مقاومة الحياة العارية في كتاب: سودانيات جسورات ضد العنف
لحسن أوزين
تاريخ السودان الحديث والمعاصر يشهد على الحضور الوازن والفاعل لنساء السودان. فقد ناضلن من أجل الحرية والتحرر والاستقلال، كما ناضلن سياسيا واجتماعيا وثقافيا ومدنيا من أجل نظام سياسي وطني ديمقراطي شعبي لكل مكونات الشعب. وخضن صراعا طويلا ضد قوانين فاشية نظام العسكر، وشريعة الجلد والقهر للإسلام السياسي. دون أن ننسى صمودهن في وجه السلطة الاجتماعية في وصايتها وحجرها العبودي على النساء.
لذلك فإن ما يحدث اليوم هو نتيجة غياب الوعي التقاطعي داخل القوى الحية بين الطبقي والنسوي والاثني والديني واللغوي…، مع الاعتراف المتبادل بين مختلف المكونات السوسيولوجية والثقافية التي يتشكل منها البعد الوطني والديمقراطي للبلد السودان. وهذا الوعي في الصراع ضد مختلف أشكال التسلط السياسي العسكري والديني الأيديولوجي للحركات الدينية الاسلاموية، كان حاضرا الى حد ما في وعي السودانيات. وذلك انظلاقا من تجاربهن وخبراتهن في وجه القهر والقمع الصادر من قوانين الدولة وشرائع الاسلامويين والرقابة المجتمعية التي استبطنت هذا القمع السياسي، والقهر الديني. فكان المجتمع حليفا من حيث لا يدري- بلا وعي- للاستبداد بكل أقنعته السياسية والقانونية والدينية.
يأتي هذا الكتاب” سودانيات جسورات ضد العنف” ليعرف بالوعي والمعارك المتقدمة التي خاضتها النساء طويلا في وجه كل أقنعة مختلف الفاشيات السياسية والدينية والمجتمعية. وقد تورطت في هذا الوحل العطن، الذي أسسه النظام العسكري، القوى البديلة، وهي تتفرج على ظلم وقهر وإقصاء النساء ليس فقط من دائرة الاجتماعي والسياسي والثقافي، بل بشكل أكبر من دائرة الانتماء الإنساني. ويتضح هذا في قبول هذه القوى اليسارية والتنويرية بالفكر والأخلاق والثقافة والقيم الاجرامية التي تربط بين الاغتصاب والاعتقال والشرف. دون امتلاك هذه القوى القدرة الفكرية والسياسية والأخلاقية والدينية على الانتصار لكرامة النساء باعتبارهن جزءا عضويا حيا من كرامة المجتمع ككل. وأن الاغتصاب والظلم والاعتقال والقهر سياسات وممارسات فاشية تعني كل فئات المجتمع ومكوناته. عوض النظرة القاصرة و المتخلفة الى النساء المناضلات اللواتي تعرضن للاعتقال والاغتصاب، بوصفهن بغايا ومنحلات وفاسدات. ضد هذه النظرة المتحيزة للنظام الأبوي في نزعته الذكورية المشبعة بالقهر والذل والاحتقار للقيمة الإنسانية لهؤلاء النساء، كان من اللائق مبدئيا وأخلاقيا ومعرفيا وسياسيا وواقعيا الاحتفاء بآلامهن وتكريمهن في نضالهن بوصفهن سودانيا جسورات ضد العنف، والتسلط والاستبداد السياسي والديني.
في هذا الكتاب الذي كتبته بحرقة عذابات الألم مجموعة من السودانيات القويات والجسورات بكل المعاني الإنسانية في الدفاع عن الحرية والعدالة والكرامة، لا يمكن للفاعل المدني والسياسي والاجتماعي، و للقارئ المهتم، والمفكر الباحث، المنخرطين جميعا في النضالات الإنسانية ضد الظلم والقهر والاستعمار والديكتاتوريات، ومختلف أشكال التمييز العنصري و الاثني والطبقي والجنسي…، وفي وجه كل أنوع الإبادات التي تتعرض لها شعوب ثارت ضد التسلط والاستبداد، في تحالفه مع القوى الغربية، سواء في شخص دولها الحاكمة، أو من خلال شركاتها المسيطرة والمهيمنة، اقتصاديا وسياسيا وإعلاميا وعسكريا، في ظل الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة. إنه تحالف رهيب صامت وقاتل للقيم الإنسانية والحريات الديمقراطية، ولكافة الحقوق الإنسانية ولمعركة التحرر والسلام العالمي…
نعم لا يمكن لكل هؤلاء أن يتجاهلوا عظمة النضال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والجندري والنسوي الذي تخوضه سودانيات جسورات ومكافحات ضد مختلف أشكال العنف السياسي والاجتماعي والأبوي والثقافي والديني…
يجد القارئ نفسه أمام كتاب ثري ومؤلم وموجع وتراجيدي الى حد تجسيد روح العنقاء التي تنهض من جديد معلنة تمسكها بالحياة. أو بوصفهن أقرب الى جمرة السنديانة التي تشتعل نورا وضياء في وجه فظاعات عتمات التوحش السياسي والعسكري والديني والابوي الاجتماعي الثقافي.
ثراء الكتاب في كفاحه الميداني السياسي والاجتماعي ضد مختلف أنواع التسلط القهري الاستبدادي والديني والمجتمعي. في قدرته على الفعل والحضور والصراع إثباتا للذات في الحضور والوجود والكينونة، وفي انتزاع الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والمجالية في الفضاءات العامة والمؤسسية والثقافية والسياسية.
وكونه كتابا مؤلما، وموجع، يكمن في المس والهدر للقيمة الإنسانية للنساء، من خلال مختلف أشكال المذلة والمهانة والفظاعة التي اكتوت كرامة النساء فيها بحرائق التسلط السياسي والديني والمجتمعي والثقافي… باسم القانون والشريعة والأعراف تم التنكيل بهن بالاعتقال والجلد والتعذيب والاغتصاب والقتل والأسر والتهجير…
وهو كتاب تراجيدي في واقعهن المأساوي المظلم والظالم، في عدم اعتراف هؤلاء النساء الجسورات، بما يسلط عليهن من قهر ونفي وإقصاء، ليس واقعا طبيعيا، أو قدرا مصيريا محتوما، بل رفض بوعي هذا القدر البشري المسيج إلهيا بمقدس بهتان الاسلامويين. فمارسن ميدانيا مختلف أشكال الفعل، والممارسات الكفاحية والنضالية والثقافية. دون تردد أو خوف قمن بالتصدي لكل البشاعات التي قللت من شأنهن، كالقوانين السياسي والدينية والمجتمعية الأبوية ذات النزعة المركزية الذكورية، التي قذفت بهن الى مستوى متدن، ما دون خط البشر، قيمة وحصانة وكرامة إنسانية.
فرغم اللآلام الموجعة والعذابات الرهيبة، تمسكن بنظرة إيجابية نحو خبرتهن وتجاربهن المؤلمة. مع تقدير كبير لذواتهن الموشومة بحراق عنف التسلط الفاشي السياسي والديني.
هكذا بفضل قوة نبلهن التراجدي في الاستماتة والصراع، أسسن أرضية لتاريخ النساء الذي ظل مطموسا ومغيبا ومهمشا…
أولا / سؤال النسوية في التجربة السودانية
أ) النظرية في الممارسة
لا يستطيع القارئ أن يتجاهل الكثير من الأسئلة التي تفجرها نصوص المقالات العميقة، لهذا الكتاب، المفعمة بالخبرة والتجربة الذاتية، في مقاومة الحياة العارية التي فرضتها فاشية نظام عسكري إسلاموي. مدمر ومفكك وممزق لوحدة البلد ولحمة نسيجه الاجتماعي، في مكوناته وهوياته الاجتماعية والثقافية واللغوية والدينية المتعددة والمتنوعة، كثراء متجذر في الرأسمال الاجتماعي والرمزي والثقافي والحضاري للبلد ككل.
مع صفحات الكتاب يتبلور السؤال المركزي في كون التجربة النضالية لهؤلاء النساء، جديرة بأن تكون أرضية لسؤال النسوية. ليس فقط في تاريخ السودان الحديث والمعاصر، بل أيضا جزءا من التراث العالمي الذي كونته وطورته وساهمت في إنتاجه الكثير من النضالات والحركات النسوية عبر العالم. شعور معقول وسؤال جدير بالتفكير والبحث المعرفي النظري والسياسي، دون أن ينال من هذا الشعور إحساس بالنقص والتبخيس والدونية، إزاء تجارب وإنتاجات فكرية ومعرفية سياسية، لها علاقة تأسيسية بالشأن النسوي، الذي غالبا ما تتكئ فيه مجتمعات الجنوب الموصوفة بالمتخلفة أو العالم الثالث، على ما تحقق في داخل الدول المتقدمة. الشيء الذي يعد هدرا لتاريخ مشرق متوهج، ولتجارب وإنتاجات وإسهامات ونضالات نساء، الجنوب والأطراف الجسورات اللواتي صنعن تاريخا غيبه القهر بكل أقنعته ووجوهه التسلطية الطاغية والفظيعة.
لذلك كانت فكرة رائعة من طرف الكاتبة والمبدعة الخلاقة إشراقة مصطفى، ومن معها من النساء اللواتي قررنا كتابة سيرهن وتمثيلها مفهوميا بالفكر المتنور، والابداع الجميل الساحر الأخاذ. تجذيرا لدورهن في صناعة تاريخ بلدانهن الحديثة والمعاصرة. من خلال الكفاح والتضحيات الجسيمة للكثير من النساء اللواتي عانين في صمت من فظاعات التسلط السياسي والديني والمجتمعي الأبوي.
فجاءت صفحات الكتاب تعبيرا خالصا عن محرقة المحن التي اكتوت بنيرانها الكثير من النساء اللواتي غيبهن التاريخ الاستبدادي الابوي الذكوري. وهي صفحات مشرفة وجسورة في عمقها، وكبريائها النضالي، وفي تشكلها الفكري المعرفي، برؤية سياسية تدرك حجم التضحيات، وصعوبة انتزاع الحق والحقوق. كما أنها واعية بالآلام التي خلفتها سياسات الحياة العارية التي فرض على المجتمع، التسلط الأمني العسكري، و الديني الأبوي، وبشكل خاص ومضاعف على النساء.
بناء على هذا الفهم والتحليل، الذي تنبع أدواته ومفاهيمه من فصول الكتاب، وما احتواه من رؤى وأفكار وخلفيات نظرية وسياسية، قلنا بجدارة الندية في الحديث عن السؤال النسوي في التجربة السودانية مساواة بباقي التجارب النظرية والكفاحية، المشهورة والمعروفة التي نالها حظ تسليط الأضواء من طرف الكثير من الأقلام.
ب) من التجربة الذاتية الى ولادة الفرد
إذا كانت السيرة الذاتية والاعترافات واليوميات والمذكرات التي كتبتها الكثير من الأقلام الذكورية، قد حاولت تأسيس وبلورة نوع من الذاتية في الاعتراف بالذات، في هويتها، و بيوغرافيتها الخاصة، وتاريخها الشخصي، ونرجسيتها الداخلية المستقلة. فإن الكتابات النسوية على عمومها الأدبية والفكرية والسياسية تتأسس تبعا لهذا الأفق الذاتي، الى حد ما، يسمح بالحديث عن تكون وتطور الذاتية الواعدة ببروز الفرد في مجتمعاتنا. بمعنى أن فاعلية المرأة في هذا الاتجاه، هي ما يسوغ معرفيا وسياسيا وواقعيا الحديث عن ولادة الفرد في مجتمعاتنا.
ففي صفحات هذا الكتاب، وداخل مقالاته المختلفة يمكنني الحديث عن تجذر عميق للتجربة والخبرة في سياقات العذابات والمحن التي وشمت بالحديد والنار تاريخهن الفردي والجماعي. وهذا ما يمكن أن نقوله عن نضج التجارب الذاتية، بالنقيض مع العلاقات الاجتماعية السائدة. بشكل يسمح بتبلور حقيقي للبعد الذاتي للخصائص المعنوية والسياسية والاجتماعية لولادة الفرد. وهذا يعني قدرة هؤلاء النساء على خوض الصراع الفكري والاجتماعي والسياسي والوجودي، بوعي نسوي نقيض للقهر والتسلط، وكذوات مستقلة واعية بخطورة فخاخ اللاشعور الثقافي الجماعي والجمعي الذكوري، لكونه قهري وتسلطي ومانع للقبول والتقبل والاعتراف بالجدارة والقيمة الإنسانية للمرأة. لذلك تجد المرأة نفسها مكرهة على الكفاح للتغلب على الوصمة السيئة الاجتماعية التاريخية، التي حكمت عليها بمواقع التابع الذي لا يستطيع أن يتكلم. فالمهدور دمه والمستباح من الفقراء والمهمشين والأطفال والنساء والعمال والمزارعين…، هؤلاء المنسيون المغيبون نالوا اهتماما خاصا في كتابات ق غرامشي و فرانز فانون وسبيفاك في سؤالها الاستنكاري: هل يستطيع التابع أن يتكلم؟
كل المقالات في هذا الكتاب واعية بهذا البعد في التجربة والخبرة، لأن ذلك ما يسمح لها بالقطيعة مع التربة الأيديولوجية والمعرفية القهرية، سواء السياسية والدينية، أو الثقافية المجتمعية. وفي هذا الصراع، المحفوف بالقسوة والظلم والمحن والآلام، والخصب أيضا وعيا ومعرفة، الذي خاضته هؤلاء النساء، تأسست إمكانية بروز الفرد المتحرر من الكثير من العلائق الجماعية والجمعية التي تكبل ولادة الفرد في العطاءات والنضالات الفكرية والعملية للرجال، الذين غالبا ما يكرسون الأنظمة الرمزية والثقافية الذكورية، مهما كانت يساريتهم.
وفي الكتاب ما يشهد على عسر ولادة هذا الفرد في الاعلام البديل والثقافة الفكرية والسياسية البديلة. التي لا يتعدى سقفها الخجول والمحتشم الأسطوانة المشروخة في ربط تحرر النساء بالتحرر الاجتماعي السياسي، دون القدرة على الفهم والمعرفة والوعي أن الخلاص السياسي الاجتماعي لا يمكن أن يتحقق في ظل براديغم التابع المستباح، والمهدور القيمة والجسد والعقل والحرية والرغبة من النساء اللواتي يحملن في هذه الثقافة عار خطيئة الشرف والكرامة الأبوية.
والجميل في هذا الكتاب أن كل مقالة لها بعدها الذاتي الخاص في التمثل والتمثيل، لخبرتها وآلامها التي وشمت الأعماق، وفجرت وعيا فكريا وسياسيا لمحنتها. فرغم القواسم المشتركة في جحيم المحنة في الصراع ضد مثلث الموت والقهر والنفي والتهجير والإقصاء، الأمني العسكري والديني والمجتمعي، فإننا نلمس ونعايش ذاتيات جميلة ومؤلمة في التعاطي مع معضلات وإكراهات وعوائق إطلاق الطاقات الحية لفعلهن وح
ضورهن الاجتماعي السياسي والثقافي. فكل مقالة لها فرادتها المتميز في الاسهام في تكون وتطور بعدها الفردي في انتزاع حقها كذات حرة مستقلة.
ج) من الوعي الأنثوي إلى الوعي النسوي
“تشارك النساء لتجاربهن الحياتية، ومقاومتهن المستمرة هو أساس تشكل الوعي النسوي، الذي أعول عليه كثيرا في كسر الحواجز الموضوعة أمامنا.”52
تأتي عملية تمثيل وتوثيق هؤلاء النساء لتجاربهن المؤلمة، في الصراع ضد القمع والقهر، بمختلف أشكاله ومصادره، من الأسرة والمجتمع الى جهاز الدولة القمعي بطبيعته الاجتماعية والسياسية التسلطية. وعيا منهن بضرورة تحويل حكيهن الشفوي، المتجذر في التاريخ المقموع، و المشحون بالعذابات والآلام، الى معرفة تسهم في التغيير الذاتي و الاجتماعي.
“كما أنني أنظر لسرد تجارب النساء، وتوثيقها كفعل تغيير اجتماعي، وأيضا كفرصة لخلق فضاء معرفي نسوي يستند على تجارب النساء الحياتية اليومية، لأن التجارب الذاتية هي مصدر أصيل للمعرفة.”26 وهذا البعد الذاتي الذي أشرنا إليه، وبينا أهميته ودوره في تقوية البعد الفردي في فهمهن للعلاقات الاجتماعية البديلة عما تعد به الرؤى الفكرية السياسية الأيديولوجية لليسار، الغارق في سطوة تغلب النزعة الذكورية المتقاطعة أصلا مع الاستبداد السياسي والديني والثقافي المجتمعي.
فوعيا منهن بضرورة الاشتغال على ذواتهن، استطاعت هؤلاء النساء بلورة وعي نسوي، يتخطى ثقافة القمع التي تتستر وراء قيم العيب والعار والفضيلة ومكارم الأخلاق القهرية الذكورية. وهذا الاختيار في الاشتغال على الذات في تجاربها ومعاناتها وآلامها، وطموحاتها وآمالها، هو ما يسمح بامتلاك معرفة وفكر نقدي قادر على الشك والنقد واكتشاف عمق معنى المشروع، ليس سوانا يكتب سيرتنا، الذي انطلق مع ورشات الكتابة/ التعافي التي أثمرت الثلاثية ” نون المنفى، قهوة في ذاكرة المنافي، وسيرتنا،.
“كيف نفكر في ذواتنا كنساء؟
سيحضرني سؤال هنا: تفكر نساء السودان في ذواتهن؟ كيف يفكرن في مشكلاتهن، ومشكلات النساء الأخريات، البعيدات عنهن على مستوى انتماءاتهن الطبقية، والاجتماعية والاثنية؟ والقريبات أيضا على مستوى هذه الانتماءات. وكيف تشكل عملية فهم الذات هذه واقعا مشتركا، أو منفصلا يوحدهن، أو يفرقهن؟ والأهم كيف يسهم هذا الفهم في خلق وعي نسوي يهدف لاستعادة الحقوق المسلوبة، ورفع التمييز، والظلم من على عاتق النساء؟”29
وهذا ما سمح لهن بفهم كيفية امتداد الثقافة والعقلية الذكورية الى النساء. حيث يسقطن في نوع من الهدر الذاتي، الشيء الذي لا يمكنهن من التخلص من حدود ومحدودية الوعي الأنثوي، كما صاغت مقولاته النمطية الثقافة والعقائد الذكورية التي تفرض أحكامها ومعاييرها المسيجة دينيا، قهرا للنساء باسم الشريعة، تعمية وتغطية للتحكم السياسي البشري. هكذا يتم التستر على كم هائل من العنف المتضمن في تشريعات وقوانين، لا يخجل فيها رجال السلطة والدين من جلد النساء ظلما وعدوانا، وابتزازا وتحرشا واغتصابا واستباحة لأجساد وأرواح وكرامة النساء.
الاشتغال على خبراتهن وذواتهن، عمل على بلورة معرفة ووعي نقديين تجاه الثقافة السياسية والأخلاقية والدينية، التي تمارس في حقهن نوعا من الاسترقاق الاجتماعي والسياسي. يحرمهن من حريتهن في امتلاك ألجسد والذات والانتماء الإنساني. لذلك لم يكن غريبا أن يتطور في نضالات النساء السودانيات وعيا نسويا، بضرورة التخلص من الوعي الأنثوي الموروث باسم التغلب والقهر السلطوي والديني الأبوي.
ثانيا / قانون النظام العام بوصفه سياسة الحياة العارية
كان من النتائج الكارثية التي خلفتها سياسات الفاشية العسكرية، التي سطت على السلطة في انقلاب عسكري، تفكك البلد وانتشار النزاعات والحروب في مختلف الجهات والاقاليم، واضطرار السكان للهجرة الداخلية والخارجية، و سيادة التفقير والبؤس والتهميش. ومختلف الهشاشات الاجتماعية والصحية والتعليمية. بالإضافة الى بروز طواهر اجتماعية من التفقير المدقع دفعت النساء الى ممارسات أنشطة اقتصادية، غير مهيكلة رسميا، في الشارع العام، وذلك بحثا وضمانا للقمة العيش التي لم تستطع الدولة توفيرها كحق من حقوق الإنسان.
وللتغطية والتعمية عن كل هذه النتائج البشعة لجأت الدولة بمباركة إيديولوجية سياسية من الاسلامويين الى سن قانون سيء الذكر، سمي بقانون النظام العام. وهو آلية سياسية مؤسسية لتسويغ وشرعنة عنف السلطة ضد المواطن، خاصة النساء. وهذا القانون يعبر صراحة عن سلب الحريات الفردية والجماعية، المدنية والسياسية. والتحكم القهري في أجسادهم وأرواحهم، الى درجة الوصاية الأخلاقية في كل ما يتعلق بتفاصيل الحياة اليومية، فيما يتعلق باللباس والكلام والحركة، وشكل الحضور في الفضاءات العامة. مع مراقبة أيضا ما يحدث داخل المنازل من تجمعات وحفلات ومختلف أنواع التفاعلات والعلاقات الاجتماعية.
والخطير في الامر أننا أمام قانون شكل أرضية للحياة العارية التي لا تعترف بالمواطن بوصفه إنسانا حرا مستقلا، بل هو مجرد شيء تمتلكه الدولة، وتتصرف فيه كما تشاء. كما تحدد سلوكه القويم، و مصلحته، تبعا للأوامر والنواهي القانونية، التي عليه تطبيقها وتنفيذها دون أي حق في الرفض والرد والنقاش. فجهاز الدولة الأمني هو وحده العالم والعارف بالصواب والخطأ، وبالصراطات المستقيمة المتعلقة باللباس المحتشم والمقبول أخلاقيا، ونوع المشي المسموح به. إنه تحكم بالأجساد والعقول والأرواح.
لهذا لا يعترف قانون النظام العام بالمواطن كضحية، بل شيئا تافها يمكن لكل أجهزة السلطة التصرف في جسده وروحه. لذلك تعرضت النساء للاعتقالات والاغتصابات والمطاردات اليومية. إما بسبب كونهن يمارسن أنشطة للعيش والبقاء، كبيع الشاي والطعام…، أو بسبب نوع اللباس …
لا تحتاج أجهزة القمع في تطبيقها لقانون النظام العام الى مبررات أو مسوغات أو حجج قانونية لتبرير اعتداءاتها على الناس، خاصة الفئات المهمشة والفقيرة، والهاربة من مناطق الحروب والنزاعات والابادات. وهي اعتداءات باسم الدولة وقانونها التشريعي والشرعي الديني، التي تمس بنسبة كبيرة النساء.
وقد حاولن التصدي لهذا القانون الظالم، رغم قساوته وبشاعته، بأساليب مختلفة من الفضح والمقاومة وتعرية الحقائق والأسباب الحقيقية لاضطرار النساء لممارسة أنشطتهن المعيشية في الشارع، أو لانتزاع حق الحضور في الفضاءات العامة، أو لحرية الزي/اللباس والحركة، دون حسيب ولا رقيب أخلاقي شرعي.
“وبالتأكيد إلغاء هذه القوانين يتطلب وجود مؤسسات ديمقراطية، وتشريعات تضع في اعتبارها معايير حقوق الانسان، والكرامة الإنسانية، لكن الرفض اليومي لممارسات هذه المؤسسات، والتأكيد الدائم على حقنا في ممارسة خياراتنا الشخصية هو بداية الخلاص. وعادة ما تتحول هذه المقاومات الفردية لفعل جماعي مقاوم.”51
ثالثا/ القوانين الفاشية للعسكر باعتبارها شريعة دينية
في تاريخ السودان الحديث والمعاصر عاش ويعيش الشعب، منذ الانقلاب العسكري في بداية الثمانينات، تجربة حارقة موجعة وبشعة على كل المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. واستند قمع العسكر في تحالفه مع الإسلامويين، على قوانين الشريعة في تبرير وشرعنة القهر والحط من قيمة الانسان خاصة النساء. لذلك عانت النساء من هذه القوانين الظالمة وما أنتجته من ممارسات قمعية عنصرية واضطهادية. ومع ذلك لم تستسلم المرأة السودانية لكل هذه البشاعات والفظاعة في المس بالحرية والكرامة والعدالة.
فالكتاب يزخر بالمواقف المشرفة التي قامت من خلالها النساء بفضح وتعرية الظلم والقهر والقمع السياسي العميق الذي يهدف من خلاله نظام العسكر الى دوام سيطرته، وتأبيد تحكمه في البلد والشعب بشكل استبدادي تسلطي. وفي علاقة هؤلاء النساء بقوانين العسكر المقنعة بالدين ما يعري ويكشف حجم وشدة عنف السلطة اللاأخلاقي في حق النساء والشعب عموما. لذلك وثقت نصوص الكتاب لبشاعة هذه القوانين المشحونة بالعنف السياسي والاجتماعي والاقتصادي. كما أتت كل المقالات على طبيعة النظام الفاشي للعسكر المسؤول عن تفكك البلاد وانتشار الحروب والتخلف والكراهية والعنصرية والظلم. وفي هذا السياق من توثيق المرحلة التاريخية وتجاربهن وخبراتهن في علاقتهن بمختلف السلط القهرية الظالمة السياسية والدينية والمجتمعية والثقافية، كشفت هؤلاء النساء الجسورات عن محدودية السقف التشريعي والشرعي الديني. وعجز هذا التأويل الاستبدادي القروسطي للدين على وعي وفهم واقع اللحظة التاريخية، وما يميزها وطنيا وإقليميا وعالميا من تحولات على كل الأصعدة. بحيث لم يعد مقبولا قانونيا وأخلاقيا ومعرفيا ودينيا وسياسيا أن يتحكم نظام قمعي ديني في حياة الناس، حرياتهم وكرامتهم وعدالتهم، باسم الوصاية والحاكمية الدينية والشرعية.
هكذا تمرست المرأة السودانية على المواجهة والتحدي، في ظل أي سند مادي أو معنوي من القوى البديلة، المشبعة بنزعة التغلب والقهر الذكوري. لذلك واجهت النساء وحدهن، بشجاعة مختلف الاعتداءات الوحشية من الاغتصابات والاعتقالات والتشهير…
وخلال الثورة التي شاركن فيها ببسالة كنساء جسورات قادرات على صناعة التاريخ، خاصة في الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية. وبتحد رفضن الانسحاب، ولو مر الطغاة وصمت الأصدقاء والرفاق على أجسادهن الطاهرة والعظيمة كرامة وخلقا وقناعة بالحق الإنساني للشعب في العيش في وطن حر ديمقراطي للجميع.
الهامش
“سودانيات جسورات ضد العنف” تنسيق وإشراف د إشراقة مصطفى حامد، ط1س 2023