جورج بولي: غاستون باشلار والوعي النقدي (2- 4)

جورج بولي: غاستون باشلار والوعي النقدي (2- 4)

  ترجمة: سعيد بوخليط

    هكذا، توضحت سلفا وفق إحكام مذهل، لبنات سبيل مَهَّدَ خلال سنوات قليلة، أمام الفكر الباشلاري، أفقا كي يبلور  رويدا رويدا، مخطط وجهة كبيرة أخرى تخلى بحسبها، ذات يوم عن ”التأمل الموضوعي”، ثم بلوغه دون انتقال وجهة نقطة تعتبر الأكثر بعدا في الحياة الذهنية،أقصد التأمل الشعري.

   يمكننا تصور هذا الانعراج في شكل ارتداد سلس، انتقال تدريجي من قطب صوب آخر. لم يوضح أيّ شخص بكيفية جيدة أفضل من باشلار، سهولة الذكاء التضليلية وتبدله  مكتسيا وجدانيا، صيغة ألف فارق دقيق، بالتوافق مع ألف شكل سرِّي للأساطير، تجعله يتحول بليونة نحو ضده.

   مع ذلك، يكمن المثير لدى باشلار،في الغياب المطلق للمساومة. هناك بالنسبة إليه محور القصيدة، ثم محور العلم. يقول: ”يصعب بالتأكيد تحقيق التوازن بين الحلم عبر التأملات الشاردة، ثم التفكير بالأفكار”، ويضيف: ”إنهما مجالي حياتين مختلفتين. يبدو لي من الأفضل الفصل بينهما” (17). بشكل واضح جدا، فقد أقرَّ في نص آخر: “لاتركيب بين المفهوم والصورة” (18).

   منذئذ، اتضح لدى باشلار بأنَّ الانتقال من نقيض إلى نقيض، لايحتمل مستويات الدرجات. بالتالي، إن اقتضى الأمر تغييرا، فلا يمكنه التحقق سوى بضربة واحدة ثم جذريا. هكذا، يحدث في الحال الانتقال من عالم إلى آخر، ويغدو ذاتا من كان موضوعا. أو حسب تعبير الجملة الإنجيلية، الانحدار من الأعلى إلى الأسفل، ثم ارتقاء من الأدنى غاية الأعلى.

   نادرا مانصادف عند كاتب نموذج ظاهرة تماثل جذرية التأرجح تلك. أيضا، يصبح أكثر ندرة العثور على مثال فيلسوف يرتكز فكره تحديدا على الاحتماء ضد تغيير من هذا القبيل. قد نفكر في تطور بعض الشخصيات السياسية. يحدث بنفس السرعة التي يكشف عنها سياق من هذا القبيل، ينطلق من سبل يسارية نحو جهة اليمين، تبعا لمسار مجازي يشبه غموض خدعة سحرية.

   بغتة ينكشف باشلار بطل الفكر الموضوعي، مرتديا رداء الفكر الشعري. لكن، مامصدر هذا الانقلاب للقيم؟ كيف نبرِّره؟ هل هناك تراجع ؟ هل عكَّرت القصيدة صفو الذكاء اللامع جدا للعالِم؟ يتمرس على إيقاع أبحاث داخل عالم حيث يقيس وفقه بشكل أفضل من شخص آخر، قوة الإثارة، فهل اقتنع أخيرا بصوت حوريات البحر؟

   نبتعد كثيرا عن طريق الحقيقة، ويمثل تأويلنا في الوقت نفسه عبثا وإجحافا حين تصور مسار هذا الكائن المذهل، العبقري بامتياز، مثل عالِم سابق ترهَّل ثم تهاوى إلى صف الشعراء. يستحيل تمييز أقل التباس، ضمن إطار التأرجح الذي منح باشلار إمكانية انتقاله بين القطبين. يجري كل شيء لديه بكيفية مباشرة، صريحة، تحت ضوء ساطع.

   أخيرا، تبدو غريبة طريقة الحسم التي تبلور وفقها البديل مثلما استدعاه الفكر الباشلاري، بحيث لم يحدث قط تغير على مستوى وضعية الراية أو تخلى عن مواقع شغلها سابقا.

   كي يصبح باشلار شاعرا، لم يتوقف خلال الوقت ذاته أن يكون رجل علم.لقد تمسك في الآن ذاته، بوضعية هذا وذاك، ليس حتما جراء فعل فكري متزامن، بل نتيجة حركة بندول تجعله ينتقل إيقاعيا من الواحد نحو الثاني، بين وضعيتين أساسيتين لفكره.

   باختصار، بعد فترة تردّد يعتبر من الضروري الحديث عنها، يتجلى هذا الفكر ليس أحاديا ولكن مثنى، قادرا على أن يكون هذا أو ذاك.

   يعني التغيير التناوب؛ يعكس تحقيقه ذهابا نحو أقصى موضع يناقض الموقع الذي شغله سابقا، لايقل خصوبة، أو سخاء دعوة الدفاع عنه، لكنه ليس بالصرامة المطلوبة التي يتوقعها ضيف المجال الجديد على مستوى تخلصه بكيفية أقل من منظومة اعتقاداته القديمة

   إجمالا، يكمن لدى باشلار، تباين مطلق بين وضعيتين متباعدتين، لكن دون أقل ارتياب في الجدل. لايعني هنا صراع الأطروحات المتعارضة الترتيب قصد بلوغ تركيب توفيقي. لكن انصب سعيه بالأحرى صوب إبراز اختلافات نمطين فكريين متضادين وتبيان ذلك وفق صيغة تشي بانعدام أيّ حظ للتسوية :”لقد أنجزتُ مسارين فيما يتعلق بوجودي !” كم المرات التي ترددت خلالها تلك العبارة، أساسا بين مسامع المحيط القريب من باشلار! يلزم إدراك المسارين، تلك الثنائية الوجودية، ليس كوسيلة تتوخى مضاعفة العلاقات بين وجهات نظر متباينة، لكن على العكس مثل وجود ثنائي حسب مبادئ متباينة يظل في إطارها الفاعل الرئيسي مخلصا باستمرار، أيضا يقتضي الإخلاص الارتباط بآراء متعارضة. إذن، لم باشلار قط بالتوفيق بين ما لايقبل التوفيق.

   في المقابل، ينطوي تصوره بالأحرى على إبراز خط فاصل للحدود،سواء وفق هويته الخاصة أو قياسا لكل الأفكار، يحافظ عليه بكيفية صارمة، مركز وحيد ماسك بخيط الضبط، حتى لايتسم أبدا مخططه بالاضطراب. لاشيء أسوأ، في منظور باشلار،غير محو الحدود الذهنية، لأنَّ ذلك يستتبعه غموض على مستوى مفاهيم الفكر العليا.

   مع ذلك، خلال حقبة كونه عالِما شابا مولعا بالحقيقة العلمية، ولم يصل بعد وجهة الموقع الثاني النهائي الذي اختاره قصدا، أدرك باشلار مجازفة انتقاله صوب الضفة  الأخرى من الحدود، وقد انشطرت بكيفية واضحة جدا حياته الروحية؛ تحديدا مجازفته بإمكانية استسلامه للتلوث، ويصير منخدعا بنشاط يعتبر مثلما يقول: “منطلقه المبدئي مهجَّن”. (19)

   أولا، قصده الأساسي الذهاب كي يراقب، في عين المكان إذا أمكننا القول، ضمن سياق وعيه الباطني، الخسائر الناجمة عن الذاتية. إنه موظف متحمِّس لجمارك تعبر المناطق الحدودية كي يستلهم معرفة مباشرة بخصوص المخالفات التي ترتكب بخصوص القوانين التي تحكم التبادلات بين  المناطق المتجاورة، هكذا يغامر باشلار، ليس بلا نوع من الرهبة، داخل حميمة ذاته: يحثُّ على تناول حيّ لممارسة الخيال الشيطانية، لكنه يعترف في نفس الوقت بالخاصية الخطيرة لهذه المهمة.

   حين مقاربة باشلار لفضاءات يمضي داخلها تَتِّسم على حد سواء بكونها مألوفة غدرا ثم مقزِّزة بكيفية غريبة، نعتها بـ:”منطقة موضوعية غير خالصة تتداخل ضمنها الحدوس الشخصية وكذا التجارب الموضوعية” (20).يفكر في المخطط الذي يتوخى إنجازه، بالتالي يكتب: “لاتنصب مهمتي على أن أدرس حاليا التحليل النفسي للأنا، بل اقتفاء أثر أخطاء فكر يبحث عن الموضوع” (21). مهمة مزعجة، تغافلت عن الخير، وانكفأت نحو  الشر، حتما قصد الإبلاغ عن الأخير، لكنه يعيش التجربة داخليا. الشر استبدال البحث عن الموضوع، بالبحث داخل الذات، وعن الذات. يقول: ”عند الانتقال صوب ذواتنا، نتحول عن الحقيقة. حينما نختبر تجارب باطنية، نناقض حتما التجربة الموضوعية”. (22)

   لاشك إذن حينما مضى باشلار بأنظاره نحو الأنا، متقصيا وإن بناء على أفضل النوايا، معطيات العالم الباطني الملتبسة، فقد غمره إحساس اقترافه فعلا خطيرا، بل مشبوها ذهنيا، يشكل مجازفة على مستوى تكامل فكره وصفاء نظرته. أليس الانسياق خلف أهواء الشر، تبنيا لمسلك قوامه تحديدا استبعاد الحقيقة؟

   ألا تلزم وشاية باشلار بخداع الفكر الذاتي، البدء باختبار على نحو ما، أضرار سلطة مخادعة في ذاتها، الارتباط حتما بطبيعتها الخاصة، مادام أنه يميز داخله، بسخط، مصدرها الحي؟ باشلار الذي توخى بكل الوسائل الفصل بين نمطين فكرين متناقضين، سيصادفها حاليا داخل أناه، ممتزجين الواحد داخل الثاني، تحديدا مثل تداخل الخطأ بالحقيقي. من هنا، تكمن لديه إرادة التقويم، التشذيب، التفنيد. بدت له كل الحياة الفكرية،  نشاطا ملتبسا، ماكرا ولاشعوريا، ينبغي المبادرة إلى تطهير مهما كان الثمن: “غايتي: علاج الذهن من غبطته، انتشاله من النرجسية التي تتأتى له نتيجة البداهة الأولى”. (23)

   علاج الأنا بواسطة إبطال مفعول التأمل الشارد لهذه الأنا، بحيث يخلو الذهن سوى من فكر غير ذاتي، هكذا وصفة العلاج المقترحة من طرف باشلار ونعتها غير مامرة بتحليل نفسي للمعرفة الموضوعية: ”يلزم على تحليل نفسي للمعرفة الموضوعية استبعاد مختلف الاعتقادات العلمية التي لاتبلورها تحديدا التجربة الموضوعية” (24). “ينبغي على التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية العمل على تغيير لون، بل محو، هذه الصور الساذجة”(25). “قبل الانخراط في معرفة موضوعية ما، يتحتم إخضاع الفكر للتحليل النفسي”. (26). “هكذا يجب على كل ثقافة علمية البدء بتطهير ذهني ووجداني”. (27)

   لكي يرضي باشلار شغف مثاليته بخصوص المعرفة الموضوعية، التي يستدعيها هنا، وإلا تخليه، مثلما يقول، عن عقلانيته الخاصة؟ يقصد هنا تخليه عن ”خاصية”هذه العقلانية، وفرادتها ثم توافقها مع فكر الشخص الذي يطبقها: “دون هذا الاستغناء الواضح، والتجرد من الحدس، ثم التخلي عن الصور المفضَّلة، لن يتأخر قط البحث الموضوعي في أن يفقد ليس مجرد خصوبته، بل وسيلة اكتشاف”. (28). تجريد أشبه بالذي يمارسه المتصوفة، قاد العقلاني  باشلار إلى الرفض كي يقيمه إلها داخل ذاته، يشكِّل ضمن السياق الحالي، الحقيقة العقلانية الوحيدة.

    يتطلع باشلار نحو بلوغ فكر يتنازل عن ذاته كليا، بغير الإيحاء نحو استشراف تحولات الكائن إلى ذات انمسخ لونها، بلا حس يذكر، أفرغت من كل نزوع أو سمة شخصية، كما نجدها عندها أنصار مذهب الطمأنينة من نمط  جين بوفير.

   حتما، على غير هدى سبيل من هذا القبيل، لايتعلق الأمر قط عند باشلار باختزال الفكر إلى مجرد انفعالية جوهرية، لكن الفعل الذي وفقه يتحول الفكر نحو طاقة ذهنية غير شخصية تماما، لايقتضي مثل ديانة ورع ضرورة أقل صرامة ولا ربما مثالا أقل علوا. عموما، يكمن المثير سواء عند الأول كما الثاني، في جذرية خاصية التطهير.

   تضمنت جل صفحات أعمال باشلار الابستمولوجية منذ عمله”دراسة في المعرفة التقريبية” غاية ”فلسفة النفي”، إشارة تضمنت تصورا لهذا الهدف: بلوغ فكر تسامى عن الوجداني والخيالي، قصد وصوله بفضل هذا الاستئصال، ذاك الوضوح المثالي لفكر تَمّ تحليله نفسيا وصار جراء ذلك موضوعيا حصريا.

   النموذج المثالي عند باشلار، يجتهد في خضمه عبر آلاف العبارات، الاتهامات، الإرشادات،كي يتيح المجال أمام وضوح أكثر حدَّة.لم ينجح أيّ شخص أفضل من باشلار بخصوص تقسيمه الحياة الذهنية إلى جانبين متباينين، لكن بتحقيقه هذا الانقسام، والفصل بين منحيين، يحصل على نتيجة غير متوقعة. التحليل النفسي للحياة الموضوعية، يقتضي أيضا تحليلا نفسيا للمعرفة الذاتية. فلا يمكننا تطهير أحدهما دون تطهير الثاني.

  مثل جوهر مختلط، يتألف من عنصرين فَصَل بينهما التحليل،انشطرت فجأة حياة المفكر إلى صيغتي نشاط  تحظى لديه بأهمية متساوية، حيث أتاحت العملية التطهيرية التي فصلت أحدهما عن الثاني، إمكانية التحرر والتطور داخل استقلالهما الذاتي.

   لايوجد فقط فكر موضوعي تخلَّص من الذاتية التي تعكر صفوه، بل هناك أيضا فكر ذاتي – هذا التأثير عند باشلار،غير مقصود، أو متوقع لكنه أكثر خصوبة من السابق- تبلور وفق كل تجليات بهائه خلال لحظة أعفى نفسه من مسؤولياته وكذا واجباته بخصوص الموضوعية العلمية.

   هكذا قصد باشلار، مثلما فعل الوالدان في سيناريو الحكاية الخرافية المعنونة بـ”الأصبع الصغير”، التخلص من أطفال فكره وسط تلك الغابة الكبيرة، ثم رأوه يعود ثانية حاملا ثروات وينثر أقوالا ذات إحالات مدهشة.

هامش:

(1) مصدر المقالة:

George poulet :La conscience critique ;troisième édition ;1986  PP :175-209 

 (17) شعرية التأمل الشارد، ص 152

 (18) نفسه ص 45

 (19) التحليل النفسي للنار ص 9

(20)  نفسه ص 12

(21) تشكل الفكر العلمي ص 98

(22) التحليل النفسي للنار، ص 16

(23) نفسه ص 15

(24) نفسه ص 142

(25) تشكل الفكر العلمي،ص 78

 (26) فلسفة النفي، ص 25

(27) تشكل الفكر العلمي،ص 18

(28) نفسه ص 248

Visited 12 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي