عَوْدٌ على موسى الصَّدر (1)
نجيب علي العطار
لا رَيْبَ، ولا غَرابَةَ، إنْ زُعِمَ أنَّ مُوسى الصَّدرِ، وهو مَنْ هو، لم يزلْ، وربَّما لن يَزَالَ، مِنْ أَكثرِ الشَّخصيَّاتِ قُدرةً على إثارةِ الجَدَلِ، والجِدال، في لُبنانَ ومِن وراءِه العالمَيْنِ العَربيِّ والإسلاميِّ. ولعلَّ هذا الجَدَلَ مَرَدُّه إلى ثلاثةِ ركائزَ تفاعُليَّة أَساسيَّةٍ، وتأسيسيَّةٍ، لدراسةِ «فلسَفَةِ الصَّدرِ» إنْ أُجيزَ لنا التَّعبيرُ. أُولى هذه الرَّكائزِ هي موسى الصَّدر نفسُه وما يمتلِكُ منْ ثقافةٍ واسعةٍ وقُدراتٍ تأثيرِيَّةٍ وتفاعُليَّةٍ هائلةٍ تَبْلُغُ، والعُهْدَةُ على الأدبِ، حدَّ الجَذْبِ حِينًا، وحُدودَ السِّحرِ أحيانًا. وثانيةُ الرَّكائزِ هي مضمونُ الطُّروحاتِ التي طرحَها الصَّدرُ، والثَّالثةُ هي الطَّبيعةُ، أو الشَّكلُ، الذي طُرِحَتْ بها هذه الطُّروحات. ولعلَّ هذه الرَّكائزِ الثَّلاث، وغيرِها، هي التي جَعلتْ من الصَّدرِ، بحسبِ كَثيرينَ أو قَليلينَ، زَعيمًا سِياسيًّا بامتياز.
ورغمَ أنَّ الحَديثَ عنِ الصَّدرِ غالبًا ما ارتبَطَ، بصورةٍ توحي بالتَّلازُم بينَ المُترابطَيْنِ، بالحديثِ عن تكوينِ «هُويَّةٍ سِياسيَّةٍ» للشِّيعةِ في لُبنان، إلَّا أنَّه منَ الإجحافِ، في مكانٍ، أنْ يُختزَلَ الصَّدرُ بالطَّائفةِ الشِّيعيَّةِ بقَدرِ ما هو إجحافٌ أنْ تُختَزَلَ الطَّائفةُ الشِّيعيَّةُ بالصَّدر، إذْ أنَّ القضايا التي تعاطى الصَّدرُ معها وإنْ كانتْ تطالُ الطَّائفةَ الشِّيعيَّةَ بالدَّرجةِ الأساسِ، إلَّا أنَّها كانتْ، أو كذلكَ قَدَّمَها الصَّدرُ، «قضايا وَطنيَّةً» تَطالُ اللُّبنانيينَ الشِّيعةَ، وغيرِهم، بوصفِهم مواطِنين مُنتمينَ، افتراضًا أو ضرورةً، إلى «وَطَنٍ نِهائيٍّ لجميع أبنائه».
وممَّا لا يُفوَّتُ ذِكرُه، عندَ مُقارنةِ موسى الصَّدرِ بِغيرِه منَ الزُّعماءِ اللُّبنانيينَ عُمومًا واللُّبنانيينَ الشِّيعةِ على وجهِ التَّخصيصِ، أنَّ شخصيَّةَ الصَّدرِ الجدليَّةِ لمْ تَتعدَّ حُدودَ التَّنافُسِ السِّياسيِّ، أوِ الأيديولوجيِّ، المَشروعِ. بعبارةٍ مُغايرةٍ؛ إنَّ «الزَّعاماتِ الشِّيعيَّةَ» التي تصدَّرَتِ المَشهَدَ السِّياسيَّ عندَ اللُّبنانيينَ الشِّيعةِ بعدَ إخفاءِ الصَّدرِ، أو اغتيالِه على رواياتٍ أُخْرَياتٍ، سنةَ 1978، لم تَنجَحْ في تَقديمِ نفسِها كزعامةٍ جَدليَّةٍ، كما الصَّدر، فضلًا عن أن تكونَ «زعاماتٍ وطنيَّةً» تتعاطى مع اللُّبنانيينَ الشِّيعةِ، وقضاياهم، بصفَتِهمُ المُواطَنيَّة، هذا إنْ سلَّمنا جَدَلًا أنَّ هذه «الزَّعاماتِ»، وغيرِها منَ الزَّعاماتِ الطَّائفيّةِ، تُريدُ نَجاحًا كهذا النَّجاح. بل إنَّ واقعَ «الزَّعامات الشِّيعيَّةِ» المُتَّصِلَ زمكانيًا ببدايات العام 1980، يُنبي عنِ الزَّعاماتِ الشِّيعيَّةِ الـ «بعد صَدْرِيَّة»، أو الميتا- صَدْرِيَّة، إذا جازَ التَّعبيرُ الأوَّلُ وإنْ أُجيزَ الثَّاني، أنَّها خَضَعَتْ لعمليَّتَيْنِ جيوسياسيَّتَيْن هُما: الفَتْقُ والرَّتْقُ. وفي ظِلِّ غِيابِ الصَّدْرِ مِن جهة، وحضورِ حائِكَيْ السِّجاد السِّياسيِّ من جهةٍ ثانية، واكتمالِ، أو إكمالِ الشُّروطِ البِدئيَّةِ لعملِيَّتَيِ الفَتْقِ والرَّتْقِ، إنشطَرَ الكيانُ إلى كِيانَيْنِ: الأوَّلُ بَقِيَ «مَفتوقًا» والثَّاني صارَ «مَرتوقًا» بخيطانٍ ذوي ألوان. وحينَ اتَّسَعَ الفَتْقُ على الرَّاتِقِ وضاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرضُ بما رَحُبَتْ أُعيدَ، معَ بعضِ التَّصَرُّفِ والتَّكَلُّفِ، تَمثيلُ قِصَّةِ ابنَيْ آدَمَ باللَّحمِ الذي كانَ حَيًّا ذاتَ يوم، وقَدَّمَ كُلٌّ مِنهُما الآخرَ قُربانًا لغَيرِ الله.
إذًا، قدَّمَ المُتنافسَان على «تَرِكةِ الصَّدْرِ» نَفسَيْهِما على هيئةِ كياناتٍ مُتلاغيةٍ ابتداءً، ثُمَّ رُتِقَا، والرَّتقُ غيرُ جائزٍ ههنا، واستقلَّ أحدُهما عن الآخر مُقدِّمًا ذاتَه شخصيَّةً إلغائيَّةً، مارسَتْ إلغاءها جَهارًا في البِدءِ وتقنُّعًا مكشوفًا في المُنتهى، وطالَ إلغاءُها الطَّائفةَ الشِّيعيَّةَ ابتداءً وطوائفَ أُخْرَياتٍ بُعَيْدَ الابتداء. وهُنا تَظهرُ الهُوَّةُ العميقةُ والبَوْنُ الشَّاسِعُ بينَ شَخصيَّةِ الصَّدرِ المُثيرةِ للجَدَلِ وبينَ غيرِه منَ الشَّخصيَّاتِ المُثيرةِ للانقِسام.
ولعلَّ مَرَدَّ هذا الانقسام يتمظْهَرُ في الرَّكائزِ التَّفاعليَّة الموجودة لدى الصَّدر وتلك التي عندَ «الشَّخصِيَّةِ التقسيميَّةِ»: فعلى مُستوى «الكاريزما»، كانت كاريزما الصَّدر عاملًا جاذِبًا لا يَتقيَّدُ كثيرًا بمدى التَّوافُقِ السِّياسيِّ والأيديولوجيِّ معه من جهة، ومن جهةٍ أُخرى لم تكن كاريزما الصَّدر بحاجةٍ إلى دِعايةٍ ضَخمةٍ تُظَهِّرُها، بينما كاريزما الشَّخصيَّةِ الشِّيعيَّةِ الميتا- صَدرِيَّة هي، مِن جهةٍ، بحاجةٍ شِبهِ ضروريَّةٍ للدِّعاية، ومِن جهةٍ أُخرى فقد باتتْ عاملَ جَذْبٍ للمؤيِّدين وتَنفيرٍ للمُعارضين، وبخاصَّةٍ في السَّنواتِ الإثنَي عشرة الماضية. ومَرَدُّ هذه المَثنَوِيَّةِ بالدَّرجةِ الأساس يعودُ إلى الرَّكيزَتَيْنِ، الثَّانيةِ والثَّالثة: أي مضمونِ الطَّرْحِ، وطبيعةِ طَرْحِ الطَّرْح، إذ أنَّهما تتَّخِذانِ طابعًا إكراهيًا يُقدَّمُ بلُغةٍ مُتعاليةٍ مَرَدُّها فائضُ القُوَّةِ الهائلِ من جهة، والممنوعِ منَ الصَّرْفِ بحُكمِ المُعادلات السِّياسيَّةِ اللُّبنانيَةِ من جهةٍ أُخرى.
عودًا على موسى الصَّدر، وبعضُ العَوْدِ ضرورةٌ، إنَّه لمَّا رأى الصَّدرُ أنَّ «أُفقَنا لا يُرضينا. مُجتمعَنا الدَّاخليَّ، عالمَنا العربيَّ، موقعَنا منَ العالمِ الثَّالثِ لا يُرضي طموحَنا»، وانطلاقًا منْ أنَّ عَدَمَ الرِّضى، حتَّى يكونَ مُبرَّرًا، لا بُدَّ أنْ تَلزَمَ عنه «ثورةٌ» أو رغبةٌ في التَّغيير، وحينَ حدَّدَ الصَّدْرُ طَبيعةَ «الثَّورةِ» التي نحتاجُها، وما أحوَجَنا نحنُ اللُّبنانيينَ إلى «الثَّورةِ» أو ما يَحِلُّ مَحلَّها عمليًّا، إشترَطَ أنْ تكونَ الثَّورةُ أصيلةً، أي «ثورةً من طبيعةِ أرضِنا وسمائِنا.. ثورةٌ فكريَّةٌ تَرتَبطُ بقلوبِنا وتُراثِنا وإيمانِنا.. ليستْ مُستوردة». وبِما أَنَّ «الإستيرادَ» يلزَمُ عنه، بالضَّرورةِ، «تصديرٌ» ما، فإنَّ انتفاءَ الحَاجةِ إلى «الثَّورةِ المُستورَدةِ»، على حدِّ تَعبيرِ الصَّدْرِ، يَعني، بالضَّرورةِ نفسِها، انتفاءَ الحاجةِ، والمُبرِّرِ، لـ «تصديرِها».
Visited 4 times, 1 visit(s) today