الوجود في السؤال وفي ما خلف السؤال
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
في كتاب (فلسفة التعييد الاحتفالي في اليومي وفي ما وراء اليومي) يقول الاحتفالي: (ومن طبعية هذه الأسئلة انها مرتبطة ببعضها البعض، وانها تنتمي كلها إلى عائلة فكرية وفلسفية واحدة، وانها تحيا نفس الوجود العقلي، وانها موجودة في سياق تاريخي، و انها مرتبطة ارتباطا عضويا بمسالة الوجود والهوية وبمسالة التطور والارتقاء)
والاساس دائما هو البحث عن الاحتفاليات الأخرى، وقبله البحث عن عن الحيوات الأخرى في الشروط الموضوعية الذاتية الأخرى
في الوقت الذي يسعى بعض الجهات لتدمير هذه الاحتفالية الكائنة فإن الاحتفاليين يبحثون عن تاسيس احتفاليات اخرى ممكنة الوجود.
مؤقتا، ساستعبر لغة ومنطق الذين يتحدثون عن النهايات وحدها، يتحدثون عن الواقع والوقائع بحس عبثي وبرؤية عدمية، اولئك الذين توقعوا نهاية الإنسان، والذين بشروا بنهاية التاريخ، والذين أعلنوا موت المؤلف وموت الكتابة وموت المسرح، واعلنوا قيام القيامة وظهور الدجال او الدجالين.
وأتساءل أمامكم ومعكم واقول، هل فعلا سينتهي غدا، أو بعد غد، فعل الاحتفال وفعل التعييد، ويصبح الإنسان مجرد آلة بلا حياة ولا حيوية وبلا روح وبلا احساس وبلا وجدان وبلا خيال وبلا ذاكرة؟
يقول الاحتفالي (شيء مؤكد ان مستقبل الاحتفالية لا تصنعه النوايا المتفائلة وحدها، ولا النوايا اامتشائمة وحدها، وهو بهذا مرتبط بطبيعة هذه الاحتفالية الحية، ومرتبط بوجودها الحي، ومرتبط، بالقانون الذي يسري على الكائنات الحية، بما فيها الكائنات الرمزية الافتراضية التي من بينها الاحتفالية، وهذا القانون لا يمكن ان يكون إلا قانون النشوء والارتقاء، والذي هيا لهذه الولادة الفكرية والإبداعية ان تنشأ في الثلث الأخير من القرن الماضي، وأن تواصل النمو والارتقاء على امتداد، ثلث قرن، وأن تقاوم الاوبئة والأمراض، وأن تكتسب مع توالي الأيام والأعوام حصانة ومنعة داخلية، وأن تنبت لها ذاكرة حية، وأن يصبح لها لها تاريخها الخاص داخل التاريخ العام، وأن يكون لها ممقع قدم داخل الممالك، الفكرية والإبداعية الحديثة والمعاصرة).
الاحتفالي لا يؤمن بالنهايات التراجيدبة وهو على موعد دائم ومتجدد مع الاحتفال والعيد ومع الإبداع والتجديد، وهو يسأل نفسه دائما السؤال التالي:
وماذا بعد؟
يقول الاحتفالي في كتاب (غابة الإشارات) فبعد كل كتابة إبداعية يتحقق لي شيء من الارتياح وشيء من الرضى عن النفس، ولكنني وبعد ايام او أسابع قليلة أجد نفسي اعيش نفس القلق من جديد، واجد ذلك السؤال القديم يعود إلي ويتحداني، وماذا بعد؟).
في المابعد يسكن المستقبل
بحسب الاحتفالي فإن المستقبل موجود في هذه المابعد السحرية، فبجودها توجد الحياة، وفي، غيابها يحضر السكون والثبات والجمود، و يحضر ألموت، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي ( شيء مؤكد ان من يمتلك هذه الـ(مابعد) هو الكاتب الحي، اما من يضيعها فإنه فإنه لا يمكن أن يكون إلا كاتبا ميتا او مستقيلا او منسحبا او محالا على المعاش، وبهذا فإن أصعب كل المحطات – واخطر ها في نفسي- هي اللحظات الفارغة من الكتابة، ولهذا فقد كانت لحظات مؤثثة بالقلق وبالر غبةرفي،معاشرة الكتابة بشكل جديد).
إنني أتخيل نفسي دائما في موضع المساءلة، واجدني اسأل نفسي، او تسألني نفسي، واجد انني واقفا في قفص الاتهام، أمام مولاتنا الكتابة وأمام مولانا المسرح، وقبل هذا وذاك أمام مولانا التاريخ، والذي هو القاضي الأكبر والأخير، والذي لا يتوقف لحظة عن سؤالي السؤال التالي:
– وبعد كل هذا الذي قلت وكتبت، وكل هذا الشغب الذي شاغبت، هل لديك أقوال أخرى؟
واجد نفسي أقول له:
— نعم، لدي يا سيدي ومولاي اقوال أخرى، وفي كل يوم آخر، لدي قول آخر، ولدي إبداع آخر، ولدي إضافات فكرية وجمالية وعلمية أخرى، ويهمني ان يفهم كل الناس بأن كل أقوال كتاباتي هي أقوال وكتابات أخرى، وإنني أصر على أن اقول هي أخرى ولا اقول هي الأخيرة، لأنه لا شيء اخير في الدورة الاحتفالية، ولا شىء مستحيل في التجربة الوجودية والفكرية والإبداعي الاحتفالية
وهذا الما بعد، ماذا يمكن أن يكون في معناه الحقيقي؟ هل هو نقد الماقبل؟ وهل هو تقويضه؟هل هو قتله؟ وهل هو الكفر به؟ وهل هو عصيانه والتمرد عليه؟
وهل هوتصحيحه وتجميله وعقلنته وتنظيمه وإعادة ترتيبه ترتيبنا جديدا؟
يتتبع الاحتفالي مسار ومسيرة الأنهار الجارية بالمياه المتدفقة، وهو يميز في فكره وفنه بين شيئين اثنين هما مجرى النهر الثابت وبين مياهه المتحولة والمتغيرة والمتجددة بشكل لا نهائي.
والمابعد، كما تفهمها الاحتفالية، لا تعني الانسحاب، ولا تعني الانتحار، ولا تعني التوبة، ولا تعني الندم عن فعل أو عن فكر أو عن موقف سابق، وهي بهذا لا تعني التراجع، وقد يكون لها معنى المراجعة، ومعنى التحيين، ومعنى البعث والنهضة ومعنى إعادة ترتيب الببت القديم ترتيبنا جديدا.
كما أن هذه المابعد، عند الاحتفالي لا تعني تدمير القديم لبناء الجديد، ولكنها تعني تطوير الذات، وتعني تجديد الحالات، وتعني تقديم شهادة الحضور وشهادة الحياة في اللحظة الحية الآن هنا، وذلكومن غير خيانة اللحظات الأخرى، والتي قد نظن أنها انتهت ومضت وعبرت وذابت في الفراغ، وهي بالتأكيد حاضرة في الأجساد الحاضرة، وهي حية في النفوس وفي العقول وفي الأرواح الحية.
وماذا بعد؟
الوجود الحق في السوال عن الحقيقي
أجمل شيء، بالنسبة للاحتفالي، هو أن يكون متصالحا مع نفسه، وأن يكون متصالحا مع لحظته، وأن يكون في وفاق مع ثقافته ومع لغته ومع قناعاته واختياراته ومع نظام عيشه وحياته، وأن يكون كائنا إنسانيا ومدنيا يسأل ويتساءل، وذلك في مواجهة مسألة الوجود وفي مقاربة مسألة العلوم والفنون والآداب والجماليات والأخلاقيات.
وفي الاحتفالية يحضر السؤال دائما، ويحضر ذلك الاحتفالي المشاغب بالأسئلة المشاغبة، ومعه (يحضر هذا السؤال بصيغ كثيرة ومتنوعة ومتجددة، وهو المنطلق في فعل البحث، وهو المبتدأ والأساس، وذلك في عالم لا يتوقف عن اكتشاف الأسئلة وعن ابتكارها وعن تجديدها، وعن إعادة تركيبها في كلمات وعبارات مختلفة، والسؤال المحوري في جسد هذه الاحتفالية هو سؤال الوجود، أن أن تكون أو لا تكون، وحول قطب هذا السؤال المركزي تدور آلاف الأسئلة الفرعية، وهي بهذا تنتمي إلى السؤال المؤسس، والذي تدور في فلكه وملكوته كل الأسئلة) هكذا تحدث الاحتفالي في كتاب اسمه ( فلسفة التعييد الاحتفالي ..).
وبحسب هذا الاحتفالي فإنه (في البدء كان ـ يكون السؤال) ولقد جاء هذا التأكيد على أسبقية فعل السؤال في أول عنوان فرعي في كتاب (فلسفة التعييد الاحتفالي في اليومي وفي ما وراء اليومي) وبالنسبة لهذا الاحتفالي أيضا، فإن أقدم كل الأسئلة هو سؤال الوجود، والذي هو: نكون أو لا نكون، أما أصدق كل هذه الأسئلة فهو سؤال الهوية، أي كيف نكون، والسؤال الثالث هو سؤال: وماذا بعد؟ أي ماذا بعد هذه الكينونة، باعتبارها معطى وجوديا أولا، وباعتبارها مستويات ودرجات واختيارات ثقافية ثانيا، وهي ما بعد هذه اللحظة ـ الآن، وما بعد هذا المكان ـ هنا، وما بعد هذا الواقع والوقائع، ومن خلال هذا السؤال نحاول أن نجد لهذه النحن ـ الآن ـ هنا، حياتها وحيويتها وحضورها وامتدادها وتجددها في ذاك الآتي الممكن.
وبخصوص هذا المابعد يقول الاحتفالي في بيانات كازابلانكا للاحتفالية المتجددة (المفروض في المابعد دائما أن يكون أغنى وأصدق وأعلى وأحلى وأجمل وأكمل وأنبل، وأن يكون أكثر حياة وحيوية، وأكثر حرية، وأكثر بهجة، ولا شيء أجمل من الأمن بعد الخوف، ومن العافية بعد المرض، ومن اليقين بعد الشك، ومن الاحتفال بعد الانتصار).
الفعل الاحتفالي وحرق السؤال
وفعل الاحتفال هذا، وفي معناه الحقيقي، هو فعل بعدي دائما، تماما كما هو يوم العيد، والذي تسبقه أيام أخرى لا تشبهه ولا يشبهها، والتي هي أيام عادية وبطيئة ومتشابهة ورتيبة ومملة قديمة وخالية من الجدة ومن الفرح ومن البهجة ومن الدهشة ومن الغرابة ومن العجائبية، وقد يكون هذا الاحتفال مناسبة تتجدد فيها الحياة، ويتجدد فيها الأحياء، ويتجدد فيها الإحساس بالوجود وبالناس والأشياء وبالأمكنة، وأن يكون أيضا مناسبة لطرح السؤال:
ــ وماذا بعد ذلك الواقع الذي كان؟
وطرح هذا السؤال، بشكل دائم ومتجدد، ليس له غير معنى واحد، وهو أن الحياة موجودة في الآتي، وأن الماضي مجرد صور حية في الذاكرة الحية، والموتى فقط هم الذين لا يسألون ولا يتساءلون عن المابعد، وفي الاحتفالية كثير من الأسئلة، وقد تكون هذه الاحتفالية، في حقيقتها، مجرد أسئلة بعد أسئلة إلى ما لا نهاية، وهي أسئلة يصعب الإجابة عنها بشكل دقيق، وكل ما نعرفه فيها وعنها، هو أنه في كل سؤال من أسئلتها يوجد شيء من الخوف وشيء من القلق وشيء من عشق المعرفة وشيء من التوجس من الآتي، ومن مكر الآتي، والذي قد يأتي أو لا يأتي، والذي قد يكون في وعده صادقا أو يكون كاذبا. ومباشرة بعد الجائحة أصدرت الاحتفالية بياناتها الجديدة، والتي أعطتها اسم (بيانات كازابلانكا للاحتفالية المتجددة) والتي جاء في نعتتها بأنها (بيانات لما بعد الجائحة) وفي هذه البيانات قال الاحتفالي (واليوم، ونحن نصدر هذه البيانات الجديدة، فلكي نحتفل بانتصار العيد على المأتم، وبانتصار الإنسان على الوحش، وبانتصار التلاقي على التباعد، وبانتصار الفرح على الحزن، وبانتصار الحياة الواقعية على الحياة الافتراضية، ونعتبر أن الإنسانية اليوم تعيش حالة التعافي، والتي لا يمكن أن تكون إلا حالة احتفالية بامتياز، وأنه بعد ذلك المرض المرعب، يكون من حقنا أن نعيش فترة النقاهة، وأن نحاول بالفن الجميل وبالفكر النبيل وبالإبداع الجمالي الصادق، أن نستعيد ابتسامتنا الحقيقية، وأن تسترد فرحنا الذي كان، وأن نحاول أن نسترد ذلك الزمن الضائع، والذي هو زمن احتفالي وعيدي حقيقي، حقا، لقد ضيّعت الإنسانية زمنا ثمينا من عمرها، وعاشت شهورا طويلة من الخوف والرعب ومن الشك، وحق لها اليوم أن تعيد للاحتفالية زمنها، وذلك في البيت والشارع وفي السوق وفي المسارح وفي الحدائق العامة وفي الملاعب الرياضية وفي كل الأمكنة المختلفة).
ولقد استطاعت هذه الاحتفالية أن تعيش، وأن تحيا، وأن تتجدد في الزمن ومع المتجدد، لأنها أساسا حالات في أعمار حية متتابعة متلاحقة، وكل عمر من أعمارها له ما بعده، وهي عند (نهاية) كل عمر تطرح السؤال:
ــ وماذا بعد؟
ويتساءل الاحتفالي دائما، بخصوص ذلك الفعل الذي نسميه القطع في الزمن أو مع الزمن، هل هو فعل منطقي وممكن، أم إنه فقط مجرد رغبة راغبين أو مجرد حلم حالمين أو مجرد وهم واهمين؟ فالزمن ليس قطعة قماش يمكن أن نفعل فيه المقص، وليس جسدا من الأجساد الحية يمكن أن نخضعه للجراحة.
وبالتأكيد فإن هذا (المابعد) الاحتفالي لا يمكن أن يشكل قطيعة كاملة وتامة مع ذلك (الماقبل) المأتمي والعبثي الذي ( كان)، لأنهما معا فعل حيوي واحد أوحد، وهما يمشيان ويسيران في نفس المسار، ولكن الفعل الاحتفالي الجديد يسير بإحساس آخر مختلف، وبوعي آخر مغاير، وهو فعل جديد ومتجدد ومجدد، وبغير هذا، فإنه لا معنى لوجوده، والأصل في هذا ( المابعد) العيدي والاحتفالي أن يكون أكثر عشقا للحياة والحيوية، وأن يكون أكثر اقتناعا بأن الفرح الإنساني هو الأصل، وأن الباقي كله تفاصيل)
فالاختلاف بين الماقبل والمابعد، ليس في النوع ولكن في الكيف.
السؤال بين حد التجربة وحد التجريب
ومرة أخرى نسأل أو نتساءل
ــ وماذا بعد؟
هو سؤال ظاهره الرحمة وباطنه القلق، وهو يتردد في ( نهاية) أية تجربة علمية أو فكرية أو جمالية، وأضع كلمة نهاية بين قوسين لأن الفعل الاحتفالي هو فعل دائري وحلزوني، وأنه في هذه الدائرة لا وجود لبداية خالصة ونهائية، ولا وجود لنهاية تامة وحقيقية، وكل شيء في الفعل الاحتفالي له ما قبله وله ما بعده، وله ما هو أمامه وما هو خلفه، وله ما هو فوقه وما هو تحته
وبالنسبة لهذا لاحتفالي المفكر والمبدع، فإن طرح سؤال المابعد (هو أساسا درجة من درجات الفعل والخلق والإبداع، ومن درجات الارتقاء الفكري والعلمي والجمالي والأخلاقي، وهو بهذا شهادة على أن هذه الاحتفالية لها ماض صنعته وأبدعته، وهو موجود خلفها، وأنه بهذا الفعل المؤسس قد أصبح من حقها أن تنتقل إلى الدرجات الأعلى والأسمى والأبعد، وتؤكد هذه الاحتفالية دائما ـ في أدبياتها ـ على أن من لا يملك الماقبل لا يحق له أن يتساءل عن المابعد، وهذه الاحتفالية هي في الأصل حركة في التاريخ، وهي أحد صناع هذا التاريخ الحديث والعاصر، والذي هو تاريخ الفكر وتاريخ الفنون وتاريخ العلوم الإنانسية المعاصرة، إن مهمة التطوير والتجديد والتحيين ليست بالمهمة السهلة، وعليه، فإنه لا يمكن أن يكون لها معنى، إلا بالنسبة لمن له شيء يمكن أن يجدد وأن يطوّر وأن يحيّن وأن يثوّر وأن يجدّد، ومن الممكن أيضا، أن تتم مراجعة هذا الشيء الموجود، كليا أو جزئيا، أو أن يتم تعديله أو تصويبه أو تنقيحه أو إغناؤه بالإضافات الجديدة، وهذا هو ما فعلناه من قبل، وهو نفس ما نفعله الآن هنا، وهو نفس ما سوف نفعله في مستقبل الأيام والأعوام القادمة).
Visited 5 times, 1 visit(s) today