المسرح العربي.. الكائن والممكن والمستحيل: عن مسرح يبحث عن مسرحيين
د. عبد الكريم برشيد
هذا المسرح، مسرحنا، أحببت اليوم أن أفتح كتابه، وأن أعيد قراءته من جديد، وذلك من أخلال تمثل كل أبعاده ومستوياته ودرجاته وزواياه ومظاهره وظواهره المتعددة والمتنوعة، وهذا المسرح ـ جغرافيا ـ تحده حدود ثلاثة، هي حد الكائن في اليمين، وحد الممكن الذي يوجد على اليسار، وحد المستحيل الذي يوجد في الأعلى، ويوجد في أعماق بعض النغوس الغنية، وهذا الكائن نعرفه ويعرفنا، وذلك الممكن نسعى لأن نعرفه، وأن نعرف به، أما المستحيل، في الفن والفكر والعلم، فإنني شخصيا لا أعرفه ولا أعترف به، لأن الأصل فى الفن، كما العلم والفكر، هو انه أحلام حالمين، وهو خيال متخيلين وهو أسفار مسافرين، ولذلك فقد قلت دائما وكتبت، بأنه لا مستحيل في الأحلام الكبيرة، والتي لا يمكن أن تنبت وتينع إلا في النفوس الكبيرة وفي العقول الكبيرة وفي الأرواح الكبيرة، ولذلك لم يحبطني كائن المسرح المغربي والعربي، ولم يمنعني من التفكير الحالم، ولم يبعدني عن الحلم العالم، وذلك في كائن و ممكن ومستحيل هذا المسرح.
وهذا المسرح، مسرحنا، هل يصح أن نبحث فيه وعنه، في غياب تمثل تام وكلي، لحال ومآل المنتسبين إليه، إما بالحق أو بالباطل أو بالادعاء؟
وهل هناك مسرح حقيقي بدون مسرحيين حقيقيين؟ وهل يعقل وجود مسرحيين بدون وجود صناعة مسرحية، يشتغلون فيها، ويفكرون فيها، ويسعون دائما إلى تطويرها وتجديدها، جماليا وفكريا وعلميا، والارتقاء بها إلى الأعلى والأسمى، وإلى الأجمل والأكمل والأصدق؟
وهذا المسرح، مسرحنا، مطالب اليوم، وأكثر من أي يوم مضى، بأن يفكر، ومطالب قبل هذا، بأن يكون له، بداخله، عقل يفكر، وأسوأ كل شيء، هو وجود جسد حي، يحيا الحياة بلا تفكير وبلا تدبير، ومهمتنا كلنا اليوم، في سياق هذا المسرح، هو أن نفكر بشكل جدي، في عقل هذا المسرح وفي عقل المسرحيين العاقلين فيه، وأن نعرف كيف يفكران معا؛ المسرح والمسرحيون، وذلك في كل مجال الفن والفكر والعلم والإبداع والصناعة، وأن نتساءل، هذا العقل المفكر، أين هو الآن؟ هل في درجة الفعل والفاعلية، وفي درجة الحركة والحركية، أم في درجة الثبات والسكون والخمول والجمود؟
الفن المسرحي ومضاعفه العلم المسرحي
وفي هذا المسرح، مسرحنا، قد نجد الذين يعقلون ويفكرون، وهم قلة قلية بكل تأكيد، ونجد الذين يسألون ويتساءلون، وذلك بحثا في الأدب المسرحي، وبحثا عن العلم المسرحي، وبحثا عن الفكر المسرحي، وبحثا عن الفقه المسرحي، أما المهنة، فالمفروض أن تأتي من بعد، وأن تأتي بناء على أفكار المفكرين وفي ضوء علم العلماء وفقه الفقهاء وانسجاما مع مخططات ورسومات مهندسي هذا المسرح.
وعندما نفترض وجود شيء من الأشياء، ونسميه (علمنا) المسرحي، فإن هذا يلزمنا بأن نتساءل: وهذا العلم المسرحي، في بيئتنا الاجتماعية والتاريخية المختلفة، هل له وجود حقيقي مختلف وذلك في هذا الوجود المختلف، أم إن المصنوعات المسرحية، هي وحدها الموجودة والكائنة فيه، ولا شيء غيرها؟ وأقول المصنوعات فقط، ولا أقول الصناعة، وكيف يمكن أن يتعلم المسرحي؟ ومن أين يمكن أن يستقي (علمه) الحقيقي؟
هل بقراءة الكتب الورقية المترجمة وحدها، أم بقراءة كتاب الحياة في مسار الحياة اليومية الصادقة؟ وتؤكد الاحتفالية على أن العلم الحق لا يباع ولا يشترى ولا يقتبس ولا يختلس ولا يستورد، لأنه أساسا معاناة وجودية قبل كل شيء، وهو شيء يكتسب بالحياة، من خلال التتلمذ الصادق على أساتذة الحياة في مدرسة الحياة، وقراءة الكتب الورقية وحدها لا يغني أبدا عو تصفح صحائف الأيام والليالي والأعوام؟
وبخصوص السؤال العلمي، في فقه هذا المسرح، أقول ما يلي: أي سؤال من الأسئلة، هو مبتدأ كل الأسئلة، وهو آدم كل الأسئلة، في كل المسائل والقضايا، والذي ينبغي أن ننطلق منه، بحثا عن إيجاد المعرفة المسرحية الحقيقية، وذلك في الوجود التاريخي الحقيقي؟
هو سؤال ينبغي أن نطرحه على أنفسنا، وأن نحرج به أنفسنا، وينبغي أن نعود إليه هذا اليوم، لأنه سؤال كل يوم، وإن كنا قد طرحنا على أنفسنا في مناسبات متعددة، وطرح علينا بالأمس، من جهات متعددة أيضا.
وأنطق الآن بلسان المسرحي الذي يسكنني وأقول ما يلي: نحن اليوم نمشي، تماما كما مشينا بالأمس، ونحن نسير في أرض هذا المسرح ـ مسرحنا، وشيء مؤكد، بأنه لا معنى لأن نمشي فقط، إذا لم نكن نعرف إلى أين نمشي، وفي أي طريق نحن نمشي، وهناك اليوم شيء واحد فقط نعرفه، وهو أن من يدور حول نفسه، في نفس مكانه، لا يمشي، هذه هي القاعدة، وإذا كان هناك أي استثناء لهذه القاعدة فإنني شخصيا لا أعرفه، ولا أعترف به.
وطاحونة هذه الأيام والأعوام، في مجال الفكر والعلم الإبداع، وهي تدور وتدور، مطالبة أن تجد شيئا ملموسا ومحسوسا تطحنه، وإلا كان دورانها بلا معنى، وإذا لم تجد هذه الرحى ما تطحنه فإنها لن تطحن إلا أحجارها فقط، وأخوف ما نخافه اليوم، هو أن يكون مسرحنا يطحن نفسه وهو لا يدري، أو لا يريد أن يدري.
مسرح يمشي أو لا يمشي؟
ونحن نكتب للمسرح، وننجز المسرحيات بعد المسرحيات، وندعي أننا تبدع للناس مسرحا، وبأننا نفكر للناس، ولحساب كل الناس،، مع أن أكثر الغائبين في هذا المسرح ـ مسرحنا، هم الناس، وكثيرا ما تشغلنا الهوامش والشكليات عن الأساسيات والجوهريات في المسرحيات، وتشغلنا الماديات عن الرمزيات، مع أن الأصل في المسرح أنه فن وعلم وفكر الرمزيات بامتياز، وبأنه فن وفقه الاستعارات أيضا، وفي هذه المسرحيات نريد أن نكون تجريبيين بدون تجربة، وأن نستعرض مواهبنا وكفاءاتنا وشطحاتنا، أكثر مما نعرض واقع الناس وأسئلة الناس وقضايا الناس.
ويمكن أن نتساءل أيضا، هذا المسرح ـ مسرحنا، في أية درجة من درجات الوجود هو اليوم موجود؟ وهذا طبعا، إذا كان لنا فعلا، في هذه الجغرافيا الثقافية وفي هذا التاريخ وجود حقيقي.
وهل فعلا، نحن على هذه الأرض المسرحية نمشي، أم فقط نمثل أمام أنفسنا وأمام كل العالم بأننا نمشي، تماما كما يمشي كل الناس، وكما تمشي كل الأجناس التي تفكر وتبدع، وتبدع وهي تفكر، والتي تتطور وتتجدد بعلمها وفنها وفكرها؟
ونحن بلا شك نخدع أنفسنا، ونكذب على أنفسنا، عندما نقول ونكتب، بأننا في هذا المسرح ـ مسرحنا، نقدم للناس ما ينفع كل الناس، نقول هذا الكلام نكتبه ونذيعه في الناس، ونحن في الواقع لا نسعى إلا لخدمة أنفسنا، وخدمة بعض الجهات الداعمة أو المانحة أو المتصدقة؟
وإذا كنا حقا نسير ونمشي، في هذا المسرح، وكنا نفترض أن هذا المسرح يمشي هو أيضا، فهل وصلنا اليوم معه وفيه إلى ما كنا نريده بالأمس؟
وهل فعلا كنا نريد شيئا محددا من الأشياء؟ وما طبيعة هذا الشيء؟ وهل كانت لنا في هذا المسرح مخططات أو استراتيجيات مكتوبة، أو كانت لنا تصورات ورهانات محددة؟
وبخصوص هذا الموضوع، ينبغي أن نسأل الهيئة العربية للمسرح، والتي كلفتنا في زمن من الأزمان بأن نعد لنا تصورا شاملا ومتكاملا لحاضر ومستقبل المسرح العربي، هذا المخطط، الذي ساهمت في إعداده أسماء كثيرة، لها وزنها الفكري والعلمي والفني بكل تأكيد، هذا المخطط أين هو اليوم؟ ولماذا تم إقباره في مهده؟ وهل طبق منه شيء؟ وما هي نسبة التطبيقات والمتابعات التي تمت فيه؟
نتمنى أن تكون الهيئة العربية للمسرح في الاستماع، وأن تجيب على هذا السؤال، وعلى كل الأسئلة الأخرى، والتي لها علاقة بكائن وممكن ومستحيل المسرح العربي.
وقدرنا في هذا المسرح ـ مسرحنا، هو أن نؤسسه أولا، وأن نعطيه تاريخه الآني والمستقبلي بعد ذلك، وأن نشتغل فيه بوعي تأسيسي، وأن نبني أساسه الفكري والعلمي والجمالي الثابت، من غير أن نركز فقط على المتغيرات المهنية الجارية، ونحن في هذا المسرح ـ مسرحنا محكومون بأن ننظر إلى الأمام دائما، وأن نسعى من أجل استحضار ذلك الغائب هناك، في تلك الأزمنة الأخرى هناك، وأن نخطط من أجل الوصول إلى الأبعد والأصدق، ونحن في اشتغالنا المسرحي هذا لا نستظهر تاريخا كان في الماضي، ولكننا نؤسس لتاريخ أخر جديد ومتجدد، تاريخ ممكن الوجود في المستقبل، وعليه، فإن الرهان الأكبر ينبغي أن يكون على الزمن، وعلى الحفر في الزمن، وذلك باعتبار أننا في هذا الزمن يمكن أن نحقق كل الأحلام وكل التصورات وكل الاختيارات، وهذا ما كان يلزمنا بالأمس، من أجل أن ندون كل التصورات، وأن نعطيها أسماءها وعناوينها الحقيقية، وأن نحدد لها أهدافها القريبة والبعيدة، وأن نوجد لها آليات تحقيقها، وهذا ـ مع الأسف ـ هو ما لم يحدث لحد الآن، ومازلنا في هذا المسرح نشتغل بعقلية الحرفي الصغير في دكانه الصغير، بدل أن نشتغل فيه بعقلية الصناعي الكبير، وذلك منظومته الصناعية الكبرى، وهكذا ينبغي أن يكون مسرحنا، أي أن يكون أكبر من مجرد حوانيت صغيرة لتركيب مسرحيات، وبيعها بعد ذلك، في الأسواق اليومية أو في المهرجانات الموسمية، لأن الأساس هو الصناعة المسرحية، وذلك باعتبارها واحدة من الصناعات الثقيلة.
معرفة المسرح ومعرفة المسرحيين
ونحن نتحدث اليوم، في حياتنا اليومية عن التغيير وعن التحول وعن التجديد وعن التجريب، ولكن، تجديد ماذا؟ وهل يصح تغيير وتحويل وتجديد وتحديث وتجريب شيء ليس له وجود أصلا؟ التأسيس أولا، هكذا قلنا ونقول دائما، وإعادة التأسيس ثانيا، والانخراط الفعلي الجاد في فعل هذا التأسيس الجديد والمجدد والمتجدد دائما وأبدا.
ونحن قد نعرف ما هو مهم لنا في هذا المسرح، ولكن، هل نعرف ما هو الأهم فيه؟ وهل نعرف ما هو الأكثر حقيقية فيه؟ وما هو الأكثر صدقا ومصداقية، والأكثر تأثيرا وفاعلية؟
وهذا المسرح، مسرحنا، والذي يتحدث اليوم كثيرا عن فعل التجريب، ويتحدث عن الحداثة وعن ما بعد الحداثة، وعن ما بعد بعد الحداثة، وعن الدراما وعن ما بعد الدراما، هذا المسرح، هل جرب أن يطرح على نفسه الأسئلة التالية:
وتحديد، تجريب ماذا؟ إن التجريب ليس كلاما طائرا في الهواء، ولكنه فعل مادي إجرائي، محسوس وملموس، وهل هناك تجريب علمي واختباري بلا موضوع وبلا فرضيات نظرية وبغير مختبرات علمية، وبدون أهداف وغايات محددة؟
وهذا المسرح ـ مسرحنا، ماذا يريد أن يكون بالتحديد؟ وكيف يريد أن يكون؟ وما هو الاسم الذي يليق به؟
ونحن، في مسرحية الوجود هذه، وفي وجود هذا المسرح الكائن والممكن، هل تساءلنا يوما، ونحن الذين نبحث عن مسرحنا، نحن أساسا من نحن؟ وهل يكفي أن نقول نحن ونمضي، وأن نكتبها من غير أن نعرف معناها، ومن غير أن نعرف حدود جغرافيتها البشرية، ومن غير أن نعرف مستويات وأبعاد وحدود تاريخها، وأن نعرف فيزيائيتها المادية، وأن نعرف كيميائيتها النفسية والذهنية والوجدانية والروحية.
وهذا الزمن، زمننا، والذي نقول ونكتب عنه، صباح مساء، بأنه زمننا، هل هو حقا زمننا الحقيقي؟ ألا يكون وجودنا فيه مجرد خطأ؟ أو نكون على حافته أو على هامشه ونحن لا ندري، أو لا نريد أن ندري؟
وبعد هذا، فهل نعرف حقا وصدقا، في أي زمن من الأزمان نحن اليوم؟ وقبل هذا اليوم أين كنا؟ هو بالتأكيد عصر العلم، قبل أن يكون عصر المعلومات، وهو عصر الصناعات قبل أن يكون عصر المصنوعات، وهو عصر الفكر قبل أن يكون عصر الأفكار المطروحة في الطرقات، وإن من يدرك روح العلم وجوهر العلم، ليس كمن يدرك المعلومات وحدها فقط، وفي المقابل، فإن من يدرك الصناعات الثقيلة ليس كمن يقتني المصنوعات الخفيفة، وأن من يؤسس الفكر ليس كمن يلتقط الأفكار التي تأتي من جميع الجهات، أو من يستعيرها، أو من يهربها عبر حدود المكان وحدود الزمان.
ونحن في هذا المسرح اليوم، ومن حيث ندري أو لا ندري، نظن أننا نمشي، ونحن مقتنعون بهذا، ولو كنا فعلا نمشي، لوصلنا إلى محطة من المحطات، وإذا افترضنا بأننا فعلا نمشي، مسرحيا، فهل نحن على يقين بأننا نمشي في الطريق الصحيح؟ ألا نكون في الطريق الخطأ ونحن لا ندري؟
إنه لا أحد يجهل اليوم أن كل رهاناتنا السياسية كانت خاطئة، وكانت فاشلة، وأننا كنا اشتراكيين بلا اشتراكية، وكنا جمهوريين بلا جمهورية، وكنا ليبراليين بدون ليبرالية، وكنا تقدميين بغير تقدمية، وكنا وحدويين بغير روح الوحدة، وكنا قوميين خارج المعنى الحقيقي للقومية، وكنا إسلاميين خارج روح الإسلام الحق، وفي المسرح أيضا، كنا تجريبيين، وكان ذلك بالنية وحدها، معتقدين بأن النية أفضل من العمل، وأن من ينوي التجريب يدركه التجريب في أحلام اليقظة وحدها، ونفس هذه النية، بغير عمل، أدركنا الحداثة وما بعد الحداثة وما بعد بعد الحداثة، وأدركنا الدراما وما بعد الدراما.
إن هذا المسرح ـ مسرحنا، والذي نعرف نحن بعض أسمائه وبعض تجاربه فقط، ونعرف أضواءه وظلاله وأزياءه وأقنعته وتقنياته، هو بالأساس علم وفكر الإنسان الحي، وهو فقه الوجود وفقه الحياة، وذلك في المجتمعات الإنسانية الحية، وفي الحقب التاريخية الحية، وأين هي الحياة في مجتمعات تعطلت فيها عجلة الزمن عن الدوران؟ مجتمعات تقتل مثقفيها ومفكريها ومبدعيها في واضحة النهار.
وهذا المسرح ـ مسرحنا لا يمكن أن يكون إلا حياة وحيوية وحرية، وهو دعوة صادقة للتحرر العقلي أولا، وهل تمكننا في مجتمعاتنا المعطلة والمعتقلة من تحرير الإنسان بالمسرح الحر؟ وأين هو المسرح الحر في مجتمعات تحول فيها المسرحيون إلى موظفين وإلى أجراء وإلى صيادي جوائز في المهرجانات وفي المسابقات الأدبية والفنية والفكرية؟
وهل تمكن هذا المسرح ـ مسرحنا، من أنسنة الإنسان فيه، ومن إخراجه من وحشيته؟ وهل تمكن من عقلنته بالمسرح الإنساني العاقل؟
وأين هي المجتمعات الحية، والتي يمكن أن تعيش حياة إنسانية ومدنية حقيقية، وذلك في كل هذا العالم العربي، من أقصاه إلى أدناه ؟
وهل أدرك الإنسان العربي، في مسرح الحياة وفي حياة المسرح، درجة الإنسانية الحقيقية ودرجة المواطنة المدنية الحقيقية ودرجة المسرح الحقيقية؟
وقبل هذا، ما هو موقع الإنسان المسرحي في هذا المسرح؟ وهل له أصلا موقع، أم إنه موجود خارج كل المواقع؟
وهل هو صاحب رؤية ورأي ورؤيا، وصاحب اختيارات واقتراحات ومبادرات؟
وهل هو صاحب مشاريع فكرية وجمالية وأخلاقية في مجتمع الناس وفي مجتمع العلوم والفنون والفكر؟
وهل هو سلطة إبداعية حقيقية، كما ينبغي له أن يكون، أم إنه مجرد أجير تابع لسلطة المال والأعمال وسلطة السياسي والحزبي؟
وفي غير هذه البلدان العربية السعيدة، قد يرقى الفنان المفكر ليبلغ درجته الاعتبارية الحقيقية في المجتمع، وأن يكون فيه قوة اقتراحية حقيقية، وأن لا يكون مجرد موظف أو مجرد أجير أو مجرد متسول على أبواب وزارات الثقافة وعلى أبواب الهيئة العربية للمسرح؟
تساؤلات لابد منها
والأصل في المسرح أنه فن عاقل، وأن لغاته هي لغات عاقلة وحكيمة دائما، وأين هو العقل الخلاق، وأين هي العقلانية في هذا المسرح المغربي والعربي اليوم، والذي تركز أغلب التجارب فيه على مخاطبة الحواس والغرائز وحدها دون غيرها؟
وأين هي عبقرية المسرح في هذا المسرح؟ وأين هي عبقرية كثير من المسرحيين فيه، ونحن نراهم يتبعون ولا يبدعون، وينقلون التجريب ولا يجربون، ويقتبسون ويترجمون ولا يكتبون؟
وأين هي عبقرية كثير من المدن العربية التاريخية، والتي أعطت للبشرية أكبر وأخطر المنجزات الأدبية والفكرية والعلمية الكبيرة والخطيرة؟
وهذا المسرح الذي نبدعه، نحن ـ الآن ـ هنا، أين هو صوت الواقع فيه؟
وأين هو صوت الحق والحقيقة فيه؟
وأين هي عبقرية اللحظة التاريخية فيه؟
وعندما نجد المسرحيين العرب يعيشون ظروفا مأساوية، ويموتون في ظروف عبثية، فإنه لابد أن نتساءل، وأين هي كرامة المواطن في أوطانه؟ وأين هي كرامة المسرحيين في خرائط المسرح العربي؟
وإذا كان المسرح هو الحياة، في درجاتها الأصدق والأعلى والأسمى والأجمل والأنبل، فإنه لابد أن نتساءل: وأين هي الحياة وأين هي الحيوية في إبداعات المبدع الحي فيه؟
وأيضا، ما هي درجات الإبداع في هذا (الإبداع)؟ وهل ناقل إبداعات الآخرين مبدع؟ وهل سارق الإبداع مبدع؟ وهل مقتبس أو مختلس الإبداع مبدع؟ وهل مسخ وسلخ وتشويه كتابات الكتاب الحقيقيين، تحت عنوان الإعداد والاقتباس والترجمة بكثير من التصرف هو إبداع حقيقي؟
ومع وجود كل هذا الكم الهائل من المترجمات ومن المقتبسات ومن المختلسات ومن المستوردات، ومن التحويرات ومن التحريفات، هل يمكن الحديث عن شيء حقيقي يمكن أن نسميه الإبداع المسرحي العربي؟
والمسرح هو أساسا فن وفكر وعلم وآداب وأخلاق المدينة، وأين هو روح مدنية المدينة في هذه المدينة العربية المتوحشة؟
وأين هي ثقافة المدينة في هذه المدينة؟
وأين هو تاريخها الذي كان، وأين هو تاريخها الذي سوف يكون؟
وأين هو معمارها الهندسي؟ وأين امتداد ات هذا المعمار في مجال الكتابة الفكرية والإبداعية والعلمية؟
وأين هي أزياء هذه المدينة، كما يمكن أن تظهر في المسرح؟
وأين هي ألوانها وأصباغها وأشكالها وصورها؟
وأين هي أضواؤها وظلالها، سواء في حياتنا اليومية، أو في حياة مسرحنا، والذي هو في نفس الوقت صورة ورسالة، صورة للمجتمع الإنساني الحديث ورسالة للتاريخ الإنساني المستقبلي.
إن الأمر اذن، أكبر وأخطر من أن يكون مجرد تأسيس مسرح مختلف، وذلك بتقنيات وآليات جديدة مختلفة، ان الأمر يتعلق ببناء الإنسان الجديد في المجتمع الإنساني والمدنية الجديد وفي الزمن التاريخي الجديد، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي (ان حرية هذا المسرح مرتبطة بحرية هذا المجتمع او هذه المجتمعات، وأن تحرير هذا المجتمع/المجتمعات لابد أن يسهم فيه المسرح، وذلك باعتباره القيم على إعادة هيكلة وعينا وتأسيس رؤيتنا الجديدة للعالم.
إن المسرح الحق هو التعبير الحر للإنسان الحر في المجتمع الحر، فاين نحن إذن، من هذا الفن ومن هذا الإنسان ومن هذا المجتمع؟