غياب فيليب سوليرس.. الوحش المقدس للأدب الفرنسي
باريس-المعطي قبال
روائي، ناقد، ناشر، ألف فيليب سوليرس في انسجام وتوافق بين هذه الميادين والتخصصات من دون أي سعي إلى بناء نظام أو نسق فكري اللهم سوى الانتصار لنسق الكتابة. ظهر في مرحلة الستينيات، أي في ظرفية كانت فيها الثقافة الفرنسية بمختلف أشكالها سيدة المشهد العالمي مع أسماء وازنة وفاصلة في حقل الشعر، الرواية، النقد الأدبي، الفكر الفلسفي من أمثال جورج باتاي، موريس بلانشو، فرنسيس بونج، رولان بارث، لكنه ومنذ البداية احترق بشعلة لوتريامون، مالارمي، الماركي دو ساد، كازانوفا، جيمس جويس وهي أسماء رافقت مشواره ذي الانعراجات الكثيرة والتي كانت تفضي به في نهاية المطاف إما إلى المرأة التي شغلت فضاءاته الروائية وإما إلى المدينة أو كلاهما معا. زاوج بين الشغب والوقاحة وجمالية اللغة الشيء الذي جعل نصوصه إما محط غواية وإما محط نبذ ساخط.
ولد فيليب جوايو ، وهو اسمه الحقيقي، في 28 من نوفمبر 1936 ببلدة تالانس بالقرب من مدينة بوردو. تمنت عائلته أن يواصل التركة ويتكلف بمعمل صنع الحديد الأبيض، لكن وهو طالب بالمدرسة العليا للعلوم الاقتصادية والتجارية بباريس، فضل متابعة دراسة الأدب، خصوصا أنه تعرف على الشاعر فرنسيس بونج الذي بقي مقربا منه.
شد انتباه النقاد بنشره عام 1957 لأول قصة قصيرة بعنوان «التحدي». وقد نالت جائزة فينيون وخصص لها الكاتب فرانسوا مورياك مقالة نقدية في أسبوعية ليكسبريس. عام 1958 أثنى لويس أرغون على روايته الأولى «عزلة غريبة». قدم الأديب الشاب آنذاك على أنه من بين الأسماء الواعدة للموجة الأدبية الجديدة. وستجد الطليعة الأدبية التي كان ينتمي لها ضالتها في مجلة تيل كيل التي أسسها رفقة جان رونيه هيغونان، وجان إيديرن هالييه عام 1960 بمنشورات سوي.
لم يتوقف سوليرس عن التأليف الروائي، إذ كتب رواية «الحديقة» عام 1961 والتي نالت جائزة الميديسيس. خص ميشال فوكو هذا العمل بدراسة نقدية. جاءت فيما بعد رواياته «دراما»، «عدد» لتستقبل بالترحاب من لدن رولان بارث، جوليا كريستيفا وجاك دريدا.
عام 1967 تزوج من جوليا كريستيفا التي فتحت له آفاقا جديدة على العلوم الإنسانية وبالأخص على البنيوية، على الشكلانيين الروس، والفكر النقدي التفكيكي الذي دعا له جاك دريدا والتحليل النفسي الفرويدي واللاكاني.
شكلت ماي 68 بالنسبة لسوليرس وللعديد من المثقفين الفرنسيين نقطة انعطاف مهمة قربت سوليرس من الماوية بصفتها أفقا لكونية الفكر والحياة. إلا أن الكاتب ما فتيء أن ابتعد عن ماركس، عن ماو وأشباههما من الماركسيين للتركيز على البعد الشكلاني للعمل الأدبي وكانت النتيجة نص «جنة» تلاه «جنة 2 ».
عام 1983 أوقف مجلة تيل كيل لتأسيس مجلة «اللانهائي»، وفي نفس الوقت أصدر رواية «نساء» وفي طياتها أرخى العنان للسخرية من المثقفين الذين خالطهم على أشدها. وفي الرواية جاءت جملته الشهيرة التي أسالت الكثير من الحبر: « العالم بين يدي النساء، أي بين يدي الموت».
مثله مثل كبار بعض المثقفين المدمنين على التدخين (سارتر، كامي، مالرو، جان جونيه، رولان بارث الخ…)، كانت السيجارة المثبتة على الغليون، لا تفارق فمه. ويمكن التعرف عليه في الشارع وبالقرب من دار غاليمار للنشر من خلال هذا الغليون.
بين التجريبية والشكلانية والكتابة البيضاء جاءت بقية رواياته مثل «بورتريه مقامر»، «القلب المطلق»، «الحفل بمدينة البندقية»، «السر» و«الأستوديو». طوى الكاتب كل أفكاره وأحلامه الثورية لنقل العصيان والانشقاق داخل الفن، داخل الإيمان والإيروسية. عقد الصلة مع الماركي دو ساد، آرتر رامبو، كافكا، بروست وكازانوفا. منح السيادة في الكتابة لسلطة الشذرات.
في القضايا الكبرى وبالأخص في موضوع العنصرية وتهميش المواطنين ذوي الأصول الأجنبية، كانت لفيليب سوليرس مواقف نقدية ومناهضة للسياسة الفرنسية. وفي مقال صادر بصحيفة لوموند بعنوان «فرنسا المتعفنة»، كتب في لهجة حادة: «لم تفقد فرنسا المتعفنة سيادتها الوطنية بل فقدت سيادتها الروحية».
فيما يخص علاقته بالنساء، احتدى سولرس بكازانوفا لنسج علاقات غرامية مع صحافيات، روائيات وفنانات. وتعتبر علاقته الغرامية بالروائية البلجيكية دومينيك رولان، التي تكبره بـ23 عاما أهم هذه العلاقات. وقد صدرت لدى منشورات غاليمار مراسلته مع هذه الأخيرة.
في آخر نص له بعنوان «الكأس المقدسة»، تساءل الكاتب عن تطور الحضارة الغربية ويوم القيامة. جسد سوليرس بالنسبة لي شخصيا ولبعض المثقفين العرب، (لا ننسى أنه كان المثقف المثالي بامتياز في زمن باريس العربي بصحفه، مجلاته ومثقفيه الوافدين من مختلف المنافي) المثقف الذكي والمتحرر من أسر القيل والقال. مثقفا حداثيا، منفتحا ومنصتا للآخر. لذا جاءت قراءته للنصوص قراءة عاشقة ومبتهجة وكتابته مناهضة للأخلاق المميتة.
في آخر مشواره فتح قوسا على الكاثوليكية، لكنه ما لبث أن قهقه مستشهدا بقولة لبودلير: «لا أحد أكثر كاثوليكية من الشيطان».
في الخامس من مايو 2023 غيب الموت عن 86 عاما واحدا من «الوحوش المقدسة» للآداب الفرنسية، لكن نتاجه سيبقى نابضا في المخيل الجماعي للكثير من القراء.