بين الذكر والأنثى (2)
د. إبراهيم حلواني
الجزء الثاني: الطبيعة تجد دائما مسالكها
صراع الغريزة والمجتمع
الغريزة تدفع باتجاه، ولكن أمن المجتمع يدفع باتجاه معاكس.
كلّ من يقرأ التاريخ يدرك أنّ الحياة الاجتماعية للإنسان قديمة قديمة، ترجع إلى مئات آلاف السنين. ولا يمكن التكهنّ في الحال التي كانت عليها العلاقة بين الذكر والأنثى عند البشر في العهود الغابرة، قبل عشرة آلاف سنة مثلا.
لا شك أنّ قصص الحبّ والغرام كانت موجودة، وأنّ الغزو والسبي والاغتصاب كانت من الأنشطة الرائجة التي تقض مضجع الجميع.
أذكر في هذا المقام ما كشفه التاريخيّون عن تزاوج بين أجناس بشرية مختلفة، مرّاتٍ عديدة، في فترة تمتد بين 40 إلى 200 ألف سنة: الإنسان الحديث، أي جنسنا، وإنسان نياندرتال وإنسان دينيسوفا (اللذين انقرضا). هل كانت تلك أحداثَ غزوٍ وسبي حينها، أم قصصَ حبّ وهروب في قطار الغرام؟ لا نعرف منذ متى بدأ مفهوم العِرض والشرف والزواج ولكن من المؤكد أنّ ذلك بدأ قبل أكثر من 4 آلاف سنة من الآن، وأكاد أجزم أنّه بدأ قبل ذلك بكثير. وأجزم أنه بدأ بسبب كثرة المشاكل ووجع الرأس. هناك ذكر وأنثى … إذن هناك مشاكل ووجع رأس … وأولاد، … وأحيانا خيانة سرعان ما يتبعها ندم أو حتى … جريمة شرف.
إذا رجعتَ 4100 سنة في التاريخ ستجد بداية ظهور الشرائع المكتوبة عند السومريين، وأحد همومها الزنى والخيانة الزوجية والاغتصاب.
في مصر الفراعنة كان الزواج واحترام المرأة قائمين، ولكن النصوص المدونة في ذلك لم تظهر عندهم إلا منذ 500 ق م، والزواج بأكثر من واحدة كان واردًا. ولكنهم وضعوا عقوبات قاسية على المغتصب والزاني بلغت حدّ الإعدام.
الأعراف الاجتماعية والدين والتشريعات القانونية لم تكن موجودة في البداية. ولكنّ تطور المجتمع وعيش البشر على مسافات متقاربة، في قرى أو مدن، وحاجتهم إلى ما يجنبهم المشاكل ويكفل لهم الأمن وصحّة العيش قبل أن يداهمهم وجع الرأس، هو الذي دفع إلى نشوء الأعراف وأحكام الدين والقانون كحدود مهمّة لتنظيم الحياة وتحسين واقع العيش عبر ضبط الغريزة الجنسية.
المجتمع الإنسانيّ القديم والأديان السماوية رفضت العلاقة بين الرجل والمرأة خارج إطار الزواج.
- الديانة اليهوديّة أباحت تعدّد الزوجات ولم تحدّد سقفًا، علمًا أن بعض الحاخامات في أوروبا، ولأسباب سياسية ظرفية، أفتوا بالاكتفاء بزوجة واحدة.
- الدين المسيحيّ قدّس العلاقة بين الرجل والزوجة إلى حدّ فرض الزواج الأحاديّ.
- الشرع الإسلاميّ سمح بتعدّد الزوجات، أربع على الأكثر، شرط العدل والاقتدار، وشجع على الاكتفاء بزوجة واحدة.
- عند البوذيين الزواج هو شأن علماني يتم حسب قانون البلد، ولا شريعة دينية تحدده.
طبعًا، الأعراف وأحكام الدين والقانون نجحت إلى حدّ بعيد بتنظيم الحياة في المجتمعات، ولا يمكن تصوّر الحياة بدون تلك الحدود.
ومع ذلك، كلّ الدلائل تشير إلى أنّ آفة الخيانة ومظاهر الاغتصاب والشذوذ بقيت قائمة في المجتمعات كافّة، ولو بدرجات متفاوتة.
ما حال مجتمعاتنا اليوم؟
شرائع الأديان الثلاثة تقضي بإنزال عقوبة شديدة بالزاني والزانية، فلماذا لا تطبق؟ هي لا تطبق الآن ولم تطبق عمليًّا في الماضي. يكمن السبب في صعوبة تحقيق الشرط المتشدد: إيجاد 4 شهود.
إلى ذلك أعتقد أنّ وراء الأمر أسبابًا تخفيفيّة وإدراكًا مبطنًا للحقائق الطبيعية المحيطة بالظرف. من المفيد هنا، عزيزي القارئ، أن نتذكر ما أشرت إليه في الجزء الأول: لماذا الرجُلُ دائمً;عينو لبرّا؟
من حيث العلاقة بين الذكر والأنثى، لا تبدو مجتمعاتنا والمجتمعات الغربية في أفضل الأحوال، ولكن يمكن القول إنها تعيش الممكن.
أعني بذلك أنّ الوصول إلى الوضع المثالي – لا خيانة، لا اغتصاب، لا تحرش – هو أمر مستحيل، وأكاد أقول إنه أمر غير طبيعيّ.
في الغرب، بعد الحرب العالمية الثانية وبعد الأزمات الاقتصادية وخروج المرأة إلى سوق العمل وازدياد الاهتمام بحقوقها، كثرت حالات الطلاق وأصبح الزواج أمرًا شاقًّا، مما أدّى إلى تحرّر العلاقة بين الذكر والأنثى من القيود فتأخر سن الزواج، ولم يزل يتأخر.
في الغرب، العلاقة بين الفتى والفتاة قبل الزواج وبالرضى لا تعتبر عيبا وهي غير محرّمة اجتماعيًّا أو قانونيّا. ومع ذلك ما زالت الغربيّات تتألمن من خيانة الزوج … أو العشير، والنسب غير قليلة: بين 20% و 50%. وما زالت حالات الطلاق في ازدياد، والنسب غير قليلة: بين %30 و 60%.
في المجتمع العربيّ، يختلف مجتمعنا عن المجتمع الغربيّ برابط أسريّ أقوى ونسب خيانة وشذوذ واغتصاب أقلّ (ربما). تكاد لا تجد في مجتمعاتنا مساكنة أو أمهات عزباوات، كما في الغرب.
ولكن التحرّش يكاد يصبح آفة خطرة في بعض الدول العربية، خاصة حيث التشدد الديني والاجتماعي.
لك أن تتصور كم يعاني شبابنا وبناتنا نتيجة الكبت وعدم القدرة على الزواج، وما ينتج عن ذلك من مشاكل وأزمات نفسية قد تقود إلى مخاطر ليست في الحسبان، وليس أقلّها المخدّرات.
الغرب وجد حلًّا لهذا الواقع بتحرير العلاقة بين الذكر والأنثى قبل الزواج. المجتمع العربي لم يستطع حتى الآن اعتماد هذا الحل بسبب الحضور الدّينيّ القويّ، ولم يستطع ابتكار حلّ آخر يتوافق مع الواقع الديني الاجتماعي. إذا لم يجد القيّمون على أمورنا حلولا معقولة، فسوف تحفر الطبيعة قنواتها بأظافرها، ولعلها بدأت بالحفر.
الحبّ والمودّة والرحمة من ضرورات الحياة
لننسَ قليلًا أمر الخطيئة عند البشر، ولنتنسّم لطائف الحبّ والمودّة:
يهرب منه النوم إذ يطارده لحظُ عينها وبسمُ سنّها، يتنسم رائحتها من بعيد، يتلمس الكتاب الذي تصفحته بالأمس، يرى في شقوق نافذتها البالية لوحة تجريد، ويسمع في قرقعة سيارة أبيها نغمًا يراقص قلبه !هو الحبُّ والغرامُ والهوى، لا بدّ أنك سمعتَ عنه الكثير وعشتَه لفترة.
لولاه لما اقترب سعدٌ من سعْديّة، ولما خطب إبراهيم ابنة جارتهم فوزية، … ولما عشتُ لأكتبَ ما تقرأ الآن. ولا بدّ أيضًا أنك عرفتَ رجالًا اشتروا دفءَ بيتهم وأُنسَ حياتهم وبسمة أولادهم متخلّين عن الباقيات الموَسْوِسات. وأنك عرفتَ رجالًا آثروا استعفافًا على رؤية دمعة في عينها، فردّوا أنفسهم إكرامًا لها وتقديرًا لموقهعا ولطفًا بشعورها وصونًا لعهدها.
ورجالًا وقفوا لها عند ضعف، وسهروا عليها حين مرض. ورجالًا ترفّقوا بها عند كلّ خطوةٍ في طريق الحياة الشاقّ، وما زالوا. إذا تابعتَ القصص والدعوات غير البريئة وأخبار تجارة الجنس في الإعلام والمقالات المشبوهة، فقد تظن أن الدنيا كلها فسدت.
أدعوك لتنظر في الواقع الحقيقيّ: الخير والحبّ والعفّة ما زالت كلّها في وفرة.
يشترك نوعنا الإنسانيّ مع الأنواع الحيوانيّة الأخرى، خاصة الثدييّات والرئيسيات، في كثير من المظاهر البيولوجية والانفعالية. ولكن، إلى ذلك، نشأت
لدينا آفاق ذهنيّة وعاطفيّة من الصعب علينا أن نتخيّل وجودها عند الحيوان، مثل: الشهامة، الكرم، الأمانة، التعفّف، الزهد، الاحترام، الإخلاص، … والحبّ بكلّ وجوهه.
في علم الاجتماع التطوري، القيم الإنسانية، من مثل ما ذكرتُ، ليست شرائع وضعها الإنسان ولا قيمًا اختارها لأنها أعجبته، بل هي صفات نَمَتْ في ثنايا وجدانه واستوت في شعاب عقله وذهنه عبر عشرات الآلاف من السنين.
علم الاجتماع التطوري يرى في تلك القيم الإنسانية ضرورة أوجدتها الطبيعة – المؤمن يقول أوجدها الله – كوسيلة لتحسين شروط العيش، وبالتالي لاستمرار النوع.
منذ متى بدأت تلك القيم الإنسانية؟ … منذ قرون سحيقة.
إذا عدت 4000 سنة إلى زمن البابليين وقرأت شرائع حمورابي وغيرها من الآثار المكتوبة ستجد أن قيمهم تكاد لا تختلف عن قيمنا الآن. ذلك يدلّ على أنّ منسوجة القيم الراقية عند الإنسان بدأت تُحاك قبل ذلك بكثير.