لتلقي العلاج.

  في 1996 منحت نازك الملائكة جائزة الإبداع في مجال الشعر من قبل مؤسسة عبد العزيز البابطين، تكريما لها على تدشينها قبل خمسين عاما حركة التجديد في الشعر العربي مع بدر شاكر السياب، عبر قصيدتها “الكوليرا”. وفي هذا التعريف الصادر عن المؤسسة المانحة للجائزة عدم لإقرار صريح بما تدعيه نازك الملائكة من كتابتها للشعر الحر قبل صدور مجموعة السياب “أزهار ذابلة”، وكانت قد نالت في 1992 درع الإبداع العراقي.

  في 1997 أصدر المجلس الأعلى للثقافة في مصر أول مجموعة قصصية للشاعرة العراقية، حملت اسم “الشمس التي وراء القمة”، وتضم سبع قصص كتبتها الشاعرة بين عامي 1958 و1973. ونشر بعضها في مجلة “الآداب” اللبنانية. بعد ذلك عادت الملائكة إلى بغداد. وتنقلت ما بين عمان والقاهرة من أجل العلاج…..

   في سنواتها الأخيرة لم تعد قادرة على الكثير من الكلام، وكانت ترفض استقبال الصحفيين نتيجة شعورها بالتعب الدائم.

   ظلت سجينة في غرفتها تنتظر الموت الذي حرك عرها الأولى، فدفعها إلى الكتابة واكتشاف نفسها كشاعرة.

   نازك الملائكة علامة بارزة من علامات تاريخ الشعر العربي الحديث، الأولى التي كسرت أوزانه المعروفة. وصفت تلك اللحظة بالقول: لقد أطلقت النيران من أسلحتي الشعرية المتمردة على الخليل بن حمد الفراهيدي، وفتتت بحوره الستة عشرة، ونظمت قصيدة لا تخضع لقوانينه العمودية، وفي ما لا يزال الجدل مستمرا حول ريادة الشعر الحر بين النقاد، لا يستطيع أحد أن ينكر موقع نازك الملائكة في الشعر ولو اختلفت في داخلها الشاعرة عن شخصية الناقدة والمرأة.

سيرة:

 نازك صادق الملائكة (23 أغسطس 1923- 20 يونيو 2007) شاعرة عراقية، ولدت في بغداد في بيئة ثقافية وتخرجت من دار المعلمين العالية عام 1944. من أم شاعرةً وأب كاتب. دخلت معهد الفنون الجميلة وتخرجت من قسم الموسيقى عام 1949، وفي عام 1959 حصلت على شهادة ماجستير في الأدب المقارن من جامعة ويسكونسن-ماديسون في أمريكا. وعينت أستاذة في جامعة بغدادوجامعة البصرة ثم جامعة الكويت. عاشت في القاهرة منذ 1990 في عزلة اختيارية وتوفيت بها في 20 يونيو 2007 عن عمر ناهز 83 عامًا. بسبب إصابتها بهبوط حاد في الدورة الدموية ودفنت في مقبرة خاصة للعائلة غرب القاهرة.

يعتقد الكثيرون أن نازك الملائكة هي أول من كتبت الشعر الحر في عام 1947 ويعتبر البعض قصيدتها المسماة الكوليرا من أوائل الشعر الحر في الأدب العربي. وقد بدات الملائكة في كتابة الشعر الحر في فترة زمنية مقاربة جداً للشاعر بدر شاكر السياب وزميلين لهما هما الشاعران شاذل طاقة وعبد الوهاب البياتي، وهؤلاء سجلوا في اللوائح بوصفهم رواد الشعر الحديث في العراق بعد صراع طويل دار بينهم حول بداية كتابة الشعر الحر أو الحديث.

Visited 4 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

فاطمة حوحو

صحافية وكاتبة لبنانية